في ليلة الإسراء...
المسجد الأقصى يستقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم
من تقدير الله في كونه أن فضّل أياما على أخرى وأماكن على غيرها وبشرا على أخرين، فخص المساجد الثلاثة بالقدسية وفضل الأنبياء على غيرهم وأولي العزم على سائر الأنبياء ومحمد صلى الله عليه وسلم على من سواه من الأنبياء والمرسلين.
ومن تلك الليالي المباركة التي أعلى الله ذكرها ليلة الاسراء والمعراج، لعظيم فضلها وجلل ما حدث فيها.
لن نتطرق هنا لتفاصيل تلك الرحلة المباركة فهذا ميدان له أهله ولكن سنلقي الضوء على أثر رحلة الإسراء على قضية المسجد الأقصى المباركة وما يمكن أن نستفيده منها في واقعنا.
من كرم الله تعالى أن تتكرر مثل هذه المناسبات الربانية لنحييَها فنحيا بها ونجددَ بذكرها الصلة مع الثوابت ونعيدَ تقوية الانتماء للحدث الجلل وما نتج عنه من عبر وبهذا نمتثل لقول ربنا سبحانه القاضي بالتفكر والتدبر " وذكّرهم بأيام الله..." .
ولأننا في شهر رجب المبارك والذي يطلق عليه " شهر الله "، وهو شهر ذو صلة مميزة بالمسجد الأقصى، فقد اختار الله فيه أن يستضيف نبيه صلى الله عليه وسلم في المسجد الأقصى ومنه إلى سدرة المنتهى، ولئن اختلف العلماء في تاريخ رحلة الاسراء تحديدا فلم يختلفوا حول الفتح المبارك للمسجد الأقصى على يد الإمام الناصر صلاح الدين الأيوبي في اليوم الـ 27 منه.
وبمقاييس البشر فرحلة المعراج أهم من رحلة الإسراء لما في الأولى من الخوارق والكرامات ما يفوق الثانية، ولكن مقاييس الله تختلف بدليل اهتمام القرآن الكريم برحلة الإسراء التي خصص لها سورة كاملة بينما رحلة المعراج لم تذكر إلا في آيات قليلة من سورة النجم، وقد يكون سبب ذلك أن رحلة المعراج تتعلق بشخص النبي صلى الله عليه وسلم بينما رحلة الإسراء تتعلق بمسار أمة كاملة توضع لها أسس جديدة ومنهجيات مغايرة واستراتيجية محيَّنة.
إن أردنا التطريق لبعض تفاصيل الإسراء فنقرر أن المسجد الأقصى كان تحت الحكم الفارسي، وبالعلم أن مكة تقع جنوب المسجد الأقصى فإن النبي صلى الله عليه وسلم قد دخل المسجد من تلك الجهة، ومن الجهة الجنوبية الغربية تحديدا لأن الجهة الجنوبية الشرقية واقعة فوق واد سحيق ولا توجد في تلك المنطقة أبواب للدخول، وقد ربط النبي دابته البراق في الحائط الغربي للمسجد الأقصى وهو المسمى الان زورا وبهتانا ب " حائط المبكى " الذي يدعي الصهاينة أنه الحائط المتبقي من الهيكل الثاني وهذا محض افتراء وتلفيق، إذ يؤكد الباحثون أن علاقة اليهود بالقدس - بالنظر إلى كتابهم المقدس " التوراة " - علاقة سطحية جدا ليست راسخة، فبنوا إسرائيل خرجوا من مصر ثم عاقبهم الله بالتيه أربعين سنة في الصحراء، بعد ذلك دخلوا فلسطين مع سيدنا يوشع بن نون وظلوا خارج القدس 403 سنة و لم يدخلوها إلا بعد سبع سنوات من حكم سيدنا داوود عليه السلام، ومع كل هذا لم يحكموها إلا 73 سنة تحت إمرة أنبياء الله الكرام داوود وسليمان عليهما السلام.
أما عما يجب أن نستفيد من رحلة الإسراء المباركة المليئة بالعبر والحِكم والدروس التي وجب فهمها وإدراك مراميها للاستفادة والوعي واستثمار مخرجاتها في واقعنا
أراد الله بالإسراء أن يسلي عن نبيه صلى الله عليه وسلم ويكرمه بحدث لم يحدث لمن قبله من البشر ولن يحدث بعده، بعد أن فقد صلى الله عليه وسلم السند من أهله في ذلك العام ولاقى من كفار قومه مالا يتحمله بشر، ومع ذلك صبر وسلّم الأمر لله وأبان – صلوات ربي وسلامه عليه – في الموقف الحرج عن تميز كبير وتسليم تام لله تعالى فاق به حتى إخوته من الأنبياء الكرام، أما ترى أن أنبياء الله تعالى – وعلى رأسهم أولو العزم الكرام - إذا فاق تكذيب قومهم الحد المستطاع أو بلغوا من الله مكانة أنس وقرب سامية طلبوا من الله معجزات تلجم مكذبيهم أو كرامات لهم، فهذا سيدنا نوح عليه السلام لما كفر به قومه وعلم من الله أنه لن يزيد منهم مؤمن واحد قال" رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا "، وهذا الخليل شيخ التوحيد سيدنا إبراهيم عليه السلام قال لربه راجيا " رب أرني كيف تحيي الموتى..."، وهذا الكليم سيدنا موسى عليه السلام لما اختلى بربه مستأنسا قال " رب أرني أنظر إليك..."، وهذا المسيح سيدنا عيسى عليه السلام لما كذبه بنو إسرائيل وطلبوا معجزة قال " اللهم أنزل علينا مائدة من السماء..." إلا نبينا صلى الله عليه وسلم لما بلغ به التكذيب والاضطهاد مبلغه قال لربه مناجيا متضرعا " إن لم يكن بك عليّ غضب فلا أبالي..."
أما عن ثاني العبر المستقاة من الرحلة أنها رحلة اختبار، سقط فيها من سقط وتميز فيها من تميز، لقد كانت رحلة الاسراء رجّة عنيفة في العقل المكيّ لا يحتملها الا من وضع تصديق النبي صلى الله عليه وسلم فوق اعتبارات التجريب والمألوف والمعتاد من أخبار القوم وشؤون الناس، فالطريق الذي يحتاج إلى شهرين ذهابا وإيابا قطعه النبي صلى الله عليه وسلم في بضع ليلة، الأمر الذي دفع بعض حديثي العهد بالإسلام إلى الردة وبالمقابل ما كان من الصادقين الا الثبات المطلق و هو ما عبّر عنه الصدّيق الواثق بكلمته الجامعة " لو كان قالها فقد صدق "... ، و ليست رحلة الاسراء بدعا من الأحداث المغربِلة فقد جعل الله من ثمار بركة فلسطين والقدس والمسجد الأقصى أنهم محطة غربلة واختبار وتمحيص، وقد خلّد القرآن حدثين في هذا السياق وهما قصة سيدنا موسى مع قومه حين أمرهم بدخول الأرض المقدسة، فلما اعترضوا عوقبوا بالتيه، وقصة سيدنا طالوت حين اختبرهم وهم على مشارف فلسطين أن لا يشربوا من النهر فشربوا إلا قليلا فعوقبوا بالحرمان.
وثالث الرسائل التي أرادت هذه الرحلة إيصالها هي العلاقة الوطيدة بين المسجد الحرام بمكة وبين المسجد الأقصى بفلسطين، وليست رحلة الإسراء هي أول مراحل العلاقة بل هي أرسخها بترسيخ القرآن لها، ولكن العلاقة في الجملة غائرة القِدم والعمق فالمسجد الحرام أول مسجد وضع في الأرض والمسجد الأقصى ثانيها، وسيدنا آدم أول نبي نزل إلى الأرض بمنطقة المسجد الحرام وسيدنا عيسى سينزل في آخر الزمان في منطقة المسجد الأقصى، وإذا كانت مكة هي عاصمة الإسلام العقائدية فالقدس هي العاصمة الجهادية، ومكة قطب النبوة لدى العرب والمسجد الأقصى قطب النبوة لدى بني إسرائيل، ومكة المكرمة نقطة انطلاق الدنيا ومركز نشوئها والمسجد الأقصى أرض المحشر والمنشر ونقطة فنائها.
ورابع هذه الرسائل وقد يكون أهمها هي تسليم راية قيادة البشرية للنبي صلى الله عليه وسلم في ذاك الحفل البهيج الذي جمع الله فيه لنبيه كلَّ الأنبياء والمرسلين من لدن آدم إلى عيسى عليهم الصلاة والسلام وأمَّهم النبي صلى الله عليه وسلم بأمر الله تعالى وتزكيته أنه صاحب ذاك المكان المتسلّمُ لمقاليده المدافعُ عنه ضد أعدائه، قال ابن كثير " فأمّهم في محلَّتهم ودارهم، فدلَّ ذلك على أنَّه الإمام الأعظم والرئيس المقدَّم "
وقد كانت هذه البيعة في المسجد الأقصى تحديدا لأنه أكثر مسجد تداول عليه الأنبياء، وكذلك هو المسجد الذي سيكون نقطة الصراع في آخر الزمان، أما ترى أن الله قد حدّد نقطة نجاح المسلمين على بني إسرائيل في الإفساد الثاني بقوله " وليدخلوا المسجد كما دخلوه أول مرة " وكأن الله ينبهنا أن المسجد نقطة الصراع وأن دخوله وحكمَه وإرجاعَه إلى السيادة الإسلامية هو نقطة الفوز الحقيقية.
وخامس رسائل رحلة الاسراء أن المسجد الأقصى عنوان البركة وقد أثبت التاريخ العام للبشرية أن تلك المنطقة لا يحكمها إلا القويّ المتمكن فما لم تتوجه دفة الاهتمام إلى المسجد الأقصى وما يحدث فيه فلا نحلم بالبركة في حياتنا ولا أمل في العزة والتمكين المرجوَين.