ورحل أنس الشريف ولم يحمل البندقية
بقلم: إبراهيم المدهون
كالصاعقة التي تخترق صمت الليل، جاء خبر اغتيال أنس الشريف وزميله محمد قراقع، مع مجموعة من الصحفيين في قناة الجزيرة، ليزلزل أرواحنا وينزف قلوبنا بحسرة وجدانية وإنسانية لا توصف. لقد عرفناه عبر شاشات التلفاز، تلك الوجوه التي تخاطبنا من قلب الألم، وحينما ظهر أنس لأول مرة على شاشة الجزيرة، كان بمثابة نجم يشع في سماء ظلمة العدوان الإسرائيلي، مع بداية حرب الإبادة على أرض غزة، في أكتوبر 2023.
ولكنّ أنس لم يكن وجهًا عابرًا، بل كان شعلة أضاءة، عرفناه منذ أن كان بسمته تختصر الصباح، وحضوره يغمر اللقاءات الإعلامية الشبابية، في المركز الشبابي الإعلامي، ووسط إعلام مخيم جباليا، حيث كان الشاب المنطلق يتعلم فنون الإعلام بشغف، وتمسك بكاميرته التي اشتراها من مصروفه الخاص، ومن معاونة أهله وأحبابه التي حملها على كاهله كأنها أجنحة تحمله نحو حلمه.
لم يكن أنس مجرد صحفي منطلق، بل كان بركةً ورثها من أبٍ فاضل، شهيدٍ سبق إلى الجنان، والده الشهيد أبو سامي الشريف، الذي ودع ابنه شادي في عام 2004 بوجهٍ يملؤه الصبر والاحتساب، بالرضا والقَبول.
كان أبو سامي رمزًا للنقاء، للعفوية، للكلام الصادق الجميل، للانتماء الصافي، للصبر، للصمود، للثبات. وكنت حين ألتقيه أرى في ملامحه ابتسامة القلب المتهلل، بلحيته البيضاء نقي السريرة، يفتح الأبواب بصفاء الأولين، وأعتقد أن مسيرة أنس هي امتداد لذلك النقاء، لتلك السريرة الطيبة، التي ما زالت ترنم بين صفحات الزمن، وها قد استشهد والده في بداية هذه الحرب، لكنه أكمل طريقه محملاً بفخرٍ وحبٍ كبير، وهو يرى أنس الجميل يملأ شاشات العالم بنوره.
رحم الله أنس الذي كنا نراه يبتسم كزهرة في بستان، محبوبًا من كل من يلتقيه، من القلوب التي احتضنته، ويدعونه ليزيد من حضور الفعاليات، وليوثّق بلمساته البسيطة، بكاميرته التي صاغت لنا ذكريات وأحداثًا لا تُنسى. في المسيرات والمهرجانات واللقاءات، كان يلتقط الصور بمهارة تشهد له بالرقي، رغم أنه لم يتعلم فن التصوير، وإذا به يصير من أمهر المصورين، يمتلك حضورًا وجُرأة، يملأ المواقع بصوره التي تنطق باسم الصحافة الحقيقية، باسم أنس الشريف.
عمل في أماكن متعددة، ولم يكن يسأل إلا عن إتقان دوره، بعيدًا عن أي زيف أو تظاهر. الصحافة كانت كأنها جزء منه، وهو جزء منها، مزجها بروحه دون نقصان.
وحين اندلعت تلك الحرب العظيمة، تعرّضت جباليا مسقط رأسه لقذائف قاتلة، وكان أنس من الصحفيين القلائل الذين ثبتوا، فثبات الصحفيين كان كصلابة المقاتلين، فالصورة صاروخ، والكاميرا بندقية، والمشهد كلمة وموقف. نحن في معركة الرواية، والصورة، والمشهد، والتي عبرها بنى أنس رواية أطفال فلسطين وجوعهم، وألمهم، لينتصر على طائرات الحرب وقذائف الدبابات.
اختارته قناة الجزيرة كواحد من الصحفيين المميزين، وكان في كل يوم يثبت أنه صحفي من الطراز الفريد، صحفي لم تتعلمه الأكاديميات، لكنه يحمل في داخله أجمل ما قد يحمله صحفي: المصداقية، الجرأة، الإقدام، السعي وراء الحقيقة، البحث عن الصورة، نقلها بمهارة وموضوعية، وبمهنية عالية، وبعفوية تكاد تكون لغة قلبه.
فعفوية أنس، كانت العلامة التي اخترقت ليس فقط شاشة الجزيرة، بل قلوب الملايين من الشباب في فلسطين والعالم، حتى صار أنس عبر تويتر والمنصات الاجتماعية محطةً تجذب القلوب، وتجعل من قصته نبضًا إعلاميًا حقيقيًا. وهذا هو سبب استهدافه، وقتله، وسفك دمه، دم الصورة، والرواية، والحقيقة، والعدسة التي لم تخضع.
رحل أنس الشريف، ولم يحمل بندقية أو صاروخًا، بل حمل المايك والكاميرا، حاملاً الحقيقة في قلبه وعينه. لم يُقتل إلا لأنه فلسطيني، صحفي مهني نقل الحقيقة، صور الواقع، وعبّر عنه كما يجب أن يُعبّر.
رحم الله أنس، رحمةً واسعة، والله يا أنس، تتألم العيون والقلوب عليك، وأعزي نفسي أولًا، وأعزي آل الشريف الكرام، وأعزي مخيم جباليا، وأعزي قطاع غزة، وأهاليه، وقناة الجزيرة، وطواقمها، وأعزي العالم الحر والصحافة الحرة، في استشهاد أنس الشريف.
بقلم: إبراهيم المدهون
كالصاعقة التي تخترق صمت الليل، جاء خبر اغتيال أنس الشريف وزميله محمد قراقع، مع مجموعة من الصحفيين في قناة الجزيرة، ليزلزل أرواحنا وينزف قلوبنا بحسرة وجدانية وإنسانية لا توصف. لقد عرفناه عبر شاشات التلفاز، تلك الوجوه التي تخاطبنا من قلب الألم، وحينما ظهر أنس لأول مرة على شاشة الجزيرة، كان بمثابة نجم يشع في سماء ظلمة العدوان الإسرائيلي، مع بداية حرب الإبادة على أرض غزة، في أكتوبر 2023.
ولكنّ أنس لم يكن وجهًا عابرًا، بل كان شعلة أضاءة، عرفناه منذ أن كان بسمته تختصر الصباح، وحضوره يغمر اللقاءات الإعلامية الشبابية، في المركز الشبابي الإعلامي، ووسط إعلام مخيم جباليا، حيث كان الشاب المنطلق يتعلم فنون الإعلام بشغف، وتمسك بكاميرته التي اشتراها من مصروفه الخاص، ومن معاونة أهله وأحبابه التي حملها على كاهله كأنها أجنحة تحمله نحو حلمه.
لم يكن أنس مجرد صحفي منطلق، بل كان بركةً ورثها من أبٍ فاضل، شهيدٍ سبق إلى الجنان، والده الشهيد أبو سامي الشريف، الذي ودع ابنه شادي في عام 2004 بوجهٍ يملؤه الصبر والاحتساب، بالرضا والقَبول.
كان أبو سامي رمزًا للنقاء، للعفوية، للكلام الصادق الجميل، للانتماء الصافي، للصبر، للصمود، للثبات. وكنت حين ألتقيه أرى في ملامحه ابتسامة القلب المتهلل، بلحيته البيضاء نقي السريرة، يفتح الأبواب بصفاء الأولين، وأعتقد أن مسيرة أنس هي امتداد لذلك النقاء، لتلك السريرة الطيبة، التي ما زالت ترنم بين صفحات الزمن، وها قد استشهد والده في بداية هذه الحرب، لكنه أكمل طريقه محملاً بفخرٍ وحبٍ كبير، وهو يرى أنس الجميل يملأ شاشات العالم بنوره.
رحم الله أنس الذي كنا نراه يبتسم كزهرة في بستان، محبوبًا من كل من يلتقيه، من القلوب التي احتضنته، ويدعونه ليزيد من حضور الفعاليات، وليوثّق بلمساته البسيطة، بكاميرته التي صاغت لنا ذكريات وأحداثًا لا تُنسى. في المسيرات والمهرجانات واللقاءات، كان يلتقط الصور بمهارة تشهد له بالرقي، رغم أنه لم يتعلم فن التصوير، وإذا به يصير من أمهر المصورين، يمتلك حضورًا وجُرأة، يملأ المواقع بصوره التي تنطق باسم الصحافة الحقيقية، باسم أنس الشريف.
عمل في أماكن متعددة، ولم يكن يسأل إلا عن إتقان دوره، بعيدًا عن أي زيف أو تظاهر. الصحافة كانت كأنها جزء منه، وهو جزء منها، مزجها بروحه دون نقصان.
وحين اندلعت تلك الحرب العظيمة، تعرّضت جباليا مسقط رأسه لقذائف قاتلة، وكان أنس من الصحفيين القلائل الذين ثبتوا، فثبات الصحفيين كان كصلابة المقاتلين، فالصورة صاروخ، والكاميرا بندقية، والمشهد كلمة وموقف. نحن في معركة الرواية، والصورة، والمشهد، والتي عبرها بنى أنس رواية أطفال فلسطين وجوعهم، وألمهم، لينتصر على طائرات الحرب وقذائف الدبابات.
اختارته قناة الجزيرة كواحد من الصحفيين المميزين، وكان في كل يوم يثبت أنه صحفي من الطراز الفريد، صحفي لم تتعلمه الأكاديميات، لكنه يحمل في داخله أجمل ما قد يحمله صحفي: المصداقية، الجرأة، الإقدام، السعي وراء الحقيقة، البحث عن الصورة، نقلها بمهارة وموضوعية، وبمهنية عالية، وبعفوية تكاد تكون لغة قلبه.
فعفوية أنس، كانت العلامة التي اخترقت ليس فقط شاشة الجزيرة، بل قلوب الملايين من الشباب في فلسطين والعالم، حتى صار أنس عبر تويتر والمنصات الاجتماعية محطةً تجذب القلوب، وتجعل من قصته نبضًا إعلاميًا حقيقيًا. وهذا هو سبب استهدافه، وقتله، وسفك دمه، دم الصورة، والرواية، والحقيقة، والعدسة التي لم تخضع.
رحل أنس الشريف، ولم يحمل بندقية أو صاروخًا، بل حمل المايك والكاميرا، حاملاً الحقيقة في قلبه وعينه. لم يُقتل إلا لأنه فلسطيني، صحفي مهني نقل الحقيقة، صور الواقع، وعبّر عنه كما يجب أن يُعبّر.
رحم الله أنس، رحمةً واسعة، والله يا أنس، تتألم العيون والقلوب عليك، وأعزي نفسي أولًا، وأعزي آل الشريف الكرام، وأعزي مخيم جباليا، وأعزي قطاع غزة، وأهاليه، وقناة الجزيرة، وطواقمها، وأعزي العالم الحر والصحافة الحرة، في استشهاد أنس الشريف.