المقال يعبر عن رأي كاتبه

طلب النصرة بمعنى الحماية المؤقته وليس تسليم الحكم ؟؟

الأستاذ بلال محفوظ

  • الأربعاء 16, نوفمبر 2022 06:04 ص
  • طلب النصرة بمعنى الحماية المؤقته وليس تسليم الحكم ؟؟
وبالرغم من انني أجنب نفسي النقاشات الفقهية والمذهبية والحزبية منذ اكثر من عشر سنوات ... الا ان بعض الأصدقاء والاحباء من اخواني في حزب التحرير يسألونني عن الخلافات الفقهية مع حزب التحرير المحترم ...
بقلم المحامي بلال ايوب محفوظ - القدس

وبالرغم من انني احاول تجنب هذه النقاشات ... الا انه لا بد وان تقع هذه النقاشات ... وأبدأ معهم دائما من موضوع الطريقة التي يتبناها حزب التحرير ... وانه لا يوجد شيء اسمه طلب نصرة بمفهوم تسليم الحكم وإنما يوجد طلب نصرة بمفهوم طلب الحماية المؤقت ... وذلك بالأدلة المتوافرة والتي تثبت ان موضوع إقامة الدولة في المدينة كان أمراً توقيفياً من الله سبحانه ... وذلك باستعراض بسيط للادلة ... وقد ناقشني في هذا الموضوع أصدقاء أحباء من حزب التحرير  ووعدوني بإحضار إجابة ... وبالرغم من تأخر الاجابة الا انها جائت بنشرة موقعة من السيد عبد المؤمن الزيلعي المحترم (الذي لا اعرفه) وهو رئيس المكتب الإعلامي لحزب التحرير في اليمن وافتتح مقاله بعنوان ... طلب النصرة حكم شرعي الغرض منه استلام الحكم ... لا يماري في ذلك الا جاهل او مضلل ... وارفق لكم اسفل هذا المقال نسخة عن ما مقالته من باب الموضوعية بالبحث ...  وقد ارسلت لي المقالة علي يد عدد من الاحباب ... وكأنهم يقولون جئناك من سبأ بخبر يقين ... وأنني ارد عليهم بالادلة الموضوعية ...  بالرغم من توقعي بسيل من الشتائم والتسفيه وربما التخوين والتعميل من بعض الاخوة دون أن يقرأوا نص مقالة الرد هذه .

وبالرغم من علمي من هذه النوعية من المقالات موجهة للقواعد الداخلية لحزب التحرير وليست لي .. والمقصود منها توجيه رسالة مبطنة للمراجعين الكثر الذين يراجعون حول نقطة واحدة ... بأنه من يصرّ على النقاش بهذا الموضوع فهو اما جاهل او مضلل ويستوجب العقوبة ... الا انني ارد عليها للاخوة الباحثين عن الحق .

وبالموضوع ... فإن الكاتب المحترم اجتزء أجزاء من أحاديث وحلل وبنى على المجتزء كثيرا ولوى اعناق النصوص بطريقة غريبة وتجاهل أحاديث مهمة بالموضوع .
اما الحديث الاول المجتزء الذي استند اليه السيد الناطق الإعلامي هو حديث بني عامر بن صعصعة وهذا نص الحديث كاملاً غير مجتزء ...  قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: «وَحَدَّثَنِي الزُّهْرِيُّ أَنَّهُ (اي النبي ﷺ) أَتَى بَنِي عَامِرِ بْنِ صَعْصَعَةَ،(اياهم في منازلهم في مكة في موسم الحج) فَدَعَاهُمْ إلَى اللهِ عز وجل، وَعَرَضَ عَلَيْهِمْ نَفْسَهُ، فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ مِنْهُمْ -يُقَالُ لَهُ: بَيْحَرَةُ بْنُ فِرَاسٍ-: وَاللهِ، لَوْ أَنِّي أَخَذْتُ هَذَا الْفَتَى مِنْ قُرَيْشٍ، لأَكَلْتُ بِهِ الْعَرَبَ. ثُمَّ قَالَ: أَرَأَيْتَ إنْ نَحْنُ تَابَعْنَاكَ عَلَى أمْرِكَ، ثُمَّ أَظْهَرَكَ اللهُ عَلَى مَنْ خَالَفَكَ، أَيَكُونُ لَنَا الأَمْرُ مِنْ بَعْدِكَ؟ قَالَ (اي النبي عليهالصلاة والسلام) : (الأَمْرُ إلَى اللهِ يَضَعُهُ حَيْثُ يَشَاءُ) قَالَ: فَقَالَ لَهُ: أَفَتُهْدَفُ نَحُورُنَا لِلْعَرَبِ دُونَكَ، فَإِذَا أَظْهَرَكَ اللهُ كَانَ الأَمْرُ لِغَيْرِنَا! لَا حَاجَةَ لَنَا بِأَمْرِكَ. فَأَبَوْا عَلَيْهِ)
ولو سلمنا بصحة الحديث دون البحث في صحته ودققنا بالحديث سنجد ان الذي رد على النبي عليه الصلاة والسلام ﷺ واحد يقال له بيحرة بن فراس وليس قائدهم وليس كل القوم ... فإذا علمت ان بنو عامر كانوا من الإشراف ولم تسبى لهم امرأة (وكذلك قريش كانت من الاشراف) على هذا قال بيحرة (وَاللهِ، لَوْ أَنِّي أَخَذْتُ هَذَا الْفَتَى مِنْ قُرَيْشٍ، لأَكَلْتُ بِهِ الْعَرَبَ. ثُمَّ قَالَ: أَرَأَيْتَ إنْ نَحْنُ تَابَعْنَاكَ عَلَى أمْرِكَ، ثُمَّ أَظْهَرَكَ اللهُ عَلَى مَنْ خَالَفَكَ، أَيَكُونُ لَنَا الأَمْرُ مِنْ بَعْدِكَ) ومحل البحث قوله (وَاللهِ، لَوْ أَنِّي أَخَذْتُ هَذَا الْفَتَى مِنْ قُرَيْشٍ، لأَكَلْتُ بِهِ الْعَرَبَ) والنبي عليه السلام يسمع هذا الكلام ... ووضح من كلام بيحيرة انو يريد ان يستخدم النبي عليه السلام للوصول إلى حكم العرب ... فبيحرة من الإشراف والنبي من أشراف العرب ... فإذا التقى الشريفين سادا العرب ... والنبي ﷺ لا تنطلي عليه الحيل البلهاء ولا يخدعه رجل مثل بيحرة ... عندما قال (وَاللهِ، لَوْ أَنِّي أَخَذْتُ هَذَا الْفَتَى مِنْ قُرَيْشٍ، لأَكَلْتُ بِهِ الْعَرَبَ) حتى انه يتضح من كلامه انه لم يفهم ما جاء بل قال بيحرة (ثُمَّ قَالَ: أَرَأَيْتَ إنْ نَحْنُ تَابَعْنَاكَ عَلَى أمْرِكَ) ... فلا يوجد حوار بين سيدنا محمد ﷺ وقبلية بل حوار مع رجلٍ منهم ... فلا أعلم كيف يستدل بهذا الحديث انه على طلب النصرة بمعنى تسليم الحكم ؟؟
اما الحديث الثاني المجتزء حول الإيواء والمنعة ... وبالرجوع قول النبي عليه السلام ﷺ الصريح في تلك الفترة والذي يخالف التحليل والتطويل في تفسير معنى عبارة (تنصروني وتؤوني) وما يستلزمه معنى لا اله إلا الله محمد رسول الله وما توسع به وحمله ما لا يحتمل ... وكان الاجدر به الرجوع الى تكملة الحديث بدل هذا الشرح في الاتجاه الخاطئ ... حيث ان ما فصله يخالف تماما ما جاء بالاحاديث والادلة ... وباستعراض الادلة نجد ما ورد (قال موسى بن عقبة عن الزهري: فكان رسول الله ﷺ في تلك السنين (قبل الهجرة) يعرض نفسه على قبائل العرب في كل موسم (موسم حج) ، ويكلم كل شريف قوم لا يسألهم مع ذلك إلا أن يؤوه ويمنعوه، ويقول: «لا أُكره أحدا منكم على شيء من رضي منكم بالذي أدعوه إليه فذلك ومن كره لم أكرهه إنما أريد أن تحرزوني فيما يراد لي من القتل حتى أبلغ رسالة ربي، وحتى يقضي الله لي ولمن صحبني بما شاء)  فلم يقبله أحد منهم وما يأت أحدا من تلك القبائل إلا قال: قوم الرجل أعلم به، أترون أن رجلا يصلحنا وقد أفسد قومه ولفظوه ؟! وكان ذلك مما ذخره الله للأنصار وأكرمهم به) 
إذاً النبي ﷺ لم يطلب من القبائل الا ان يحرزوه من القتل الذي يراد به (حماية مؤقته بدليل قوله ﷺ حتى يقضي الله لي لمن معي)  ... ولم يطلب منهم الحكم اطلاقاً ... بل قال لهم ﷺ من رضي بما به ليأخذ به ومن كرهه ليتركه ... إنما اريد الحماية او الجوار ... واذا دققنا الحديث نجد آخره يقول وكان ذلك مما ذخره الله للانصار واكرمهم به ... اي ان اختيار الأنصار اختيارا ربانيا توقيفياً لا شك فيه .

وربما يقول قال ... ان هذا القول (مما ذخره الله للانصار جاء بعد دولة المدينة) 
نقول له راجع القول الفصل في المسائلة وهو حديث مسلم عَنْ جَابِرٍ: أَنَّ الطُّفَيْلَ بْنَ عَمْرٍو الدَّوْسِيَّ أَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللّهِ، هَلْ لَكَ فِي حِصْنٍ حَصِينٍ وَمَنْعَةٍ؟ قَالَ حِصْنٌ كَانَ لِدَوْسٍ فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَأَبَىٰ ذلِكَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لِلَّذِي ذَخَرَ الله لِلأَنْصَارِ.

فهذا رد قاطع على أن النصرة بمفهوم تسليم الحكم قد جائه من قبلية عظيمة من قبائل العرب وهي دوس وهي بضع عشرة بطنا  وتحكم مساحة واسعة في جنوب مكة المكرمة ... وان الطفيل قال للنبي عَنْ ﷺ  (يَا رَسُولَ اللّهِ، هَلْ لَكَ فِي حِصْنٍ حَصِينٍ وَمَنْعَةٍ؟) 
وهنا رفض النبي هذا العرض الذي يجب ان يوافق عليه بحسب مفهوم طلب النصرة معنى تسليم الحكم ... ثم قَالَ الطفيل مشجعاً النبي ﷺ (حِصْنٌ كَانَ لِدَوْسٍ فِي الْجَاهِلِيَّةِ) اي انه حصن منيع مجرب له تاريخ ... واذا اكملت قراءة الحديث تجد القول الفصل  (فَأَبَىٰ ذلِكَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لِلَّذِي ذَخَرَ الله لِلأَنْصَارِ) ... هنا يتضح وضوح الشمس انه لا يريد نصرة تسلم حكم ... لان الله سبحانه وتعالى أخبر النبي بإنه ستكون دولته في مكان توقيفي آخر ... وهذا القول يتضح جلياً من حديث النبي ﷺ  قال -صلى الله عليه وسلم: (رأيت في المنام أني أهاجر من مكة إلى أرض بها نخل، فذهب وهلي إلى أنها اليمامة أو هجر، فإذا هي المدينة يثرب) ، رواه الشيخان وفي البيهقي عن صهيب رفعه: (رأيت دار هجرتكم سبخة بين ظهراني حرتين، فإما أن تكون هجر أو يثرب) ، ولم يذكر اليمامة.
اي ان مكان الهجرة اختاره الله سبحانه وتعالى توقيفاً 
ولكن وللامانة العلمية انقل حديث الترمذي والحاكم عن جابر عن النبي -صلى الله عليه وسلم، قال: (إن الله أوحى إلي -أي هؤلاء الثلاثة- نزلت هي دار هجرتك المدينة أو الحرين أو قنسرين) ، زاد الحاكم: (فاختار المدينة) اي ان النبي ﷺ أعلمه الله سبحانه وتعالى بمكان الهجرة  ... وانه اذا أخذنا بزيادة الحاكم نقول ان النبي ﷺ اختار المدنية ... فيكون اختيار من بين مناطق حكم الله سبحانه وتعالى توفيفياً بها وخير النبي ﷺ بينها ... فاختار المدينة .... وسواء كانت هذه الرواية أو تلك ... فإنه لم يكن للنبي ﷺ مجالا للاختيار الا اذا أخذنا بالزيادة انه اختار المدينة من بين ثلاثة خيارات حكم الله بها سلفاً
أما فما يتعلق بما اورده الاخ كاتب المقال بتفصيل بيعة المدينة المنورة ... هو سرد صحيح الا انه على بناء خاطئ ... حيث أن البيعة تمت ضمن فكرة ان مكان الهجرة وان المدينة هي التي ذخرها الله سبحانه وتعالى للانصار وليس في اطار طلب النصرة .
كما أن النبي ﷺ طلب النصرة المؤقته أو الجوار من الكافر حيث انه ﷺ دخل وصلى بالكعبة المشرفة بحماية العدي بن مطعم حيث ارسل النبي ﷺ للعديد من قادة قريش الا انهم رفضوا حتى قبل بذلك ابن مطعم وادخل النبي ﷺ بحمايته . 
والخلاصة ان ما تم الادعاء به من ان النبي ﷺ طلب نصرة بمعنى طلب الحكم لا أصل له (الا في خصوصية المدينة) وان الله سبحانه وتعالى قد ذخر شرف قيام دولة اسلامية للانصار حكماً توقيفياً وتشريفاً لهم وان ما طلبه النبي ﷺ قبل الهجرة كان حماية مؤقته بل وان النبي ﷺ وان النبيﷺ قبل النصرة المؤقته او الجوار حتى من الكافر العدي بن مطعم وكذلك رفض النبيﷺ نصرة بمعنى تسليم الحكم من الطفيل بن عمرو بسبب ذخر ذلك للانصار .

ارفق لكم المقالة 

بسم الله الرحمن الرحيم
 

طلبُ النصرة حكمٌ شرعي الغرض منه استلام الحكم

 

ولا يماري في ذلك إلا جاهل أو مضلل

 

تظهر أصوات تنكر على حزب التحرير قيامه بطلب النصرة من أهل القوة والمنعة المتمثلين اليوم بقادة الجيوش وقادة القبائل في بلاد المسلمين، زاعمين أن الرسول ﷺ إنما طلب النصرة من كثير من القبائل العربية آنذاك من أجل حمايته هو ومن آمن معه من الظلم الواقع عليهم من قريش في مكة، أو (حتى يبلغ عن ربه)؛ غير مدركين معنى البلاغ المقصود في حديثه ﷺ.

 

لقد قال هؤلاء إن البلاغ إنما هو مجرد عرض الإسلام على الناس ليدخلوا فيه، دون أن يلتفتوا إلى حقيقة البلاغ الذي قام به النبي ﷺ بوصفه حاكماً طبق الإسلام وحمله للعالم بالدعوة والجهاد، فكان تطبيق الإسلام في الداخل وحمله للعالم بالدعوة والجهاد هو أبلغ بلاغ وأقوم حجة، فلم يكن قول الرسول الكريم ﷺ «مَنْ يَنْصُرُنِي حَتَّى أُبَلِّغَ عَنْ رَبِّي؟» يقتصر فقط على معنى ما ذكروه بل إن النصرة التي كان يطلبها ﷺ كانت من أجل نصرة الدين وإقامته في واقع الحياة بدولة تطبقه وتبلغه، وإلا كيف يطلب ﷺ ممن يطلب منهم النصرة أن يسلموا ويؤمنوا به؟! وهل سيقبل منهم أن ينصروه دون أن يكونوا مؤمنين؟! ولماذا يشترط عليهم أن يؤمنوا وهو يقصد من النصرة التي يطلبها مجرد الحماية في البلاد حتى يدعو للإسلام ويبلغه حسب تصورهم للبلاغ المقتصر على الدعوة؟! ثم لماذا أمر الرسول ﷺ بعض الصحابة أن يذهبوا إلى ملك الحبشة وهو ليس مسلماً؟ ولماذا لم يلجأ هو إليها ليقوم هناك بدعوة الناس للإسلام وهو رسول الله إلى الناس جميعاً؟!

 

إن النبي ﷺ لم يكن يطلب النصرة فقط لحمايته هو شخصياً ومن آمنوا معه، وأي قبيلة هذه التي ستحميه ومن آمن معه في بلادها وهو قطعاً سيسفّه أحلامهم ويهدم عقائدهم ويعري أفكارهم ويكافح من سيقف أمامه من سفهائهم تماماً كما فعل مع قريش وزعمائها؟!!!

 

إن طبيعة الإسلام ودعوة محمد ﷺ لم تكن مجرد دعوة روحية كهنوتية بل كانت دعوةً روحيةً سياسيةً تستهدف التغيير لجميع مناحي الحياة على مستوى الفرد والدولة والمجتمع، فهي لم تكن دعوةً لتوحيد الله دون تغيير الحياة وصياغتها بنظام الإسلام المنبثق من عقيدة (لا إله إلا الله محمد رسول الله)، ولو كان الأمر مجرد دعوة للإسلام بطبيعةٍ روحيةٍ كهنوتيةٍ ما فعلت به قريش وبدينه وبأصحابه ما فعلت! كيف لا وقد كان منها من يفخر بأن فيهم محمداً يُكلم من السماء؟!

 

إلا أن الناظر في طبيعة الدعوة التي كان يقوم بها النبي ﷺ لمن يطلب منهم النصرة هو الإسلام ثم أن ينصروه حتى يبلغ عن ربه سبحانه، ثم يطلب منهم البيعة بعد ذلك، فلماذا البيعة وما طبيعتها إن كان يقول البعض إنه يطلب منهم مجرد الحماية ليصبحوا فيها كلاجئين؟!! وما هو البلاغ المقصود بقوله ﷺ «حَتَّى أُبَلِّغَ عَنْ رَبِّي؟»؟!

 

علماً أن الإسلام بطبيعته كعقيدة انبثق عنها نظام سياسي يحتاج إلى بلاغ، وأنظمة تعالج مشكلات الحياة جميعاً تحتاج إلى بلاغ، وتمام البلاغ هو تطبيق ذلك عملياً في واقع الحياة في ظل دولة ذات حكم وسلطان، فلا يستقيم القول بأن الرسول ﷺ كان لا يطلب ممن ينصرونه أن يسلموه الحكم، وبعذرٍ ممجوج قبيح يقول هؤلاء: إن الرسول ﷺ لم يكن يطلب سلطة ولا حكما ولا دنيا!!!

 

وهي مقولة علمانية تلقفها البعض بمظهرها الخادع دون إدراكٍ لفحواها، وذهب البعض لإثباتها قائلاً إن الرسول ﷺ رفض الملك الذي عرضته قريش!! مع أن الواقع هو أن قريشاً كانت تعرض عليه الملك مقابل ترك دعوته وليس ليطبق الإسلام ويبلغ عن ربه!!!

 

ثم إن كثيراً من القبائل ردت النبي ﷺ، ومنها من ردته لأنها تريد أن يكون لها الأمر من بعده، فما هو الأمر، ولماذا لم يقبل الرسول ﷺ أن يترك لهم الأمر في حياته وبعد موته ويكتفي منهم بمجرد الحماية ليبلغ عن ربه وينشر دعوته، بلا بيعة وحكم بل كفردٍ هو وأصحابه؟!

 

إن الأمر الذي تكلمت عنه بعض القبائل هو الحكم والسلطان... ولذلك قال بنو عامر بن صعصعة عندما طلب الرسول ﷺ نصرتهم، قالوا: "أرأيتَ إنْ نَحْنُ بَايَعْنَاكَ عَلَى أَمْرِكَ، ثُمَّ أَظْهَرَكَ اللَّهُ عَلَى مَنْ خَالَفَكَ، أَيَكُونُ لَنَا الْأَمْرُ مِنْ بَعْدِكَ؟" قَالَ: «الْأَمْرُ إلَى اللَّهِ يَضَعُهُ حَيْثُ يَشَاءُ». قَالَ: فَقَالَ لَهُ: "أفَتُهدَف نحورُنا لِلْعَرَبِ دُونَكَ، فَإِذَا أَظْهَرَكَ اللَّهُ كَانَ الْأَمْرُ لِغَيْرِنَا! لَا حَاجَةَ لَنَا بِأَمْرِكَ؛ فَأَبَوْا عَلَيْهِ"، أي أنهم كانوا يعرفون أن النصرة هي لإقامة دولة، فأرادوا أن يكونوا هم حكامها بعد رسول الله ﷺ. وكذلك قال بنو شيبان للرسول ﷺ عندما طلب نصرتهم: وإنما نزلنا بين ضرتين، فقال رسول الله ﷺ: «مَا هَاتَانِ الضُّرَّتَانِ؟» قال: أنهار كسرى ومياه العرب، وإنما نزلنا على عهد أخذه علينا كسرى لا نحدث حدثا ولا نؤوي محدثا، وإني أرى هذا الأمر الذي تدعو إليه مما تكرهه الملوك، فإن أحببت أن نؤويك وننصرك مما يلي مياه العرب فعلنا، فقال رسول الله ﷺ: «مَا أَسَأْتُمْ فِي الرَّدِّ إِذْ أَفْصَحْتُمْ بِالصِّدْقِ، وَإِنَّ دِينَ اللَّهِ لَنْ يَنْصُرَهُ إِلا مَنْ أَحَاطَهُ اللَّهُ مِنْ جَمِيعِ جَوَانِبِهِ»، فكانوا يدركون أن النصرة تعني حكماً وجهاداً للعرب والعجم، فوافقوا على قتال العرب، أما الفرس فلا... فالأمر هو الحكم والسلطان، وتلك القبائل أدركت أن الرسول ﷺ يطلب منها الأمر والسلطان حين يعرض نفسه عليهم ليسلموه الحكم وليس ليعرض دينه فقط، فالسيرة شاهدة أنه كان يعرض نفسه عليهم، أي ليكون حاكماً عليهم ذا سلطان ليبلغ الإسلام ذا الطبيعة الروحية السياسية التي ترعى شؤون الناس والتي تشمل أحكاماً تحقق ذلك في حياتهم وآخرتهم.

 

وها هي بيعة العقبة الثانية تكشف بما لا يدع مجالاً للشك حقيقة النصرة التي كان يطلبها النبي الكريم ﷺ وهي تقتضي استلام الحكم، عن عبادة بن الصامت قال: «دَعَانَا النَّبِيُّ: فَبَايَعْنَاهُ، فَقَالَ فِيمَا أَخَذَ عَلَيْنَا: أَنْ بَايَعَنَا عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ فِي مَنْشَطِنَا وَمَكْرَهِنَا، وَعُسْرِنَا وَيُسْرِنَا، وَأَثَرَةً عَلَيْنَا، وَأَنْ لَا نُنَازِعَ الْأَمْرَ أَهْلَهُ إِلَّا أَنْ تَرَوْا كُفْرًا بَوَاحًا عِنْدَكُمْ مِنَ اللَّهِ فِيهِ بُرْهَانٌ» (رواه البخاري) أن لا ننازع الأمر أهله وهو هنا الحكم والسلطان وليس أمر النبوة، وهم يبايعون النبي ﷺ بيعة على ذلك، وهو ﷺ يعلمهم عملياً كيفية إقامة الحكم وكيفية تنصيب الحاكم وبيعته ومتى يجب الخروج عليه...

 

هل يقول قائل بعد هذا إن الرسول ﷺ كان لا يقصد من طلبه النصرة أن يأخذ الحكم؟! وهل كان غاية ما يقصد إليه رسول الله ﷺ من النصرة هو أن يعيش هو وأصحابه في بلاد من ينصرونه آمنين كأفراد لاجئين يمارسون الطقوس الدينية والدعوة لاعتناق العقيدة، وكيف تم له الحكم لو كانوا يعلمون؟! أم أنه كان تحصيل حاصل أو كما يقولون صدفةً دون قصد وطلب؟!!

 

إن رمي حزب التحرير بسوء الفهم لطلب النصرة بحجة أنها لم تكن من أجل استلام الحكم إنما هو تعصبٌ أعمى وإفلاسٌ ينبئ عن قلة علمٍ شرعي أو عن يأسٍ ناتجٍ عن ردة فعلٍ، أو فساد في طريقة التفكير والفهم تجعل الواقع والعقل مصدراً للتشريع في منطقٍ متهافتٍ وتهربٍ من الدليل وإلزاماته. وها هو الواقع للتغيير وسننه في تعاقب الدول وقيامها ينبؤنا عن كيفية إقامة الدولة واستلام الحكم رغم عدم اتخاذنا لها مصدراً للتشريع!

 

ألم تكن إقامة الدول على فكرة واستلام الحكم من أجلها تقتضي توعية الناس بالفكرة وتحميلهم إياها ثم تقصُّد أهل القوة والمنعة في المجتمع والعمل لجعلهم ينصرونها ليضعوها موضع التطبيق والتنفيذ؟ ثم ماذا كان حال من أقنعوا أكثرية الشعب دون أهل القوة والمنعة فيه، هل نجحوا أم أن أهل القوة سواء أكانوا عسكريين أم قادة قبائل تمكنوا من الانقلاب على ما سعت إليه غالبية الشعب، ثم باء التغيير بالفشل؟!!

 

أما القول بأنه من المستحيل أن يسلم أهل القوة الحكم للحزب أو لغيرهم والاحتجاج بمنطق الانهزام والتجني قائلاً بأن الصحابة أنفسهم قد تصارعوا على الحكم وتقاتلوا عليه، فهذا القول فيه ما فيه من المغالطة وتشويه الحقائق والتجني على عهد الخلافة الراشدة الأولى على منهاج النبوة، فلم يتقاتل الصحابة على الحكم وإن تنافسوا عليه ورأى بعضهم أن يرشح نفسه وأنه الأجدر بذلك، فالتنافس في منصب الخلافة جائز، ولم تكن دولة الإسلام دولة إلهية يعلم الناس خليفتهم بعد موت الخليفة السابق!!

 

بل إن عزوف من يرى من نفسه القدرة والكفاءة حين يكون الأمر لا يصلح إلا به والناس ألحت عليه أن يتولى ذلك، ربما يُعَدّ حينئذٍ واجباً كما كان في حال خلافة علي رضي الله عنه الذي رفض بعد مقتل عثمان رضي الله عنه أن يتولى الخلافة إلا بعد إلحاح من أهل الحل والعقد رضوان الله عليهم، أما معاوية فلم يكن يقاتل من أجل الحكم وإن امتنع عن البيعة لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب حتى يأخذ بدم عثمان من قتلته.

 

مع أن التاريخ ليس مصدراً للتشريع، وليس حجة على الشرع، ووجود أناس من أهل القوة والمنعة سلمت الحكم لغيرها في الواقع أمر معلوم، وهاك الدول الغربية دليلاً لمن استهوته الحضارة الغربية من التائهين والمضبوعين.

 

أما الحكام اليوم فهم مجبرون على الحفاظ على الكرسي من قبل الغرب، فهم عملاء لبعض دوله ولا يسلمون الحكم إلا برضاها، لكن هناك حوادث تاريخية حصلت وهناك أهل قوة كانوا مستعدين لتسليم الحزب أمر الحكم، ولا يأس فالقضية إذا وعاها أهل القوة والمنعة بأنها قضية إقامة الدين بإقامة دولته، وأنها واجب شرعي يحقق العزة للإسلام والمسلمين ويقود إلى نوال رضوان الله فإنهم سيضحون بما يؤثرون ولو بأنفسهم في سبيلها، وإذا كان رسولنا الكريم ﷺ قد طلب النصرة لحمايته وأصحابه وإقامة الحكم ست عشرة مرة أو يزيد، فإنه يجب علينا أن نحاول ونحاول طلب ذلك من أهلها في بلاد المسلمين دون عدد أو جدولٍ زمني، وبثقةٍ بمقلب القلوب سبحانه وتعالى، فما دامت قد قامت الدولة الإسلامية الأولى بطريقةٍ شرعيةٍ توجت بطلب النصرة وبها وحدها أقيمت الدولة، فما يسعنا إلا العمل ملتزمين ذلك، ولسوف تعود الخلافة الراشدة على منهاج النبوة من جديد وستلقى نصرةً وأنصاراً رغم تثبيط المثبطين وهرطقات مرضى النفوس اليائسين.

 

 

كتبه للمكتب الإعلامي المركزي لحزب التحرير

عبد المؤمن الزيلعي

رئيس المكتب الإعلامي لحزب التحرير في ولاية اليمن