الأمم المتحدة في منصّة الإذلال… ترامب يتحدّث
أسامة أبو ارشيد
“كان خطاب ترامب في الأمم المتحدة مخزياً لأميركا، وقد يكون الأكثر إذلالاً حتى الآن لسمعة الولايات المتحدة”. هكذا كتب الصحافي الأميركي ذيشان عليم، في موقع المحطة التلفزيونية الأميركية “أم أس أن بي سي” أول من أمس الأربعاء (24 سبتمبر/ أيلول). وأضاف أن الخطاب الذي ألقاه الرئيس الأميركي دونالد ترامب (الثلاثاء الماضي)، بدا أقرب إلى “ترامب أولاً” من “أميركا أولاً”، وظهر فيه “ترامب غارقاً في انحرافاتٍ سطحية متكرّرة، ومهووساً بالتفاخر، غالباً بشكل مضلّل، بما يعتبره إنجازاته”. في الحقيقة، لا يمكن الاختلاف مع عليم في تقويمه لذلك الخطاب الفضيحة، لا لأنه صدر عن رئيس أعظم دولة فحسب، بل أيضاً لأن مجرّد أن يُعطى صاحب مستوى كهذا مكاناً في منصّة الأمم المتحدة فضيحة في حدّ ذاتها. لقد بدا ترامب في خطابه الذي ناهز الساعة تقريباً شخصاً تافهاً، وهاذياً، ونرجسياً، وكاذباً وقحاً بدرجة يحسد عليها، إن كان في مثل هذه المواقف حسد. وترامب متهم من أطباء نفسيين وإعلاميين وخصوم سياسيين بأنه “كاذب مَرَضي” (pathological liar) بسبب حجم وطبيعة وتكرار تصريحات كاذبة أو مضلّلة تصدر عنه. ويلاحظ عالم النفس بول إيكمان أن قرار ترامب الواعي بالكذب أصبح عادة، وبأنه لا يهتم بالدفاع عن أكاذيبه، وكأنّها حقائق. الأدهى أنه يفعل هذا من دون أدنى شعور بالخجل. وتشمل دوافعه من الكذب، حسب محللين، حماية الأنا، والتحكّم في السردية الإعلامية، ومهاجمة خصومه السياسيين.
أذكر خلال رئاسة ترامب الأولى مقالاً نشر حوله، عنوانه “كيف تجعل شخصاً لا يخجل يخجل؟”. وفي تحليل لشخصيته في صحيفة الغارديان البريطانية في يناير/ كانون الثاني 2024، كتب الصحافي البريطاني فيل ليسك إن ترامب “لا يشعر بالخجل، لأنه لا يتبنّى ولا يشارك القيم التي يؤمن بها منتقدوه؛ فهو يرى أنه لم يخطئ بحقّ أحد. وفي الوقت نفسه، لا يمكن إحراجه لأنه بنى حول نفسه درعاً دفاعية تضمن ردّ كل انتقاد. وبدلاً من أن يتأثر، يسعى إلى إذلال كل من يعارضه أو يمثّل طريقة مختلفة للوجود في هذا العالم”. وحسب منتقدين لترامب، فإنه كثيراً ما يدلي بتصريحاتٍ يمكن إثبات كذبها بسهولة من خلال الأدلة المعروفة والمُتاحة للجميع، مثل ادّعاءاته المبالغ فيها بشكل جنوني حول حجم الحشود الجماهيرية في حفل تنصيبه لرئاسته الأولى مطلع عام 2017، أو تزوير الانتخابات الرئاسية عام 2020، التي خسرها لصالح الرئيس السابق جو بايدن. ومع أن كثيرين من مؤيّدي ترامب يعلمون أنه كاذب محترف، إلا أنهم يحاولون تبرير أكاذيبه بأنها نوع من المبالغات والتهويل أو “الأداء المسرحي”، وأنه لا يقصد منها الخداع، غير أن دراسة أجراها باحثون في جامعة فاندربيلت الأميركية في سبتمبر 2023 بعنوان “جميع أكاذيب الرئيس… الادعاءات الكاذبة المتكرّرة والرأي العام”، وجدت أن تكرار ترامب لأكاذيبه مرتبط بزيادة الإيمان بها بين قاعدته الانتخابية في الحزب الجمهوري، حتى إن كانت مصداقيته تتراجع أكثر فأكثر بين الديمقراطيين. وتستند الدراسة إلى مفهوم نفسي يعرف بـ”تأثير الحقيقة الوهمية” (Illusory Truth Effect)، الذي يشير إلى أن تكرار المزاعم يزيد من احتمال تصديقها، بغض النظر عن صحّتها.
لا أريد الاستطراد أكثر في تفكيك شخصية ترامب، فهي واضحة للعيان. كما لا أريد أن أعدّد كل الأكاذيب التي ساقها في خطابه أمام الأمم المتحدة، فقد كفتنا وسائل إعلام عديدة، خصوصاً الأميركية منها، مؤونة حصرها وتفنيدها. لكن، من الضروري بمكان الإشارة هنا إلى أن ترامب ليس شخصاً تافهاً فحسب، بل هو خطير جداً كذلك، لا على أميركا وحدها، بل على العالم كله بحكم موقعه رئيساً للولايات المتحدة. قد يجد بعضُهم في حديثه عن مؤامرة عليه في توقّف السلم الكهربائي وهو يصعد عليه مع زوجته في مقرّ الأمم المتحدة، أو في تعطّل جهاز التلقين (teleprompter) وهو يلقي خطابه، أو عدم عمل أجهزة الميكرفون جيداً، أموراً مضحكة، وهي قد تكون كذلك فعلاً، خصوصاً حين يربط ذلك كلّه بعدم تمكينه من عطاء تطوير مبنى الأمم المتحدة مطلع هذا القرن، ورسوّ العطاء على شركة أخرى، قال إنها قامت بعمل سيء. لكن لأن ترامب رئيس الدولة الأعظم يجعل من عقده النفسية وشوفينيته وكراهيته وكذبه واعتقاده أنه الأذكى في العالم، كما ألمح هو نفسه في خطابه “أنا جيّد جداً في التنبؤ بالأشياء. لا أقول ذلك بطريقة متفاخرة، لكنه صحيح. كنت محقّاً في كل شيء”… ذلك كله قد يكون وبالاً محتملاً على البشرية جمعاء.
ثالثة الأثافي توبيخ ترامب الأمم المتحدة، لأنها لم تقدّم له “الشكر” اللازم على ادّعائه بأنه أوقف سبع حروب “لا يمكن إنهاؤها” في “فترة لا تتجاوز سبعة أشهر”. على ماذا سيشكره العالم؟ على حرب الإبادة في قطاع غزّة التي إدارته شريك أساس فيها؟ أم على ترويح خطاب الكراهية ضدّ المهاجرين؟ أم على قمع حرية التعبير في الولايات المتحدة والدوس على الحقوق المدنية؟ المفارقة السمجة أنه تفاخر في خطابه بأنه مدافع عن حرية التعبير والحريات الشخصية.
أسامة أبو ارشيد
“كان خطاب ترامب في الأمم المتحدة مخزياً لأميركا، وقد يكون الأكثر إذلالاً حتى الآن لسمعة الولايات المتحدة”. هكذا كتب الصحافي الأميركي ذيشان عليم، في موقع المحطة التلفزيونية الأميركية “أم أس أن بي سي” أول من أمس الأربعاء (24 سبتمبر/ أيلول). وأضاف أن الخطاب الذي ألقاه الرئيس الأميركي دونالد ترامب (الثلاثاء الماضي)، بدا أقرب إلى “ترامب أولاً” من “أميركا أولاً”، وظهر فيه “ترامب غارقاً في انحرافاتٍ سطحية متكرّرة، ومهووساً بالتفاخر، غالباً بشكل مضلّل، بما يعتبره إنجازاته”. في الحقيقة، لا يمكن الاختلاف مع عليم في تقويمه لذلك الخطاب الفضيحة، لا لأنه صدر عن رئيس أعظم دولة فحسب، بل أيضاً لأن مجرّد أن يُعطى صاحب مستوى كهذا مكاناً في منصّة الأمم المتحدة فضيحة في حدّ ذاتها. لقد بدا ترامب في خطابه الذي ناهز الساعة تقريباً شخصاً تافهاً، وهاذياً، ونرجسياً، وكاذباً وقحاً بدرجة يحسد عليها، إن كان في مثل هذه المواقف حسد. وترامب متهم من أطباء نفسيين وإعلاميين وخصوم سياسيين بأنه “كاذب مَرَضي” (pathological liar) بسبب حجم وطبيعة وتكرار تصريحات كاذبة أو مضلّلة تصدر عنه. ويلاحظ عالم النفس بول إيكمان أن قرار ترامب الواعي بالكذب أصبح عادة، وبأنه لا يهتم بالدفاع عن أكاذيبه، وكأنّها حقائق. الأدهى أنه يفعل هذا من دون أدنى شعور بالخجل. وتشمل دوافعه من الكذب، حسب محللين، حماية الأنا، والتحكّم في السردية الإعلامية، ومهاجمة خصومه السياسيين.
أذكر خلال رئاسة ترامب الأولى مقالاً نشر حوله، عنوانه “كيف تجعل شخصاً لا يخجل يخجل؟”. وفي تحليل لشخصيته في صحيفة الغارديان البريطانية في يناير/ كانون الثاني 2024، كتب الصحافي البريطاني فيل ليسك إن ترامب “لا يشعر بالخجل، لأنه لا يتبنّى ولا يشارك القيم التي يؤمن بها منتقدوه؛ فهو يرى أنه لم يخطئ بحقّ أحد. وفي الوقت نفسه، لا يمكن إحراجه لأنه بنى حول نفسه درعاً دفاعية تضمن ردّ كل انتقاد. وبدلاً من أن يتأثر، يسعى إلى إذلال كل من يعارضه أو يمثّل طريقة مختلفة للوجود في هذا العالم”. وحسب منتقدين لترامب، فإنه كثيراً ما يدلي بتصريحاتٍ يمكن إثبات كذبها بسهولة من خلال الأدلة المعروفة والمُتاحة للجميع، مثل ادّعاءاته المبالغ فيها بشكل جنوني حول حجم الحشود الجماهيرية في حفل تنصيبه لرئاسته الأولى مطلع عام 2017، أو تزوير الانتخابات الرئاسية عام 2020، التي خسرها لصالح الرئيس السابق جو بايدن. ومع أن كثيرين من مؤيّدي ترامب يعلمون أنه كاذب محترف، إلا أنهم يحاولون تبرير أكاذيبه بأنها نوع من المبالغات والتهويل أو “الأداء المسرحي”، وأنه لا يقصد منها الخداع، غير أن دراسة أجراها باحثون في جامعة فاندربيلت الأميركية في سبتمبر 2023 بعنوان “جميع أكاذيب الرئيس… الادعاءات الكاذبة المتكرّرة والرأي العام”، وجدت أن تكرار ترامب لأكاذيبه مرتبط بزيادة الإيمان بها بين قاعدته الانتخابية في الحزب الجمهوري، حتى إن كانت مصداقيته تتراجع أكثر فأكثر بين الديمقراطيين. وتستند الدراسة إلى مفهوم نفسي يعرف بـ”تأثير الحقيقة الوهمية” (Illusory Truth Effect)، الذي يشير إلى أن تكرار المزاعم يزيد من احتمال تصديقها، بغض النظر عن صحّتها.
لا أريد الاستطراد أكثر في تفكيك شخصية ترامب، فهي واضحة للعيان. كما لا أريد أن أعدّد كل الأكاذيب التي ساقها في خطابه أمام الأمم المتحدة، فقد كفتنا وسائل إعلام عديدة، خصوصاً الأميركية منها، مؤونة حصرها وتفنيدها. لكن، من الضروري بمكان الإشارة هنا إلى أن ترامب ليس شخصاً تافهاً فحسب، بل هو خطير جداً كذلك، لا على أميركا وحدها، بل على العالم كله بحكم موقعه رئيساً للولايات المتحدة. قد يجد بعضُهم في حديثه عن مؤامرة عليه في توقّف السلم الكهربائي وهو يصعد عليه مع زوجته في مقرّ الأمم المتحدة، أو في تعطّل جهاز التلقين (teleprompter) وهو يلقي خطابه، أو عدم عمل أجهزة الميكرفون جيداً، أموراً مضحكة، وهي قد تكون كذلك فعلاً، خصوصاً حين يربط ذلك كلّه بعدم تمكينه من عطاء تطوير مبنى الأمم المتحدة مطلع هذا القرن، ورسوّ العطاء على شركة أخرى، قال إنها قامت بعمل سيء. لكن لأن ترامب رئيس الدولة الأعظم يجعل من عقده النفسية وشوفينيته وكراهيته وكذبه واعتقاده أنه الأذكى في العالم، كما ألمح هو نفسه في خطابه “أنا جيّد جداً في التنبؤ بالأشياء. لا أقول ذلك بطريقة متفاخرة، لكنه صحيح. كنت محقّاً في كل شيء”… ذلك كله قد يكون وبالاً محتملاً على البشرية جمعاء.
ثالثة الأثافي توبيخ ترامب الأمم المتحدة، لأنها لم تقدّم له “الشكر” اللازم على ادّعائه بأنه أوقف سبع حروب “لا يمكن إنهاؤها” في “فترة لا تتجاوز سبعة أشهر”. على ماذا سيشكره العالم؟ على حرب الإبادة في قطاع غزّة التي إدارته شريك أساس فيها؟ أم على ترويح خطاب الكراهية ضدّ المهاجرين؟ أم على قمع حرية التعبير في الولايات المتحدة والدوس على الحقوق المدنية؟ المفارقة السمجة أنه تفاخر في خطابه بأنه مدافع عن حرية التعبير والحريات الشخصية.