بين الوعظ البارد وتحقيق غايات الرسالة النبوية

الدكتور صالح نصيرات

  • الإثنين 04, يوليو 2022 01:41 ص
  • بين الوعظ البارد وتحقيق غايات الرسالة النبوية
سؤال يتردد ويلح علي: لماذا نتقن الوعظ ونتفنن فيه ونتناقله بشكل كبير ومتواصل ومتكرر، في حين أننا لانجد هذا الحماس تجاه الفكر والأعمال التي تدير الرؤوس وتهتم بتغيير القناعات، أو على الأقل تلك التي تدعو التعامل مع الواقع من منظور علمي وواقعي؟ هل يمكن القول بأن الوعظ وسيلة للتخدير أكثر منها وسيلة لإيقاظ الأمة من غفلتها؟ وهل الوعظ والتفكير نقيضان؟

الغريب جدا أنه مع انتشار الوعظ المباشر انتشار النار في الهشيم، والإقبال على العبادات الفردية، لانجد أثرا كبيرا لهذا الوعظ على سلوك المسلم. مازلنا -مع كثرة الوعظ- نعاني من انتشار البلطجة والرشوة والتساهل في أكل حقوق الناس، والاستبداد وتبريره،  والتعامل مع العمل والوظيفة بإهمال وعدم مسؤولية. ومانراه من انتشار لجرائم القتل والاستهتار بحياة الناس دليل على أن الوعظ لا يلامس القلوب ولا يدخل العقول لإحداث التغير المنشود.
وهذا النوع من الوعظ ترعاه دول وحكومات ومؤسسات رسمية وغير رسمية، حتى أصبح كثير من الوعاظ "نجوم" المجتمع. ولعلي لا أبالغ إذا قلت إن الوعظ أصبح نوعا من الإلهاء بتغيير الأولويات التي يجب أن نتعامل معها في حياتنا. فمشكلاتنا كثيرة ومتعددة ولها جذور عميقة حتى كاد اليأس أن يصل إلى مستويات ليست مسبوقة.
إن غياب طرائق التفكير ومناهجه ونشوء العقلية والذهنية الباردة ، قدمت لنا حلولا سهلة ومؤقتة وملهية عن المشكلات المعقدة. فأصبح الواحد منا يعتقد أنه بمجرد كتابة موعظة أو نقلها ونشرها قد كُفي مؤونة المساءلة والمحاسبة. فهو يعتقد بإنها مصدر ثرٌّ للحسنات. حتى ترى أحيانا مقاطع مصورة تطرح علينا أسئلة من مثل
هل تريد أن تصبح مليارديرا؟؟ طبعا كثيرون يودون ذلك وبسهولة ودون جهد يُذكر. فيكون الحل السحري عند شيخنا المبجل هو "ماعليك إلا أن  تتمتم ببعض عبارات أو أدعية" وكفى المؤمنين القتال.
أما الانتقال من العقلية التبريرية، والتفكير القدري الجبري إلى التفكير السنني الذي يراه المتدبر في كتاب الله، فإنه يحتاج إلى مؤمنين بالمدافعة والمجالدة بلا كلل أو ملل. 
قد يفهم بعض الكرام كلامي على غير مقصده. فالوعظ جزء من التدين، ولكنه ليس هو الدين الذي جاءنا لعمارة الأرض وتحقيق معاني الاستخلاف والتمكين والعمران.فنحن لا ننكر على الوعاظ عملهم، ولكننا نرى أن تغيير الواقع الذي لانُحسد عليه لايمكن أن يتم بدعاء او تمتمات في زوايا المساجد. ولو كان ذلك صحيحا لجلس الحبيب محمد وحوله صحابته الكرام في مساجد  المدينة  يبحثون عن النصر وبناء الأمة ونشر دين الله بمجرد دعوات وتسبيحات، ولو فعلوا ذلك لمات الدين بموتهم. ولكن الوعي النبوي بمهمات الرسول وغايات الرسالة  جعلت من الحركة والفعل والمجاهدة و الصبر على المدافعة طريقا إلى النصر والتمكين. 
إن الدعوة إلى القراءة الواعية  والمتدبرة في أحوال الأمم  ومنها أمتنا وسير العظماء من  الأنبياء الكرام والعلماء والمفكرين والفلاسفة والأدباء والمجاهدين النبلاء، سيعطي المسلم رؤية صحيحة لما يجب عليه فعله. فهولاء يصدرون عن تدبر في كتاب الله سبحانه، فمنه استخرجوا العبر والدروس وتحدثوا عن سبل الإصلاح. ومن كتاب الله استنتجوا أن النظر في أحوال الناس عبر القرون له قيمته وفوائده الجمة، فساروا في الارض إن كان ذلك فعليا بالترحال، أو من خلال القراءة في علوم الآخرين وتراثهم. فجمعوا بين رؤية قرآنية وخبرة حياتية منظورة وتفاعل ثقافي وحضاري واع.
إهذا العمل لايقدر عليه إلا النابهون والجادون من أبناء الأمة  الذين يهمهم الحضور الحضاري و الشهادة على الناس مستلهمين قوله تعالى " وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا". وبهذا تحقق الرسالة النبوية غاياتها، وتنجز المهمة على أكمل وجه، ويكون الدين كله لله.
د. صالح نصيرات