كيف تصنع "إسرائيل" ميليشيات تُقاتل بالنيابة عنها؟
أميرة فؤاد النحال
حين تَسكت المدافع لا يعني أن الحرب انتهت؛ أنّما تغيّرت أدواتها، ما يحدث الآن هو محاولة لإعادة صناعة العدو داخل المجتمع ذاته، ففي لحظةٍ تركن فيها الطائرات إلى صمتٍ مفروض، لا يختفي السؤال: كيف تُحافظ سياسات الاحتلال على خطوطها الخلفية عبر أدوات محلية تبدو مستقلة؟ هذه المقالة لا تبحث عن السرد الاعتيادي لخرائط الراجمات والبنية العسكرية، أنّما عن «صناعة الفتنة» التي تُجرى خارج الرؤية الرسمية، من شبكة من ميليشيات، جمعيات واجتماعات ظاهرة، وسموم إفتراضية تُعاد إنتاجها لنسخ العنف بصيغة محليّة، حرب بالوكالة في زمن وقف النار.
في مرحلة ما بعد القصف، تنتقل "إسرائيل" من الاحتلال الصريح إلى ما يمكن تسميته بالاحتلال المُزوِّد؛ احتلال لا يحتل الأرض مباشرة، إنّما يزوّد غيره بالأدوات والخطابات والتمويل ليقوم بالمهمة، إنه انتقال من السيطرة العسكرية إلى هندسة الفوضى الداخلية، حيث تُصاغ ميليشيات بأسماء محلية وأهداف وطنية ظاهراً، لكنها تُدار من غرف عمليات خارجية لا ترى النور.
يمكن اعتبار هذا تحوّل في بنية الحرب نفسها؛ من المواجهة المسلحة إلى حرب التفريق الاجتماعي، التي تزرع بذور الشكّ داخل كل جبهة، وتُضعف الثقة بين المواطن والمقاومة، وبين المجتمع وذاته، إنها محاولة لجعل الفلسطيني يقاتل الفلسطيني، ومع إدراك المقاومة لهذا النمط من الحرب، تعيد ترتيب أولوياتها من الردّ على القصف إلى تحصين وعي المجتمع، حيث تكون أولى خطوات الردع هي الفضح، وأولى مراحل الضرب من حديد هي كسر الوهم بأن هذه الميليشيات محليّة الولاء.
الوكلاء أداة الاحتلال الجديدة
منذ عقود اعتمدت "إسرائيل" على تفوّقها العسكري لفرض معادلة الردع، لكن معركة الطوفان وما تبعها من انهيارات استخباراتية جعلت "تل أبيب" تعيد التفكير في أدواتها، فحين فشلت آلة الحرب المباشرة في تحقيق أهدافها، لجأت إلى هندسة المجتمع الفلسطيني نفسه كساحةٍ بديلة للقتال، وهنا ولدت فكرة "الميليشيا الوكيلة" أداة تجمع بين الظلّ والشرعية الشكلية، لا تحمل علم الاحتلال، لكنها تنفّذ أجندته حرفياً، حيث تُثير الفتن، تبثّ الإشاعات، وتُعيد تدوير الانقسام في خطابٍ سياسيٍّ داخلي يبدو في ظاهره خلافاً وطنياً، لكنه في جوهره تمويهٌ للسيادة.
فتمويه السيادة هو أخطر أشكال الاحتلال الناعم، بأن تُخلق كيانات تبدو وطنية الهوية، تحمل لافتاتٍ محلية وشعاراتٍ ثورية، بينما تموَّل وتُدار عبر قنوات استخبارية وأذرع مدنية مموّهة، هنا لا يعود الاحتلال بحاجةٍ إلى جنوده كي يُخضع الجبهة الداخلية، بل يكفيه أن يخلق خصوماً من الداخل يشغلون الناس بأنفسهم ويستنزفون وعيهم.
تُستبدل الجيوش بالمنصات، والدبابات بالمحتوى الموجَّه، والقصف بتسريبٍ إعلاميٍّ محسوب يزرع الشكّ في المقاومة وقيادتها، في هذه المعادلة، يصبح الوكيل المحلي المقاتل بالنيابة، مدافعاً عن مصالح الاحتلال الذي وعده بموقعٍ أو سلطة أو بقاء، لكن خطورة هذه الأداة تكمن في قدرتها على التخفّي، فهي تُمثل شبكة سيولة اجتماعية تتوزّع بين خطاب، وتمويل، ومنصّات رقمية، وحاضناتٍ مدنية تُسوّقها كجزءٍ من الحياة السياسية.
وهكذا يتقدّم الاحتلال خطوةً إلى الوراء عسكرياً، لكنه يمدّ جذوره في العمق الاجتماعي، ليحوّل الهزيمة الميدانية إلى نصرٍ إدراكي، فحين يفقد الفلسطيني ثقته بمقاومته، أو يُقنع بأن الانقسام قدرٌ أبدي، يكون الاحتلال قد حقق ما عجزت عنه القذائف.
آليات الصنع: المال، الخطاب، والمنصّات
تبدأ الميليشيات بالمال، فحين تُفتح القنوات المموّهة تحت عناوين إغاثة، وتأهيل، وتنمية محلية، تكون البذرة قد زُرعت، هناك في الهامش الإنساني، تُنشأ أولى شبكات الولاء من مجموعات تتلقّى التمويل عبر واجهاتٍ مدنية ظاهرها المساعدة وباطنها الإخضاع، فيتحوّل الاحتياج إلى وسيلة استقطاب، وبهذه الصيغة تُدار الهندسة الهادئة للفوضى، الأموال تُضخّ وتُوزّع وفق خريطةٍ مرسومة بعناية على مناطق التوتر والفراغ الأمني: الشمال، وشرق مدينة غزة، ووسط خان يونس، وشرق رفح، وهي المناطق التي أشار إليها موقع هسكوفيم العبري بوصفها ساحاتٍ تنشط فيها أربع ميليشيات فلسطينية معارضة لحماس، يقودها ياسر أبو شباب، حسام الأسطل، رامي حلس، وأشرف المنسي، أسماء محلية لكن التمويل خارجي، والقرار يُطبخ في غرف استخباراتٍ تتقن العمل من وراء الستار.
ولأن "إسرائيل" تدرك حساسية المشهد، فهي لا تُعلن هذه المشاريع بصورتها الحقيقية، إنها تُمارس ما تسميه الكاتبة "تمويه السيادة"، من خلال خلق كيانات تبدو مستقلة، ترفع راياتٍ وطنية، لكنها تتحرك بإملاءاتٍ مرسومة مسبقاً، حتى الخطاب الصهيوني الداخلي لا يخفي ذلك تماماً؛ فقد خرج أفيغدور ليبرمان، رئيس الوزراء السابق، ليُقرّ بأن الحكومة وزّعت "سلاحاً ومعدات على ميليشيات إرهابية في غزة"، واصفاً ذلك بـ"الإهمال الإجرامي"، بدا كمن يكشف المستور أكثر مما يعترض، في لحظة واحدة تحوّل الإنكار إلى اعتراف ضمني بأن المشروع قائم فعلاً، وأن الاحتلال بات يعتمد على قوةٍ بالوكالة لإدارة ما فشل في إخضاعه بالقوة المباشرة.
لكن المال وحده لا يصنع ميليشيا؛ يحتاج إلى خطابٍ يغذّيها ويمنحها الشرعية، وهنا تدخل مرحلة تغذية الكراهية المقنّنة، عبر حملاتٍ رقمية منظمة، تُبثّ روايات تُصوّر المقاومة كمصدر للفقر والمعاناة، وتعيد تدوير مشاعر الغضب إلى اتهامات متبادلة، وفي قلب المشهد تتحرّك جيوش الحسابات الوهمية التي يديرها عملاء الاحتلال عبر شبكة "أفيخاي" الشهيرة، حسابات تحمل أسماء عائلات مقدسية أو ضفاوية معروفة، تكتب تعليقاتٍ مسيئة لأهل غزة، لتبدو الفتنة وكأنها تنبع من عمق المجتمع الفلسطيني نفسه.
من يقرأ هذه المنشورات يظنّ أن بين غزة والضفة ناراً كامنة، لكن من يتتبّع مصدرها يدرك أن وراءها ماكينة استخباراتية محترفة، إنها الميليشيا الرقمية التي لا تطلق النار، لكنها تُطلق الكلمة المسمومة، وتزرع بذور الشكّ بين الشقيقين، بعض تلك الحسابات لا يتجاوز عدد أصدقائها خمسة أو ثمانية، لكن كلٌّ منها صُمّم بعناية لتبدو حقيقية بالقدر الكافي لزرع الشرخ، هذا هو شكل الحرب الجديدة، لا دخان، لا صاروخ، فقط منشورٌ محسوب يُعيد رسم خريطة الانقسام.
في هذا المشهد المركّب، تتقاطع الأموال مع الخطاب والمنصّات لتُنتج ما يمكن تسميته بالفتنة المركّبة، من خلال تمويلٌ يغذّي، خطابٌ يُسوّغ، وفضاءٌ رقمي يُفخّخ الوعي، فتصير الميليشيا نظام تأثيرٍ متكامل؛ يمتد من البنك إلى الموقع الإلكتروني.
وحين تسأل: أين إسرائيل من كل هذا؟ ستجدها تقف في الخلف، تمسك بالخيوط وتُدير المشهد ببرودٍ محسوب، هي لا تريد أن تُرى، إنّما تُريد أن تُشعر المجتمع أنه يُدمّر نفسه بنفسه، هذه هي العبقرية السوداء في مشروع الاحتلال الجديد، أن يبقى صانع النار خارج المشهد، فيما يشتعل الآخرون داخل مرآته.
النتائج المقصودة: إعادة إنتاج الهزيمة الاجتماعية
ما تبتغيه آليات التمويل والحديث والفضاء الرقمي هو إعادة كتابة معنى النصر، الفعل العسكري الذي كان يوحّد الصفّ ويعزّز الثقة بين المقاتل والمجتمع، يُستبدل بعملية متواصلة من التشكيك والتفكيك من قصص تُروى عن خيانة هنا، واتهامات بالفساد هناك، وشواهد ملفقة تُنسب للمقاومة تجعل من الإنجاز عبئاً يوجب التبرير بدلاً من أن يكون سبباً للفخر، هكذا تُفقد الانتصارات طاقتها الاسترجاعية، ويصير المجتمع أقل قدرة على تحويل المكسب العسكري إلى زخم سياسي واجتماعي مستدام.
نتيجة ثانية أعمق، فتحويل المقاومة من فاعلٍ مبادر إلى حالة دفاع دائم، حين تنشغل الحركة من أقصى قياداتها إلى قواعدها الشعبية، في معالجة شرخ داخلي يغذّيه مالٌ ومنصّات، فإنها تفقد عنصر المبادرة الاستراتيجية، بدلاً من شنّ حملاتٍ تُبطئ من قدرات الاحتلال أو تُعيد تشكيل ميزان القوى، تُستهلك الطاقة في رقعٍ محلية لإخماد حرائق صناعة الفتنة؛ وفي كل مرة تُطفأ فيها شرارة، تظهر ثلاث شرارات جديدة في أماكن أخرى، هذه الحالة -التي أسميها الانصراف الاستراتيجي- تُمثّل استنزاف للشرعية والوعي، المجتمع يبدأ بالتصديق أن الخطر الحقيقي ليس الاحتلال وأن المعركة الأساسية صارت داخلية.
هنا يعمل احتلال المزوّد بصورة مزدوجة حيث يحقق أهدافه التكتيكية بإضعاف الروابط الاجتماعية، ويحقق أهدافه الرمزية بجعل المقاومة تبدو عاجزة عن حماية النسيج الوطني، عندما يصبح التبرير السياسي أو الأخلاقي للعمل المقاوم مرهوناً بتبرئة النفس داخلياً، تُصبح الحياة السياسية رهينة سجالات لا تنتهي، والمقاومة تُحوَّل من مشروع تحرير إلى جهاز إدارة أزمات داخلية لا تنتهي.
الاستنتاج السياسي واضح ومخيف، فالهدف خلق ميليشيا تُمارس تحويل المشهد السياسي بأكمله إلى ساحة نزاع دائمة تُفقد فيها المقاومة مقومات المبادرة والشرعية، وهذا ما يجعل الضرب من حديد مشروعاً لإعادة بناء موازين القوة السياسية، إذا فشلت المقاومة في الانتقال من رد الفعل إلى خطة استباقية تحصّن الوعي وتقطع مصادر التمويل والتمويه، فإن النصر الميداني سيظل بلا ترجمة سياسية أو اجتماعية.
دور المقاومة؛ الردع الذكي والضرب من حديد
حين تشتعل حرب الوكلاء التي يُديرها الاحتلال عبر أدواته المحلية لا تكفي البندقية وحدها، فالمعركة الجديدة تُخاض في الوعي الذي يشكّل مناعة المجتمع، هنا تدرك المقاومة أن الردع أصبح ردعاً معرفياً وذكاءً سيادياً يتقن تفكيك الشبكات قبل أن تُصبح تهديداً ميدانياً، فالمعركة المقبلة هي ضد ميليشيا تحمل فكرةٍ تُساق بعبارات وطنية لتخترق الصف الوطني من الداخل.
الردع الذكي يبدأ من الفضح الاستباقي، أي كشف الخيوط الخفية لهذه الشبكات أمام الرأي العام، ووضعها تحت ضوء الحقيقة قبل أن تُنتج سرديتها الخاصة، حين تُعلن المقاومة عن مصادر التمويل، وأسماء الوسطاء، وأنماط الاختراق النفسي والإعلامي، هذه الخطوة تُسقط عن الميليشيات أقنعة الوطنية، وتحوّلها من جماعات تحمل خطاباً جذاباً إلى أدوات مكشوفة تعمل في سياقٍ استعماريّ مموه.
أما الضرب من حديد، فهو يُمثل هندسة ردعٍ دقيقة، فحين تُواجه المقاومة أي يد تعبث بالصف الوطني، عليها أن تجمع بين الردع الأمني والقانوني والإعلامي في معادلةٍ واحدة:
• أمنيّاً: عبر ملاحقة القيادات الميدانية المتورطة في الارتباط المباشر بالاحتلال.
• قانونيّاً: بتجريم أي نشاط يمسّ البنية الاجتماعية أو يحرّض على الفتنة.
• وإعلاميّاً: بكسر الروايات التي تُغذّي الانقسام، وتجريدها من مشروعيتها الأخلاقية أمام الجماهير.
إنّ الردع الذكي لا يكتفي بالمعاقبة، إنّما يبني الوعي كدرعٍ واقٍ؛ فكلّ حربٍ داخلية لا تُجهض في مهدها تتحول إلى معركةٍ طويلة مع الوعي نفسه، ولهذا كان الاستثمار في التماسك الاجتماعي جزءً من منظومة الأمن المقاوم، فالمقاومة التي تحصّن مجتمعها لا تمنع فقط تسلل المال والسلاح، بل تحرم الاحتلال من البيئة التي كان يعوّل عليها لإعادة إنتاج الانقسام.
وتدرك المقاومة أن "إسرائيل" في كل جولة تحاول تحويل الهزيمة الميدانية إلى نصرٍ اجتماعي عبر هذه الكيانات الوظيفية، ولذلك كان لزاماً أن تُطوّر أدوات المواجهة على مستويين متوازيين، الأول: المستوى الردعيّ الصلب الذي يتعامل مع العملاء وأدواتهم بلا هوادة، والثاني: المستوى الوعيانيّ المرن الذي يعيد تعريف المعركة في أذهان الناس، فيفصل بين النقد المشروع والتحريض المأجور، وبين الاختلاف السياسي والاصطفاف الاستعماري.
إنّ أكثر ما يُفشل مشروع الميليشيات البديلة هو القدرة على تجفيف المعنى الذي وُلدت منه، أي ذلك الشعور بالفراغ والريبة والخذلان، فحين يشعر المجتمع بأن المقاومة تملك مشروعاً جامعاً وعدالة في التعامل ومصداقية في الخطاب، تتآكل كل أدوات الفتنة من تلقاء نفسها، عندها يُصبح الردع حالة وعي عام لا مجرد قرار قيادي.
في معادلة ما بعد الحرب، أصبحت "إسرائيل" تراهن على القوة التآكلية التي تعمل من الداخل، بأسماء فلسطينية ولهجات مألوفة، إنها استراتيجية الاحتلال الجديد، هي أن يُقاتل الفلسطينيُّ الفلسطينيَّ دون أن يشعر أنه يؤدي وظيفةً استعمارية، لكنّ الوعي المقاوم حين يتحول إلى مؤسسةٍ يقظة، يُعيد الأمور إلى نصابها.
المقاومة اليوم أمام اختبار الوعي لا السلاح، بأن تثبت أن النصر لا يُقاس بعدد الصواريخ، إنّما بقدرتها على حماية النسيج الوطني من التفتت، وأن تردّ على حرب الوكلاء بحرب الوعي، حربٍ تُخاض بالكلمة الصادقة كما تُخاض بالرصاصة الدقيقة.
فحين تضرب المقاومة من حديدٍ وبوعيٍ معاً، تُفشل مشروع الاحتلال في تحويل النصر إلى فتنة، وتثبت أن المعركة الكبرى هي لتحرير الأرض وتحرير الوعي من وكلاء الهزيمة.
أميرة فؤاد النحال
حين تَسكت المدافع لا يعني أن الحرب انتهت؛ أنّما تغيّرت أدواتها، ما يحدث الآن هو محاولة لإعادة صناعة العدو داخل المجتمع ذاته، ففي لحظةٍ تركن فيها الطائرات إلى صمتٍ مفروض، لا يختفي السؤال: كيف تُحافظ سياسات الاحتلال على خطوطها الخلفية عبر أدوات محلية تبدو مستقلة؟ هذه المقالة لا تبحث عن السرد الاعتيادي لخرائط الراجمات والبنية العسكرية، أنّما عن «صناعة الفتنة» التي تُجرى خارج الرؤية الرسمية، من شبكة من ميليشيات، جمعيات واجتماعات ظاهرة، وسموم إفتراضية تُعاد إنتاجها لنسخ العنف بصيغة محليّة، حرب بالوكالة في زمن وقف النار.
في مرحلة ما بعد القصف، تنتقل "إسرائيل" من الاحتلال الصريح إلى ما يمكن تسميته بالاحتلال المُزوِّد؛ احتلال لا يحتل الأرض مباشرة، إنّما يزوّد غيره بالأدوات والخطابات والتمويل ليقوم بالمهمة، إنه انتقال من السيطرة العسكرية إلى هندسة الفوضى الداخلية، حيث تُصاغ ميليشيات بأسماء محلية وأهداف وطنية ظاهراً، لكنها تُدار من غرف عمليات خارجية لا ترى النور.
يمكن اعتبار هذا تحوّل في بنية الحرب نفسها؛ من المواجهة المسلحة إلى حرب التفريق الاجتماعي، التي تزرع بذور الشكّ داخل كل جبهة، وتُضعف الثقة بين المواطن والمقاومة، وبين المجتمع وذاته، إنها محاولة لجعل الفلسطيني يقاتل الفلسطيني، ومع إدراك المقاومة لهذا النمط من الحرب، تعيد ترتيب أولوياتها من الردّ على القصف إلى تحصين وعي المجتمع، حيث تكون أولى خطوات الردع هي الفضح، وأولى مراحل الضرب من حديد هي كسر الوهم بأن هذه الميليشيات محليّة الولاء.
الوكلاء أداة الاحتلال الجديدة
منذ عقود اعتمدت "إسرائيل" على تفوّقها العسكري لفرض معادلة الردع، لكن معركة الطوفان وما تبعها من انهيارات استخباراتية جعلت "تل أبيب" تعيد التفكير في أدواتها، فحين فشلت آلة الحرب المباشرة في تحقيق أهدافها، لجأت إلى هندسة المجتمع الفلسطيني نفسه كساحةٍ بديلة للقتال، وهنا ولدت فكرة "الميليشيا الوكيلة" أداة تجمع بين الظلّ والشرعية الشكلية، لا تحمل علم الاحتلال، لكنها تنفّذ أجندته حرفياً، حيث تُثير الفتن، تبثّ الإشاعات، وتُعيد تدوير الانقسام في خطابٍ سياسيٍّ داخلي يبدو في ظاهره خلافاً وطنياً، لكنه في جوهره تمويهٌ للسيادة.
فتمويه السيادة هو أخطر أشكال الاحتلال الناعم، بأن تُخلق كيانات تبدو وطنية الهوية، تحمل لافتاتٍ محلية وشعاراتٍ ثورية، بينما تموَّل وتُدار عبر قنوات استخبارية وأذرع مدنية مموّهة، هنا لا يعود الاحتلال بحاجةٍ إلى جنوده كي يُخضع الجبهة الداخلية، بل يكفيه أن يخلق خصوماً من الداخل يشغلون الناس بأنفسهم ويستنزفون وعيهم.
تُستبدل الجيوش بالمنصات، والدبابات بالمحتوى الموجَّه، والقصف بتسريبٍ إعلاميٍّ محسوب يزرع الشكّ في المقاومة وقيادتها، في هذه المعادلة، يصبح الوكيل المحلي المقاتل بالنيابة، مدافعاً عن مصالح الاحتلال الذي وعده بموقعٍ أو سلطة أو بقاء، لكن خطورة هذه الأداة تكمن في قدرتها على التخفّي، فهي تُمثل شبكة سيولة اجتماعية تتوزّع بين خطاب، وتمويل، ومنصّات رقمية، وحاضناتٍ مدنية تُسوّقها كجزءٍ من الحياة السياسية.
وهكذا يتقدّم الاحتلال خطوةً إلى الوراء عسكرياً، لكنه يمدّ جذوره في العمق الاجتماعي، ليحوّل الهزيمة الميدانية إلى نصرٍ إدراكي، فحين يفقد الفلسطيني ثقته بمقاومته، أو يُقنع بأن الانقسام قدرٌ أبدي، يكون الاحتلال قد حقق ما عجزت عنه القذائف.
آليات الصنع: المال، الخطاب، والمنصّات
تبدأ الميليشيات بالمال، فحين تُفتح القنوات المموّهة تحت عناوين إغاثة، وتأهيل، وتنمية محلية، تكون البذرة قد زُرعت، هناك في الهامش الإنساني، تُنشأ أولى شبكات الولاء من مجموعات تتلقّى التمويل عبر واجهاتٍ مدنية ظاهرها المساعدة وباطنها الإخضاع، فيتحوّل الاحتياج إلى وسيلة استقطاب، وبهذه الصيغة تُدار الهندسة الهادئة للفوضى، الأموال تُضخّ وتُوزّع وفق خريطةٍ مرسومة بعناية على مناطق التوتر والفراغ الأمني: الشمال، وشرق مدينة غزة، ووسط خان يونس، وشرق رفح، وهي المناطق التي أشار إليها موقع هسكوفيم العبري بوصفها ساحاتٍ تنشط فيها أربع ميليشيات فلسطينية معارضة لحماس، يقودها ياسر أبو شباب، حسام الأسطل، رامي حلس، وأشرف المنسي، أسماء محلية لكن التمويل خارجي، والقرار يُطبخ في غرف استخباراتٍ تتقن العمل من وراء الستار.
ولأن "إسرائيل" تدرك حساسية المشهد، فهي لا تُعلن هذه المشاريع بصورتها الحقيقية، إنها تُمارس ما تسميه الكاتبة "تمويه السيادة"، من خلال خلق كيانات تبدو مستقلة، ترفع راياتٍ وطنية، لكنها تتحرك بإملاءاتٍ مرسومة مسبقاً، حتى الخطاب الصهيوني الداخلي لا يخفي ذلك تماماً؛ فقد خرج أفيغدور ليبرمان، رئيس الوزراء السابق، ليُقرّ بأن الحكومة وزّعت "سلاحاً ومعدات على ميليشيات إرهابية في غزة"، واصفاً ذلك بـ"الإهمال الإجرامي"، بدا كمن يكشف المستور أكثر مما يعترض، في لحظة واحدة تحوّل الإنكار إلى اعتراف ضمني بأن المشروع قائم فعلاً، وأن الاحتلال بات يعتمد على قوةٍ بالوكالة لإدارة ما فشل في إخضاعه بالقوة المباشرة.
لكن المال وحده لا يصنع ميليشيا؛ يحتاج إلى خطابٍ يغذّيها ويمنحها الشرعية، وهنا تدخل مرحلة تغذية الكراهية المقنّنة، عبر حملاتٍ رقمية منظمة، تُبثّ روايات تُصوّر المقاومة كمصدر للفقر والمعاناة، وتعيد تدوير مشاعر الغضب إلى اتهامات متبادلة، وفي قلب المشهد تتحرّك جيوش الحسابات الوهمية التي يديرها عملاء الاحتلال عبر شبكة "أفيخاي" الشهيرة، حسابات تحمل أسماء عائلات مقدسية أو ضفاوية معروفة، تكتب تعليقاتٍ مسيئة لأهل غزة، لتبدو الفتنة وكأنها تنبع من عمق المجتمع الفلسطيني نفسه.
من يقرأ هذه المنشورات يظنّ أن بين غزة والضفة ناراً كامنة، لكن من يتتبّع مصدرها يدرك أن وراءها ماكينة استخباراتية محترفة، إنها الميليشيا الرقمية التي لا تطلق النار، لكنها تُطلق الكلمة المسمومة، وتزرع بذور الشكّ بين الشقيقين، بعض تلك الحسابات لا يتجاوز عدد أصدقائها خمسة أو ثمانية، لكن كلٌّ منها صُمّم بعناية لتبدو حقيقية بالقدر الكافي لزرع الشرخ، هذا هو شكل الحرب الجديدة، لا دخان، لا صاروخ، فقط منشورٌ محسوب يُعيد رسم خريطة الانقسام.
في هذا المشهد المركّب، تتقاطع الأموال مع الخطاب والمنصّات لتُنتج ما يمكن تسميته بالفتنة المركّبة، من خلال تمويلٌ يغذّي، خطابٌ يُسوّغ، وفضاءٌ رقمي يُفخّخ الوعي، فتصير الميليشيا نظام تأثيرٍ متكامل؛ يمتد من البنك إلى الموقع الإلكتروني.
وحين تسأل: أين إسرائيل من كل هذا؟ ستجدها تقف في الخلف، تمسك بالخيوط وتُدير المشهد ببرودٍ محسوب، هي لا تريد أن تُرى، إنّما تُريد أن تُشعر المجتمع أنه يُدمّر نفسه بنفسه، هذه هي العبقرية السوداء في مشروع الاحتلال الجديد، أن يبقى صانع النار خارج المشهد، فيما يشتعل الآخرون داخل مرآته.
النتائج المقصودة: إعادة إنتاج الهزيمة الاجتماعية
ما تبتغيه آليات التمويل والحديث والفضاء الرقمي هو إعادة كتابة معنى النصر، الفعل العسكري الذي كان يوحّد الصفّ ويعزّز الثقة بين المقاتل والمجتمع، يُستبدل بعملية متواصلة من التشكيك والتفكيك من قصص تُروى عن خيانة هنا، واتهامات بالفساد هناك، وشواهد ملفقة تُنسب للمقاومة تجعل من الإنجاز عبئاً يوجب التبرير بدلاً من أن يكون سبباً للفخر، هكذا تُفقد الانتصارات طاقتها الاسترجاعية، ويصير المجتمع أقل قدرة على تحويل المكسب العسكري إلى زخم سياسي واجتماعي مستدام.
نتيجة ثانية أعمق، فتحويل المقاومة من فاعلٍ مبادر إلى حالة دفاع دائم، حين تنشغل الحركة من أقصى قياداتها إلى قواعدها الشعبية، في معالجة شرخ داخلي يغذّيه مالٌ ومنصّات، فإنها تفقد عنصر المبادرة الاستراتيجية، بدلاً من شنّ حملاتٍ تُبطئ من قدرات الاحتلال أو تُعيد تشكيل ميزان القوى، تُستهلك الطاقة في رقعٍ محلية لإخماد حرائق صناعة الفتنة؛ وفي كل مرة تُطفأ فيها شرارة، تظهر ثلاث شرارات جديدة في أماكن أخرى، هذه الحالة -التي أسميها الانصراف الاستراتيجي- تُمثّل استنزاف للشرعية والوعي، المجتمع يبدأ بالتصديق أن الخطر الحقيقي ليس الاحتلال وأن المعركة الأساسية صارت داخلية.
هنا يعمل احتلال المزوّد بصورة مزدوجة حيث يحقق أهدافه التكتيكية بإضعاف الروابط الاجتماعية، ويحقق أهدافه الرمزية بجعل المقاومة تبدو عاجزة عن حماية النسيج الوطني، عندما يصبح التبرير السياسي أو الأخلاقي للعمل المقاوم مرهوناً بتبرئة النفس داخلياً، تُصبح الحياة السياسية رهينة سجالات لا تنتهي، والمقاومة تُحوَّل من مشروع تحرير إلى جهاز إدارة أزمات داخلية لا تنتهي.
الاستنتاج السياسي واضح ومخيف، فالهدف خلق ميليشيا تُمارس تحويل المشهد السياسي بأكمله إلى ساحة نزاع دائمة تُفقد فيها المقاومة مقومات المبادرة والشرعية، وهذا ما يجعل الضرب من حديد مشروعاً لإعادة بناء موازين القوة السياسية، إذا فشلت المقاومة في الانتقال من رد الفعل إلى خطة استباقية تحصّن الوعي وتقطع مصادر التمويل والتمويه، فإن النصر الميداني سيظل بلا ترجمة سياسية أو اجتماعية.
دور المقاومة؛ الردع الذكي والضرب من حديد
حين تشتعل حرب الوكلاء التي يُديرها الاحتلال عبر أدواته المحلية لا تكفي البندقية وحدها، فالمعركة الجديدة تُخاض في الوعي الذي يشكّل مناعة المجتمع، هنا تدرك المقاومة أن الردع أصبح ردعاً معرفياً وذكاءً سيادياً يتقن تفكيك الشبكات قبل أن تُصبح تهديداً ميدانياً، فالمعركة المقبلة هي ضد ميليشيا تحمل فكرةٍ تُساق بعبارات وطنية لتخترق الصف الوطني من الداخل.
الردع الذكي يبدأ من الفضح الاستباقي، أي كشف الخيوط الخفية لهذه الشبكات أمام الرأي العام، ووضعها تحت ضوء الحقيقة قبل أن تُنتج سرديتها الخاصة، حين تُعلن المقاومة عن مصادر التمويل، وأسماء الوسطاء، وأنماط الاختراق النفسي والإعلامي، هذه الخطوة تُسقط عن الميليشيات أقنعة الوطنية، وتحوّلها من جماعات تحمل خطاباً جذاباً إلى أدوات مكشوفة تعمل في سياقٍ استعماريّ مموه.
أما الضرب من حديد، فهو يُمثل هندسة ردعٍ دقيقة، فحين تُواجه المقاومة أي يد تعبث بالصف الوطني، عليها أن تجمع بين الردع الأمني والقانوني والإعلامي في معادلةٍ واحدة:
• أمنيّاً: عبر ملاحقة القيادات الميدانية المتورطة في الارتباط المباشر بالاحتلال.
• قانونيّاً: بتجريم أي نشاط يمسّ البنية الاجتماعية أو يحرّض على الفتنة.
• وإعلاميّاً: بكسر الروايات التي تُغذّي الانقسام، وتجريدها من مشروعيتها الأخلاقية أمام الجماهير.
إنّ الردع الذكي لا يكتفي بالمعاقبة، إنّما يبني الوعي كدرعٍ واقٍ؛ فكلّ حربٍ داخلية لا تُجهض في مهدها تتحول إلى معركةٍ طويلة مع الوعي نفسه، ولهذا كان الاستثمار في التماسك الاجتماعي جزءً من منظومة الأمن المقاوم، فالمقاومة التي تحصّن مجتمعها لا تمنع فقط تسلل المال والسلاح، بل تحرم الاحتلال من البيئة التي كان يعوّل عليها لإعادة إنتاج الانقسام.
وتدرك المقاومة أن "إسرائيل" في كل جولة تحاول تحويل الهزيمة الميدانية إلى نصرٍ اجتماعي عبر هذه الكيانات الوظيفية، ولذلك كان لزاماً أن تُطوّر أدوات المواجهة على مستويين متوازيين، الأول: المستوى الردعيّ الصلب الذي يتعامل مع العملاء وأدواتهم بلا هوادة، والثاني: المستوى الوعيانيّ المرن الذي يعيد تعريف المعركة في أذهان الناس، فيفصل بين النقد المشروع والتحريض المأجور، وبين الاختلاف السياسي والاصطفاف الاستعماري.
إنّ أكثر ما يُفشل مشروع الميليشيات البديلة هو القدرة على تجفيف المعنى الذي وُلدت منه، أي ذلك الشعور بالفراغ والريبة والخذلان، فحين يشعر المجتمع بأن المقاومة تملك مشروعاً جامعاً وعدالة في التعامل ومصداقية في الخطاب، تتآكل كل أدوات الفتنة من تلقاء نفسها، عندها يُصبح الردع حالة وعي عام لا مجرد قرار قيادي.
في معادلة ما بعد الحرب، أصبحت "إسرائيل" تراهن على القوة التآكلية التي تعمل من الداخل، بأسماء فلسطينية ولهجات مألوفة، إنها استراتيجية الاحتلال الجديد، هي أن يُقاتل الفلسطينيُّ الفلسطينيَّ دون أن يشعر أنه يؤدي وظيفةً استعمارية، لكنّ الوعي المقاوم حين يتحول إلى مؤسسةٍ يقظة، يُعيد الأمور إلى نصابها.
المقاومة اليوم أمام اختبار الوعي لا السلاح، بأن تثبت أن النصر لا يُقاس بعدد الصواريخ، إنّما بقدرتها على حماية النسيج الوطني من التفتت، وأن تردّ على حرب الوكلاء بحرب الوعي، حربٍ تُخاض بالكلمة الصادقة كما تُخاض بالرصاصة الدقيقة.
فحين تضرب المقاومة من حديدٍ وبوعيٍ معاً، تُفشل مشروع الاحتلال في تحويل النصر إلى فتنة، وتثبت أن المعركة الكبرى هي لتحرير الأرض وتحرير الوعي من وكلاء الهزيمة.