غزة بعد "الخط الأصفر".. احتلال ناعم يعيد هندسة الأرض والسياسة

  • الخميس 13, نوفمبر 2025 09:03 ص
  • غزة بعد "الخط الأصفر".. احتلال ناعم يعيد هندسة الأرض والسياسة
غزة اليوم ليست فقط ساحة مواجهة، بل مختبر سياسي وجغرافي تُعاد فيه صياغة الواقع على نحو غير مسبوق، ففي عمق المشهد، تمضي "إسرائيل" في تنفيذ سياسة إعادة هندسة دقيقة للقطاع، تُرسم ملامحها على الأرض عبر ما بات يُعرف بـ "الخط الأصفر".. حدّ أمني صامت، غير مُعلن، لكنه يرسم بوضوح حدود السيطرة والحركة والحياة.
غزة بعد "الخط الأصفر".. احتلال ناعم يعيد هندسة الأرض والسياسة
غزة - وكالة سند للأنباء
غزة اليوم ليست فقط ساحة مواجهة، بل مختبر سياسي وجغرافي تُعاد فيه صياغة الواقع على نحو غير مسبوق، ففي عمق المشهد، تمضي "إسرائيل" في تنفيذ سياسة إعادة هندسة دقيقة للقطاع، تُرسم ملامحها على الأرض عبر ما بات يُعرف بـ "الخط الأصفر".. حدّ أمني صامت، غير مُعلن، لكنه يرسم بوضوح حدود السيطرة والحركة والحياة.
والخط الأصفر هو منطقة عازلة أقامها جيش الاحتلال الإسرائيلي على طول قطاع غزة منذ اتفاق وقف إطلاق النار الأخير، وتُعد اليوم أحد أبرز معالم الواقع الميداني الجديد في القطاع.
وبحسب الإعلان الإسرائيلي، يهدف هذا الخط إلى تحديد حدود يُمنع الاقتراب منها بوضوح لكل الفلسطينيين، مع التحذير بأن أي محاولة لعبور الخط ستُقابل بإطلاق النار.
ووفقًا لبنود الاتفاق، انسحبت قوات الاحتلال إلى هذا الخط مباشرة بعد وقف إطلاق النار في 10 أكتوبر/ تشرين أول الماضي، لتتمركز ضمن نطاق يشكّل طوقًا عسكريًا يحيط بالقطاع.
ما يُقدَّم بوصفه إجراءً أمنيًا مؤقتًا، يتحوّل في جوهره إلى خطة طويلة المدى لإعادة رسم خرائط غزة السياسية والاقتصادية، وتثبيت واقع جديد يُقسم القطاع فعليًا، ويمهّد لتحوّلات أعمق في مستقبل الصراع وموازين القوى.
خريطة السيطرة الجديدة
تستند البيانات الميدانية إلى تقارير رسمية وتحليلات محلية تشير إلى أن جيش الاحتلال الإسرائيلي يسيطر على نحو 53٪ من مساحة القطاع، تشمل الأراضي الشرقية الزراعية والمناطق الحيوية، وصولًا من رفح جنوبًا إلى شمال بيت لاهيا.
ويخلق هذا الانتشار ممرات شبه معزولة بين المدن والمخيمات، ويحول غزة إلى مساحة مقطعة الأوصال، ما يصعب حركة السكان ويحد من تواصل المجتمعات فيما بينها.
"الخط الأصفر" لا يمثل إعلان احتلال مباشر فحسب، بل أداة تسمح لـ "إسرائيل" بالتحكم في الأرض وفرض شروط أمنية صارمة، مع الاحتفاظ بخيار الرد العسكري الفوري على أي اختراق فلسطيني.
هذا يتيح لـ "تل أبيب" مزيدًا من المرونة في إدارة الواقع الميداني، دون مواجهة مباشرة مع القانون الدولي فيما يتعلق بالاحتلال.
الأمن كذريعة للهيمنة
تقدم "إسرائيل" "الخط الأصفر" على أنه إجراء أمني، يهدف إلى الحد من الاحتكاك مع السكان، لكنه يحمل أبعادًا أبعد بكثير، وفق خبراء محليون.
فهو يشكل آلية لإدارة غزة عبر تكريس واقع ميداني يضمن السيطرة الإسرائيلية على المدى الطويل، ويعيد رسم حدود النفوذ وفق منطق "الأمن مقابل الهيمنة".
وبذلك يتحول الخط من مجرد حد تكتيكي إلى أداة استراتيجية لإعادة هندسة الواقع الفلسطيني الداخلي.
حين تُزرع الحدود بدل القمح
لطالما شكّلت الأراضي الزراعية في المناطق الشرقية لغزة شريان الحياة الاقتصادي والاجتماعي للقطاع، لتصبح مصدر دخل رئيسيًا لعشرات آلاف الأسر الفلسطينية.
هذه الأراضي لم تكن مجرد مساحة إنتاجية، بل شكلت جزءًا من بنية اقتصادية تضمن الأمن الغذائي المحلي وتدعم الاقتصاد الفلسطيني الجزئي داخل القطاع.
ومع تحويل هذه المناطق إلى مناطق عسكرية مغلقة، توقف الإنتاج الزراعي بشكل كامل، وفقد آلاف المزارعين مصدر رزقهم المباشر.
بينما أصبحت نحو 86٪ من الأراضي الزراعية غير قابلة للوصول وفق تقديرات وزارة الزراعة الفلسطينية، وتجاوزت الخسائر المباشرة مليار دولار، مع فقدان نحو 40 ألف مزارع لوظائفهم أو أراضيهم.
هذا التحول لا يقتصر على منع الزراعة فحسب، بل يمتد إلى شل القدرة على التصدير وتأمين مستلزمات الإنتاج الأساسية مثل البذور والأسمدة والمضخات.
هذه المواد تصنّفها "إسرائيل" ضمن "المواد مزدوجة الاستخدام" وتفرض قيودًا صارمة على دخولها.
من منظور تحليلي، يمثل هذا التحكم في الموارد الزراعية خطوة استراتيجية تهدف إلى إضعاف القدرة الاقتصادية للقطاع وخلق اعتماد كامل على المساعدات الخارجية.
ويؤكد مدير شبكة المنظمات الأهلية في غزة، أمجد الشوا، أن هذه السيطرة تهدف إلى "شل الدورة الاقتصادية للقطاع ومنع أي إمكانية لإعادة بناء مقومات الحياة والإنتاج".
ويشدد "الشوا" في حوار خاص مع "وكالة سند للأنباء"، أن "الاحتلال يسعى عبر هذا النهج إلى خنق غزة اقتصاديًا ودفع سكانها نحو الهجرة القسرية"، عبر خلق واقع اقتصادي واجتماعي لا يمكن احتماله.
ويعتقد "الشوا" أن هذا يعكس استراتيجية طويلة الأمد لإبقاء القطاع تحت ضغط اقتصادي دائم، وجعل الحياة المستقلة للأهالي شبه مستحيلة.
من الإنتاج إلى الإغاثة
بالإضافة إلى السيطرة على الأرض، يتحول القطاع تدريجيًا إلى منطقة تعتمد شبه كامل على المساعدات الإنسانية، مع تقييد القدرة على الإنتاج المحلي.
ويشير المختص في الشأن الاقتصادي محمد أبو جياب إلى أن الخط الأصفر يشمل 60٪ من الأراضي الصالحة للزراعة، ما يمثل نحو نصف الإنتاج الزراعي المحلي.
ويحذر "أبو جياب" في حوار مع "وكالة سند للأنباء"، في أن السيطرة المباشرة على الغذاء المحلي سيجعل الغزيين يعتمدون على المساعدات الدولية فقط.
ويوضح أن السيطرة الإسرائيلية طالت المناطق الصناعية الحيوية، مثل المدينة الصناعية شرق غزة والشمال قرب بيت حانون، التي دُمّرت خلال فترة حرب الإبادة (أكتوبر 2023 - أكتوبر 2025).
ويشير "أبو جياب" إلى أن تدمير هذه المناطق الزراعية والصناعية أسهم في فقدان آلاف الوظائف وزيادة معدلات البطالة والفقر.
قبل الحرب، شكل القطاع الزراعي نحو 15٪ من الناتج المحلي، فيما كانت الصناعة الخفيفة قاعدة أساسية للإنتاج المحلي للمواد الغذائية والإنشائية.
وكله كان يتوفر في المناطق التي تسيطر عليها "إسرائيل" الآن قبل أن تتحول الجغرافيا والبنية التحتية لهذه المناطق إلى رماد.
سيطرة سياسية مستترة
سياسيًا، يمثل الخط الأصفر تحولًا في العقيدة الأمنية الإسرائيلية، إذ يتيح السيطرة على غزة دون إدارة مباشرة، مع إبقاء النفوذ الأمني والاقتصادي بيد "إسرائيل".
ويحول وجودها في المناطق الحيوية إلى "جدار حماية" وفق ما يصفه المحلل الإسرائيلي أكرم عطا الله، في إطار نظرية "الجدار الحديدي"، التي تهدف إلى خلق حاجز دائم يمنع أي اختراق.
وتشير هذه النظرية لمنظرها "جوبتنسكي" التي ظهرت في عشرينات القرن الماضي، إلى مجموعة من الإجراءات والتدابير الهادفة إلى حماية مستوطنات الغلاف من أي تهديد.
يوضح "عطا الله" لـ "وكالة سند للأنباء"، أن "إسرائيل" ترى في وجودها الدائم في هذه المناطق ليس خياراً تكتيكياً فحسب، بل هدفاً استراتيجياً لضمان أمنه طويل الأمد داخل قطاع غزة عبر الاحتلال الدائم.
من منظور سياسي أوسع، "الخط الأصفر" يعكس توجه "إسرائيل" نحو فرض السيطرة غير المباشرة على غزة، بما يضمن الأمن القومي الإسرائيلي.
كما يشير الباحث صادق أبو عامر إلى أن الهدف السياسي الأعمق هو فرض واقع ديموغرافي جديد داخل القطاع، عبر فصل مناطق مأهولة بالسكان عن الأخرى وتقليص القدرة على قيام كيان فلسطيني موحد اقتصاديًا وسياسيًا.
"وهذا يعيد ترتيب العلاقة بين السكان وقطاع غزة، ويضعهم أمام خيار قاس: البقاء تحت شروط الاحتلال داخل مناطق الخط الأصفر أو الاعتماد على إدارة حماس المثقلة بالقيود والأعباء"، وفقًا لـ "أبو عامر".
ويزيد في حديثه مع "وكالة سند للأنباء"، أنّ "إسرائيل" بذلك تسعى إلى توريط حركة "حماس" سياسيًا ضمن استراتيجية تقوم على مبدأ "دع حماس تهزم نفسها بنفسها"، بحيث تتحمل الأخيرة تبعات الانهيار المدني والإداري دون أن تحقق "تل أبيب" نصرًا عسكريًا مباشرًا.
ويشير إلى أن المناطق المتبقية من غزة بعد تنفيذ هذا المخطط أصبحت غير قابلة للحياة اقتصاديًا وسكانيًا، ما يجعلها مرتهنة بشكل دائم للمساعدات، وهي ورقة تستخدمها "إسرائيل" كأداة مساومة سياسية وبديل عن عملية الإعمار.
ويرى "أبو عامر" أن "إسرائيل" تسعى لإطالة المرحلة الانتقالية لما بعد الحرب عبر ذريعة تفكيك قدرات "حماس"، خاصة الأنفاق.
وهذه الذريعة توظفها "إسرائيل"؛ لتبرير عدم الانتقال إلى المرحلة الثانية من اتفاق وقف إطلاق النار الذي مضى عليه أكثر من شهر والإبقاء على حالة اللااستقرار التي تتيح لها حرية العمليات العسكرية متى شاءت.
ويخلص "أبو عامر" إلى أن الغاية النهائية لهذه السياسة هي تحقيق أهداف الحرب بوسائل غير عسكرية تتمثل في: خلق واقع ديموغرافي جديد، تقليص فرص الإعمار، منع قيام دولة فلسطينية موحدة، وإبقاء غزة منطقة هشّة تعتمد على المساعدات وتخضع لإشراف أمني إسرائيلي دائم.
إعمار مؤجل وواقع معلق
خسائر البنية التحتية في غزة تجاوزت عشرين مليار دولار وفق تقديرات أممية أولية، تشمل شبكات المياه والكهرباء والمستشفيات والمدارس والمنازل المدمرة.
ومع استمرار الاحتلال في المناطق الواقعة ضمن الخط الأصفر، يظل إعادة الإعمار شبه مستحيل، بسبب منع دخول المعدات ومواد البناء، واستمرار القيود على الحركة.
ويؤكد أمجد الشوا أن إعادة الحياة إلى الزراعة والصناعة يمثل السبيل الوحيد لإنقاذ القطاع من الانهيار الكامل، مع ضرورة فتح المعابر وإنهاء المنطقة العازلة الشرقية التي تمثل 35٪ من الأراضي الزراعية الخصبة.
غزة تحت الخط الأصفر: مجتمع مقطّع، واقتصاد معلّق، وقرار فلسطيني رهين بالنفوذ الإسرائيلي والاحتلال طويل الأمد، لتبقى الأسئلة مفتوحة: كيف سيكتب الفلسطينيون غدهم، وسط هذا الضغط المستمر؟