غزة.. البقعة التي هزمت الاستخبارات الإسرائيلية: لماذا فشل الموساد والشاباك قبل الطوفان وبعده؟
حلمي الاسمر
منذ أن سقطت أسطورة «الجيش الذي لا يُقهر» في سابع أكتوبر، انكشفت معها أسطورة أخرى كانت أكثر رسوخًا في المخيلة الإسرائيلية: أسطورة “الاختراق الكامل”. كانت إسرائيل تظن أن عيونها وأذنيها تمتد إلى كل مكان، وأنها تعرف كل نبضة تتحرك خلف حدودها، لكن غزة الصغيرة – المحاصَرة والمنهكة – حوّلت أجهزة الاستخبارات الإسرائيلية إلى عميان في وضح النهار.
ما قبل الطوفان: حين أغمضت إسرائيل عينيها عن الحقيقة
سنوات طويلة بنت إسرائيل جهازًا استخباراتيًا متعدد الرؤوس: الموساد للعالم الخارجي، الشاباك للداخل، و”أمان” للجيش. هذا التوزيع لم يكن تنسيقًا بل تناحرًا. كل جهاز يحرص على احتكار المعلومة، وعلى أن يبقى “الذراع الأقوى” أمام السياسيين. والنتيجة أن غزة سقطت في فجوةٍ بين تلك الأجهزة؛ لا هي “خارجية” للموساد، ولا “داخلية” خالصة للشاباك، ولا “ميدانية” بحتة للجيش.
يوسي كوهين، رئيس الموساد السابق، قالها بوضوح بعد خروجه من منصبه: “لدينا معدات مخترقة في كل بلد يمكن تخيله… ما عدا غزة. ليس بما فيه الكفاية.”
كانت تلك الجملة بمثابة اعتراف رسمي بأن “المنطقة الأهم” أمنياً بالنسبة لإسرائيل ظلت خارج تغطية العين التكنولوجية الإسرائيلية.
لم يكن الفشل وليد اللحظة. منذ سنوات اعتمدت تل أبيب على قراءةٍ خاطئةٍ لسلوك حماس، إذ افترضت أن الحركة لا تريد سوى إدارة حكمٍ هادئ في القطاع، وأنها فقدت شهية الحرب. هذا التحيز المعرفي قاد إلى نومٍ استخباراتي عميق، فتجاهلت إسرائيل الإشارات المتراكمة: تدريبات، تجارب ميدانية، حفر أنفاق جديدة، وتدفق مفاجئ في قدرات التصنيع العسكري.
لكن في غرف التحليل الإسرائيلية، كانت كل تلك المؤشرات تُفسَّر بأنها “روتين دفاعي”، لا استعداد لهجوم.
أوهام التكنولوجيا وفقر المعلومة البشرية
الجيل الجديد من قادة الاستخبارات الإسرائيلية كان مهووساً بالتقنيات: الأقمار الصناعية، التنصّت، الذكاء الاصطناعي، تحليل البيانات. غير أن هذه الأدوات لا تكشف النية، ولا تتسلل إلى عقل المقاتل الذي يخطط في صمت تحت الأرض.
غزة، بنسيجها الاجتماعي المغلق، نجحت في طرد العيون المزروعة. جواسيس أُعدِموا، وآخرون كُشفوا قبل أن يرسلوا معلومة واحدة. أصبح العمل البشري الاستخباري شبه مستحيل.
أما التنصت الإلكتروني فقد تحطم على جدار عبقرية هندسية قاتمة: شبكة أنفاق تمتد تحت كل بيت، واتصالات مشفَّرة داخلية بلا أثر خارجي.
حماس فهمت أن الحرب الحديثة تبدأ من أمن المعلومات، فحوّلت القطاع إلى “غرفة عزل إلكتروني”. حينها لم يكن في يد إسرائيل سوى مراقبة ضوضاء رقمية بلا مضمون.
ما بعد الطوفان: فشل أعظم وسط الركام
بعد السابع من أكتوبر، حين فقدت إسرائيل السيطرة على الأرض والهيبة معًا، اعتقدت أن بإمكانها استعادة التفوق عبر العلم والاستخبارات. استخدمت أقمارها وطائراتها وطواقم تحليلها، لكنها عجزت عن تحديد موقع أسير واحد في قبضة المقاومة، رغم مرور عامٍ على الحرب.
السبب ليس فقط تعقيد الأنفاق أو إغلاق الاتصالات، بل لأن حماس تعاملت مع ملف الأسرى كـ”قدس أقداسها الأمنية”. لا أحد يعرف مواقعهم سوى دوائر محدودة جدًا، تتبدل باستمرار. في المقابل، حاولت إسرائيل زرع أجهزة تتبع واختراق إلكتروني داخل القطاع، لكنها فشلت كما فشلت قنابلها في فك شيفرة الأرض.
في الإعلام العبري، ظهرت اعترافات صريحة: “نحن لا نعرف أين هم، ولا نملك خريطة تحدد مواقع الأسرى.”
حتى الذكاء الاصطناعي الذي بشّروا به لتحديد الأنفاق أخطأ أكثر مما أصاب.
لقد اكتشفت إسرائيل متأخرة أن القوة العلمية بلا عينٍ بشريةٍ على الأرض لا قيمة لها.
الفشل المركّب: بين الغرور والعمى الاستراتيجي
الفشل الإسرائيلي في غزة لم يكن استخبارياً فقط، بل حضارياً أيضاً. غرور القوة جعلهم يظنون أن التكنولوجيا يمكن أن تحلّ محل الإنسان، وأن السيطرة ممكنة عبر الأقمار لا عبر الفهم.
لكن غزة ليست هدفاً إلكترونياً؛ إنها كائن اجتماعي متشابك، يتنفس من تحت الأرض، ويقاوم بأعصابٍ فولاذية، وينام في حضن شعب يعرف أن المعلومة هي سلاح البقاء.
لقد هزمت غزة نظرية الأمن الإسرائيلي من الداخل: من بنية التفكير، من طريقة التحليل، من الغرور الذي يجعل الأعمى يظن نفسه مبصرًا.
وحين تعجز إسرائيل عن استرجاع أسير واحد رغم آلاف الطائرات والجنود والأجهزة، فذلك يعني أن غزة أصبحت خارج الجغرافيا الاستخباراتية لإسرائيل — مساحة لا تخترقها التكنولوجيا ولا الخيانة.
في النهاية، يمكن القول إن الموساد لم يُهزم في غزة لأنه قصّر، بل لأن غزة تجاوزت حدوده العقلية.
فالحرب لم تعد بين أجهزة ومقاتلين، بل بين منظومة تؤمن بالمعلومة ومنظومة تؤمن بالمعنى.
والمعنى — كما أثبتت غزة — أقوى من كل أقمار إسرائيل الصناعية.
حلمي الاسمر
منذ أن سقطت أسطورة «الجيش الذي لا يُقهر» في سابع أكتوبر، انكشفت معها أسطورة أخرى كانت أكثر رسوخًا في المخيلة الإسرائيلية: أسطورة “الاختراق الكامل”. كانت إسرائيل تظن أن عيونها وأذنيها تمتد إلى كل مكان، وأنها تعرف كل نبضة تتحرك خلف حدودها، لكن غزة الصغيرة – المحاصَرة والمنهكة – حوّلت أجهزة الاستخبارات الإسرائيلية إلى عميان في وضح النهار.
ما قبل الطوفان: حين أغمضت إسرائيل عينيها عن الحقيقة
سنوات طويلة بنت إسرائيل جهازًا استخباراتيًا متعدد الرؤوس: الموساد للعالم الخارجي، الشاباك للداخل، و”أمان” للجيش. هذا التوزيع لم يكن تنسيقًا بل تناحرًا. كل جهاز يحرص على احتكار المعلومة، وعلى أن يبقى “الذراع الأقوى” أمام السياسيين. والنتيجة أن غزة سقطت في فجوةٍ بين تلك الأجهزة؛ لا هي “خارجية” للموساد، ولا “داخلية” خالصة للشاباك، ولا “ميدانية” بحتة للجيش.
يوسي كوهين، رئيس الموساد السابق، قالها بوضوح بعد خروجه من منصبه: “لدينا معدات مخترقة في كل بلد يمكن تخيله… ما عدا غزة. ليس بما فيه الكفاية.”
كانت تلك الجملة بمثابة اعتراف رسمي بأن “المنطقة الأهم” أمنياً بالنسبة لإسرائيل ظلت خارج تغطية العين التكنولوجية الإسرائيلية.
لم يكن الفشل وليد اللحظة. منذ سنوات اعتمدت تل أبيب على قراءةٍ خاطئةٍ لسلوك حماس، إذ افترضت أن الحركة لا تريد سوى إدارة حكمٍ هادئ في القطاع، وأنها فقدت شهية الحرب. هذا التحيز المعرفي قاد إلى نومٍ استخباراتي عميق، فتجاهلت إسرائيل الإشارات المتراكمة: تدريبات، تجارب ميدانية، حفر أنفاق جديدة، وتدفق مفاجئ في قدرات التصنيع العسكري.
لكن في غرف التحليل الإسرائيلية، كانت كل تلك المؤشرات تُفسَّر بأنها “روتين دفاعي”، لا استعداد لهجوم.
أوهام التكنولوجيا وفقر المعلومة البشرية
الجيل الجديد من قادة الاستخبارات الإسرائيلية كان مهووساً بالتقنيات: الأقمار الصناعية، التنصّت، الذكاء الاصطناعي، تحليل البيانات. غير أن هذه الأدوات لا تكشف النية، ولا تتسلل إلى عقل المقاتل الذي يخطط في صمت تحت الأرض.
غزة، بنسيجها الاجتماعي المغلق، نجحت في طرد العيون المزروعة. جواسيس أُعدِموا، وآخرون كُشفوا قبل أن يرسلوا معلومة واحدة. أصبح العمل البشري الاستخباري شبه مستحيل.
أما التنصت الإلكتروني فقد تحطم على جدار عبقرية هندسية قاتمة: شبكة أنفاق تمتد تحت كل بيت، واتصالات مشفَّرة داخلية بلا أثر خارجي.
حماس فهمت أن الحرب الحديثة تبدأ من أمن المعلومات، فحوّلت القطاع إلى “غرفة عزل إلكتروني”. حينها لم يكن في يد إسرائيل سوى مراقبة ضوضاء رقمية بلا مضمون.
ما بعد الطوفان: فشل أعظم وسط الركام
بعد السابع من أكتوبر، حين فقدت إسرائيل السيطرة على الأرض والهيبة معًا، اعتقدت أن بإمكانها استعادة التفوق عبر العلم والاستخبارات. استخدمت أقمارها وطائراتها وطواقم تحليلها، لكنها عجزت عن تحديد موقع أسير واحد في قبضة المقاومة، رغم مرور عامٍ على الحرب.
السبب ليس فقط تعقيد الأنفاق أو إغلاق الاتصالات، بل لأن حماس تعاملت مع ملف الأسرى كـ”قدس أقداسها الأمنية”. لا أحد يعرف مواقعهم سوى دوائر محدودة جدًا، تتبدل باستمرار. في المقابل، حاولت إسرائيل زرع أجهزة تتبع واختراق إلكتروني داخل القطاع، لكنها فشلت كما فشلت قنابلها في فك شيفرة الأرض.
في الإعلام العبري، ظهرت اعترافات صريحة: “نحن لا نعرف أين هم، ولا نملك خريطة تحدد مواقع الأسرى.”
حتى الذكاء الاصطناعي الذي بشّروا به لتحديد الأنفاق أخطأ أكثر مما أصاب.
لقد اكتشفت إسرائيل متأخرة أن القوة العلمية بلا عينٍ بشريةٍ على الأرض لا قيمة لها.
الفشل المركّب: بين الغرور والعمى الاستراتيجي
الفشل الإسرائيلي في غزة لم يكن استخبارياً فقط، بل حضارياً أيضاً. غرور القوة جعلهم يظنون أن التكنولوجيا يمكن أن تحلّ محل الإنسان، وأن السيطرة ممكنة عبر الأقمار لا عبر الفهم.
لكن غزة ليست هدفاً إلكترونياً؛ إنها كائن اجتماعي متشابك، يتنفس من تحت الأرض، ويقاوم بأعصابٍ فولاذية، وينام في حضن شعب يعرف أن المعلومة هي سلاح البقاء.
لقد هزمت غزة نظرية الأمن الإسرائيلي من الداخل: من بنية التفكير، من طريقة التحليل، من الغرور الذي يجعل الأعمى يظن نفسه مبصرًا.
وحين تعجز إسرائيل عن استرجاع أسير واحد رغم آلاف الطائرات والجنود والأجهزة، فذلك يعني أن غزة أصبحت خارج الجغرافيا الاستخباراتية لإسرائيل — مساحة لا تخترقها التكنولوجيا ولا الخيانة.
في النهاية، يمكن القول إن الموساد لم يُهزم في غزة لأنه قصّر، بل لأن غزة تجاوزت حدوده العقلية.
فالحرب لم تعد بين أجهزة ومقاتلين، بل بين منظومة تؤمن بالمعلومة ومنظومة تؤمن بالمعنى.
والمعنى — كما أثبتت غزة — أقوى من كل أقمار إسرائيل الصناعية.