الشرق الأوسط: هوية حضارية وثقافية
مصطفى إنشاصي
إن كان التاريخ هو الحدث؛ فإن الثقافة هي الوعي بالحدث! فما أكتبه ليس تاريخ أو تحليل وقراءة آنية للحدث إنما هو ثقافة التاريخ، الوعي بالتاريخ، لفهم الواقع وأبعاد الصراع، تلك هي مهمة الكاتب والمثقف والمفكر نشر الوعي بين أبناء الأمة.
ولفهم موقف الغرب الأوروبي - الأمريكي مما يجري في غزة ودعمه لكيان العدو وسعيه لتصفية قضية الأمة المركزية (فلسطين) وإعادة تشكيل جغرافية (الشرق الأوسط الجديد) استجابة لدعوة وزير خارجية العدو عام 1995 في كتابه (الشرق الأوسط الجديد)، الذي دعا فيه لإقامة النظام الإقليمي الجديد، ودمج كيان العدو في نسيجه الاجتماعي وكأنه جزء منه منذ آلاف السنين، وإنهاء حالة الصراع والعداء بكذبة (السلام والتطبيع)، وإحكام سيطرته على وطننا ومقدراته، علينا أن نعي أهمية ومكانة فلسطين في المخططات والمشاريع الغربية ضد الأمة والوطن، وأنها ليست مستهدفة لذتها لكن لضرب الإسلام وتمزيق الأمة، و(إسرائيل) هي مركز الهجمة الغربية ضدنا.
الحدود الجغرافية لـ(الشرق الأوسط) وتاريخ المصطلح
مصطلح (الشرق الأوسط) "مصطلح غربي (استعماري) كثر استخدامه إبان الحرب العالمية الثانية وهو يشمل منطقة جغرافية تضم سوريا ولبنان وفلسطين والأردن والعراق والخليج العربي ومصر وتركيا وإيران، وتتوسع لتشمل أفغانستان وقبرص وليبيا أحياناً ... كما أن للمصطلح دلالة على مركزية أوروبا في العالم وهو (شرق أوسط) بالنسبة لموقعها الجغرافي".
فـ(مصطلح الشرق الأوسط) ليس له امتداد تاريخي في تاريخنا العربي أو الإسلامي وليس من انتاجهما، ولكنه مصطلح مستورد دخيل على تاريخنا له أبعاد ومضامين فكرية ذات أبعاد سياسية (استعمارية) ضد وطننا وأمتنا. وقد استخدم مصطلح (الشرق الأوسط) منذ ظهوره مع مشارف القرن العشرين في الدوائر الرسمية الغربية ووسائل الإعلام الغربي للدلالة على منطقة جغرافية بعينها من العالم، تسكنها شعوب يربط فيما بينها رباط الدين والعقيدة، مع اختلاف تعدد عناصرها القومية وهو في الأصل اصطلاح سياسي، أطلق على المنطقة العربية وما جاورها من بلدان مشرق الوطن الإسلامي. وقد حل محل المصطلح الغربي (المسألة الشرقية)، الذي كانت تطلقه الدول (الاستعمارية) الغربية ووسائل إعلامها على ممتلكات الدولة العثمانية الأوروبية منها والإسلامية، وبعد حرب البلقان (1912 – 1913) واستقلال اليونان آخر الولايات العثماني الأوروبية ولم يتبقَ إلا الولايات العربية الإسلامية، شاع استخدام مصطلح (الشرق الأوسط) للدلالة على المخططات الغربية، تجنباً لاستخدام مصطلح الشرق الإسلامي، أو الوطن العربي والإسلامي، كيلا يستثير الروح الإسلامية في المنطقة ضد الغرب والعدو الصهيوني ومحاولات الهيمنة على وطننا، وحتى لا تقوى النزعة الداعية إلى إقامة الجامعة الإسلامية آنذاك. أو كما يرى القوميون العرب كان لتجنب استخدام مصطلح المنطقة العربية لمحاربة مفهوم القومية العربية ونزع صفة الوحدة عنها.
فالمصطلح ليس له ما يبرره في التاريخ، ولم نسمع بأي حركة في التاريخ العربي والإسلامي أنها نادت بوحدة (الشرق الأوسط) يوماً، وأياً كانت حدود (الشرق الأوسط) الجغرافية في المفاهيم والمناظير الغربية التي تتفاوت بتفاوت مصالحها حسب كل مرحلة من مراحل صراعها مع أمتنا للهيمنة على ثروات وطننا، يبقى الجزء الرئيس منها ومركز ثقلها، هم العرب، وبلادهم بها مخزون العالم الاستراتيجي من الثروات المتنوعة، وعلى رأسها مصادر الطاقة من النفط والغاز الطبيعي، وهي مهد الحضارات الإنسانية ومهبط الوحي بالرسالات السماوية، ومعبر الجيوش والقوافل التجارية قديماً وحديثاً، في حلقة الوصل بين قارات العالم القديم.
وقد كان أول من استخدم مصطلح (الشرق الأوسط) هو (ألفرد تيير ماهان) الضابط والمؤرخ البحري الأمريكي عام 1902 وذلك لتحديد المنطقة الواقعة بين شبه الجزيرة العربية والهند، عند مناقشته للاستراتيجية البحرية البريطانية في مواجهة التحرك الروسي في إيران، ومخطط ألمانيا في إنشاء خط للسكك الحديدية – وقتذاك – يربط بين برلين وبين بغداد العثمانية من ناحية أخرى، حيث شمل المصطلح تركيا وإيران وبلدان الخليج العربي.
وإن كانت أمريكا أول من ابتدع هذا المصطلح ليكون له دلالة سياسية وعسكرية، فإن بريطانيا كانت أول من روج هذا المصطلح سياسياً وإعلامياً، حيث كانت صحيفة "التايمز البريطانية أول من نقل هذا التعبير الجغرافي الجديد، ثم استخدمته بعد ذلك حكومة بريطانيا رسمياً "عند قيام وينستون تشرشل في 1921، بعد الحرب العالمية الأولى، بإنشاء (إدارة الشرق الأوسط) في وزارة (المستعمرات) التي كان يتولاها كي تدير شئون فلسطين وشرق الأردن والعراق، والتي ما لبثت أن امتد اختصاصها إلى مصر".
وفي أثناء الحرب العالمية الثانية وسّع الحلفاء حدود (الشرق الأوسط) لتضم "مجموعة البلدان الواقعة في غرب الهند بآسيا ومنطقة شمال إفريقيا، بما أصبح في النهاية عنواناً على كل البلدان العربية وتركيا وإيران، ثم رقعة الدول المجاورة لها، التي كانت تتسع أو تضيق حسب الظروف. وإن انتهت بضم إثيوبيا (الحبشة) لها". وقد ظلت هذه الحدود الجغرافية لـ(لشرق الأوسط) شبه ثابتة في السياسة الغربية والعالمية طوال فترة الحرب الباردة، والصراع بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي.
(الشرق الأوسط) بعد انتهاء الحرب الباردة
وبعد تفكك الاتحاد السوفيتي، وبعد حرب الخليج الثانية وإخراج العراق من الكويت ونجاحها في جمع الأطراف المتصارعة في (الشرق الأوسط) على مائدة المفاوضات فيما يسمى مؤتمر مدريد للسلام عام 1991، وبعد توقيع اتفاقية أوسلو 1993 بين منظمة التحرير الفلسطينية وكيان العدو، واتفاقية وادي عربة عام 1994 بين الأردن وكيان العدو، ولد وضع جديد يمثل في نظر المخطط الأمريكي تهديداً لمصالح الغرب الأمنية – الاستراتيجية في المنطقة (نفط الخليج وأمن كيان العدو الصهيوني). وهذا الخطر يتمثل في: استقلال الجمهوريات الإسلامية الست "جمهوريات آسيا الوسطى" التي كانت جزءاً من الاتحاد السوفيتي سابقاً، ومنها جمهوريتان تحتويان على كميات كبيرة من النفط والغاز الطبيعي، والخوف من انتقال الإسلام السياسي الثوري إليها مما سيؤثر على المصالح الأمنية الاستراتيجية لأمريكا والغرب في المنطقة.
ولما كانت عملية التغيير الشامل جارية في منطقة (الشرق الأوسط)، كان لا بد من إعادة صياغة وتعريف مصطلح (الشرق الأوسط) وتحديده جغرافياً وسياسياً واقتصادياً وأمنياً وفق تلك التغييرات والتوجهات الجديدة، ووفقاً للمصالح الأمريكية التي تحاول الانفراد بقيادة النظام العالمي الجديد، وتمهيداً لتنفيذ (مشروع الشرق الأوسط الجديد وسوقه الشرق أوسطية) في المنطقة، الذي اقترحه وزير خارجية العدو الصهيوني بعد توقيع اتفاق أوسلو خدمة لمصالح الغرب والعدو الصهيوني، فظهرت مفهومات جديدة لمصطلح (الشرق الأوسط)، سنعرض لبعضها مع التحليل:
يرى (يوسف صايغ) أن الرؤية اليهودية لـ(لشرق الأوسط) تستمد من الجذور التاريخية والتوراتية، التي حددت الأرض من الفرات إلى النيل ميراثاً للشعب اليهودي، يقول:
"تمتد تاريخية المنظور (ونحن نغفل شمال أفريقيا من البحث) في إطار الحركة الصهيونية ودولة (إسرائيل) من الجذور التاريخية (التي تحدد المنطقة من الفرات إلى النيل ميراثاً للشعب اليهودي)، إلى يوميات هرتزل، إلى أدبيات الصهيونية السياسية والجغرافية (خاصة قبل صدور وعد بلفور ومؤتمر فرساي عام 1919 وبعدها) إلى تجسيد المنظور صراحة بعد حرب حزيران/يونيو 1967 بكتاب رسمي أصدرته (إسرائيل) بعنوان (الشرق الأوسط عام 2000)".
ويستطرد قائلاً: "يمكن ملاحظة ضبابية مفهوم (الشرق الأوسط) مقابل مفهوم الوطن العربي أو المنطقة العربية. فالأول تعبير جغرافي عائم لم تتضح حدوده بعد، فهو يستثني الأقطار العربية في شمال أفريقيا، لكنه يضم بعض الأقطار العربية من مصر والسودان والصومال غرباً، والعراق شرقاً، واليمن جنوباً، وإلى ذلك المدى، فهو يجزئ المنطقة العربية الواحدة بعملية افترائية تعسفية متعمدة ... المصطلح يضم إلى جانب البلدان العربية المشرقية، و(إسرائيل) القائمة على التراب الفلسطيني بالاغتصاب والاقتلاع والسلب، كلاً من قبرص وتركيا وإيران .. وهي غير عربية – مع أن البيان الختامي لقمة الدار البيضاء لا يذكر البلدان الثالثة الأخيرة بالاسم.
ثم إن البعض يوسع المنظور ليشمل أفغانستان كذلك، مع إمكانية امتداده شرقاً من أفغانستان وشمالاً من تركيا. فالمنظور لا يعدو أن يكون تعبير عن بقعة جغرافية غير ثابتة الحدود ... وأخيراً ففي جميع الأحوال يشمل المنظور (إسرائيل) – بل إن (إسرائيل) كما يقول مسئولوها هي قلب (الشرق الأوسط) وتلتقي فيها معظم المشاريع والبرامج المنشورة في إطار (الشرق الأوسط) – وهي مقولة جاءت في خطاب الوزير الصهيوني بيريز في قمة الدار البيضاء.
أما (شيمون بيريز) في كتابه "الشرق الأوسط الجديد" يحدد خريطته: "بأنها تمتد من حدود مصر الغربية حتى حدود باكستان الشرقية ومن تركيا وجمهوريات آسيا الوسطى الإسلامية شمالاً حتى المحيط الهندي وشمال السودان جنوباً، وهي منطقة تجمع دولاً عربية وإسلامية وليس فيها خارج هاتين الدائرتين (العروبة والإسلام) سوى (إسرائيل)".
الهوية الحضارية والثقافية لـ(الشرق الأوسط)
وسواء ضاقت مساحة (الشرق الأوسط) الجغرافية أو اتسعت، فإنه يعني في المفاهيم الغربية الوطن الإسلامي، الذي يمثل مناطق النفوذ للدول الغربية المتنافسة للسيطرة عليه وعلى ثرواته، والمتفقة فيما بينها على أن عقيدة شعوبه المتنوعة الأعراق والأجناس تمثل العدو المركزي للغرب وأطماعه، والبديل الحضاري عن نموذجه الحضاري الذي يحاول فرضه على العالم تحت مسميات عدة، أبرزها: العولمة.
الوطن الإسلامي! الذي انتهت دراسات وأبحاث مؤتمر لندن الذي عقد عام 1905 للبحث عن وسيلة تمنع الحضارة الغربية من الفناء كما جاء في خطاب كامبل بنرمان رئيس وزراء بريطانيا في الجلسة الافتتاحية للمؤتمر: "إن الحضارة الأوروبية مهددة بالانحلال والفناء والواجب يقضي علينا أن نبحث في هذا المؤتمر عن وسيلة فعالة تحول دون انهيار حضارتنا". وبعد سنتان أنهى المؤتمر دراسته وقدم نتائج عام 1907 في تقرير سري (تقرير كامبل بنرمان) وقد حدد التقرير موطن الخطر الذي يهدد الحضارة الأوروبية: بأنه يكمن في الشعب الواحد الذي يعيش على الشواطئ الجنوبية والشرقية للشريان البحري الحيوي لتلك الدول وللتجارة العالمية، البحر المتوسط، والتواصل بين تلك الدول ومناطق احتلالها.
لذلك كانت توصياته العاجلة تتمثل في : "ضرورة فصل الجزء الإفريقي من المنطقة العربية عن جزئها الآسيوي وضرورة إقامة الدولة العازلة إذ أن إقامة حاجز بشري قوي على الجسر الذي يربط أوروبا بالعالم القديم ويربطهما معا بالبحر المتوسط بحيث يشكل من هذه المنطقة، وعلى مقربة من قناة السويس قوة عدوة لشعب المنطقة، وصديقة للدول الأوروبية ومصالحها هو التنفيذ العملي العاجل للوسائل والسبل المقترحة". وتجسدت هذه التوصية في (وعد بلفور) 1917، الذي وضه أسس التحالف اليهودي – الصليبي واقعاً في فلسطين وتحويلها إلى وطن لليهود، لتكون رأس الحربة للصهيونية واليهودية العالمية والغرب ضد المسلمين!
وقد كان من الوسائل والسبل أيضا: "العمل على إيجاد التفكيك والتجزئة والانقسام وإنشاء دويلات مصطنعة تابعة لتلك الدول وخاضعة لسيطرتها وأوصى التقرير بشكل خاص على محاربة اتحاد هذه الجماهير العربية أو ارتباطها بأي نوع من أنواع الاتحاد الفكري أو الروحي أو التاريخي وبضرورة إيجاد الوسائل العلمية القوية لفصلها عن بعضها بعض ما استطاع الاستعمار إلى ذلك سبيلا". وتجسدت هذه التوصية في اتفاقية سايكس – بيكو بين بريطانيا وفرنسا عام 1916 التي اقتسمت الولايات العثمانية العربية فينما بينها.
وقد تم تسليم تقرير كامبل بنرمان لوزارة الخارجية البريطانية واختفى التقرير نهائياً ولم يعد أحداً يذكره، وفي عام 1939 كتب صحفي يهودي بريطاني (كادمي كوهين) مقالات عن التقرير، وألف كتاباً "دولة إسرائيل" دعا فيه الغرب إلى عدم تمكين شعوب وطننا من النهضة ثانية واستعادة قوتها وذلك بالإسراع بإقامة كيان العدو الصهيوني في فلسطين، قبل أن تنفك المنطقة من عقال الاحتلالات الغربية وتستعيد وحدتها ونهضتها من جديد في دولة واحدة. وضمنه رؤيته لتأمين وجود كيان العدو الصهيوني المزمع إقامته في فلسطين حتى لا يواجه أي تهديد حقيقي بعد إنشاءه!
ومما جاء فيه عن أهمية فلسطين وتجزئة وطننا لمن يريد السيطرة على العالم القديم: "إن الساحل الشرقي للبحر المتوسط يشكل بالنسبة لأوروبا رأس جسر واسع نحو آسيا، وعلى طرفي هذا الإقليم الممتد من البحر المتوسط إلى جبال هملايا يتحرك شعبان "الشعب الهندي"، وفيه نسبة كبيرة من المسلمين في ذات الوقت و"الشعب المصري"، وفي الداخل تستيقظ الشعوب على الحياة السياسية العالمية".
ويحذر الغرب خاصة بريطانيا وفرنسا ويدعوهما لتنسيق سياستيهما اتجاه وطننا لأن الخطر الذي يتهددهما، هو الإسلام، وبعد أن يذكر في سطور كيف استطاع الإسلام أن يوحد القوميات المختلفة في أمة إسلامية واحدة يسارع إلى تقديم وصفته الناجعة للغرب الصليبي بعدم تكرار ذلك فيقول:
"وإذا أرادت السياسة الأوروبية أن تتحرر من العقبات الكؤود التي ترهق مستعمراتها ينبغي عليها أن تسعى لتفكيك هذه الهوية المصطنعة التي تتحرك ضدها: هوية بين المفاهيم "العربية" والمفهوم "الإسلامي" وعندما تتجرأ على حل المسألة العربية فإنها تحطم آلية التشابك الموجود بين المفهومين وتفتت الوحدة الإسلامية كما أن القوميات الاستعمارية الأوروبية تُؤمن بهذا هدوء لم تعرفه منذ أمد طويل. إن نظرية الوحدة العربية هي خير علاج وأفضل ترياق ضد الوحدة الإسلامية فهي لا تشكل خطراً أكثر مما تشكله القومية التركية الحالية، إذ عندما تنصرف عن الدعوة إلى المشاعر الدينية ولأنها هي على العكس تشكل عرقية أساسية تصبح عنصراً صحيحاً للتوازن السياسي في العالم القديم. إن تفتيت الهوية التي تجمع بين الإسلام والعروبة هو القادر على جعل الضفة الشرقية للبحر المتوسط ما يجب أن تكون في الحقيقة: واجهة القارة الآسيوية التي تطل على العالم الغربي ورأس جسر لأوروبا نحو آسيا الكبرى". يعني ضرب القومية بالإسلام!
"إن الوحدة العربية تصبح قادرة على مقاومة الوحدة الإسلامية إذا ما نظمت سياسياً فإيقاظ الشعور القومي العربي هو الذي ولد الإيمان الجديد عند العرب بتشكيل الأمة الإسلامية: إن القومية الإسلامية تتفوق على الفكرة العائلية وعلى العصبية العشائرية أو القبلية التي كانت معروفة لحد الآن، فإذا ما تراجع الغرب أمام تلك الديانة الجديدة وإذا ما أقره أكد على وجود قومية عربية تمتد من البحر المتوسط، وحتى بلاد فارس قومية مختلفة في جوهر تحديدها على التتر والهندوس والبربر، فإنه يحرر بذلك قوة هائلة إذا ما تأطرت بشكل مناسب استطاعت أن تلعب دوراً في العالم المتمدن تؤهلها له أصالتها الرفيعة".
كما أنه لم يترك للغرب فرصة الغفلة أو التهاون أو الاتكال على أعوانهم من أبناء أمة الإسلام فيدعوه ليتولى بنفسه تنظيم وطننا، فيقول: "من أجل أن نتجنب هذا الاحتمال المرعب الذي ينطوي على أخطار جسيمة مجهولة ينبغي على العالم المتمدن أن يتولى بنفسه تنظيم العالم العربي كي يجعل منه عاملاً سياسياً نافعاً وليس عامل فوضى".
الواقع الذي نعيشه اليوم أكبر دليل على أن الغرب أخذ بنصيحة هذا اليهودي اليقظ وأفكاره ـومَنْ سبقه من يهود آخرين وسارعوا لإخراج كيان العدو الصهيوني إلى الوجود ومازالا يعملان على منع عودة الإسلام لتهديد الحضارة الغربية من خلال مزيد من التقسيم والتفتيت لأقطار سايكس – بيكو وتشكل (الشرق الأوسط الجيد) ومركزه كيان العدو.
مصطفى إنشاصي
إن كان التاريخ هو الحدث؛ فإن الثقافة هي الوعي بالحدث! فما أكتبه ليس تاريخ أو تحليل وقراءة آنية للحدث إنما هو ثقافة التاريخ، الوعي بالتاريخ، لفهم الواقع وأبعاد الصراع، تلك هي مهمة الكاتب والمثقف والمفكر نشر الوعي بين أبناء الأمة.
ولفهم موقف الغرب الأوروبي - الأمريكي مما يجري في غزة ودعمه لكيان العدو وسعيه لتصفية قضية الأمة المركزية (فلسطين) وإعادة تشكيل جغرافية (الشرق الأوسط الجديد) استجابة لدعوة وزير خارجية العدو عام 1995 في كتابه (الشرق الأوسط الجديد)، الذي دعا فيه لإقامة النظام الإقليمي الجديد، ودمج كيان العدو في نسيجه الاجتماعي وكأنه جزء منه منذ آلاف السنين، وإنهاء حالة الصراع والعداء بكذبة (السلام والتطبيع)، وإحكام سيطرته على وطننا ومقدراته، علينا أن نعي أهمية ومكانة فلسطين في المخططات والمشاريع الغربية ضد الأمة والوطن، وأنها ليست مستهدفة لذتها لكن لضرب الإسلام وتمزيق الأمة، و(إسرائيل) هي مركز الهجمة الغربية ضدنا.
الحدود الجغرافية لـ(الشرق الأوسط) وتاريخ المصطلح
مصطلح (الشرق الأوسط) "مصطلح غربي (استعماري) كثر استخدامه إبان الحرب العالمية الثانية وهو يشمل منطقة جغرافية تضم سوريا ولبنان وفلسطين والأردن والعراق والخليج العربي ومصر وتركيا وإيران، وتتوسع لتشمل أفغانستان وقبرص وليبيا أحياناً ... كما أن للمصطلح دلالة على مركزية أوروبا في العالم وهو (شرق أوسط) بالنسبة لموقعها الجغرافي".
فـ(مصطلح الشرق الأوسط) ليس له امتداد تاريخي في تاريخنا العربي أو الإسلامي وليس من انتاجهما، ولكنه مصطلح مستورد دخيل على تاريخنا له أبعاد ومضامين فكرية ذات أبعاد سياسية (استعمارية) ضد وطننا وأمتنا. وقد استخدم مصطلح (الشرق الأوسط) منذ ظهوره مع مشارف القرن العشرين في الدوائر الرسمية الغربية ووسائل الإعلام الغربي للدلالة على منطقة جغرافية بعينها من العالم، تسكنها شعوب يربط فيما بينها رباط الدين والعقيدة، مع اختلاف تعدد عناصرها القومية وهو في الأصل اصطلاح سياسي، أطلق على المنطقة العربية وما جاورها من بلدان مشرق الوطن الإسلامي. وقد حل محل المصطلح الغربي (المسألة الشرقية)، الذي كانت تطلقه الدول (الاستعمارية) الغربية ووسائل إعلامها على ممتلكات الدولة العثمانية الأوروبية منها والإسلامية، وبعد حرب البلقان (1912 – 1913) واستقلال اليونان آخر الولايات العثماني الأوروبية ولم يتبقَ إلا الولايات العربية الإسلامية، شاع استخدام مصطلح (الشرق الأوسط) للدلالة على المخططات الغربية، تجنباً لاستخدام مصطلح الشرق الإسلامي، أو الوطن العربي والإسلامي، كيلا يستثير الروح الإسلامية في المنطقة ضد الغرب والعدو الصهيوني ومحاولات الهيمنة على وطننا، وحتى لا تقوى النزعة الداعية إلى إقامة الجامعة الإسلامية آنذاك. أو كما يرى القوميون العرب كان لتجنب استخدام مصطلح المنطقة العربية لمحاربة مفهوم القومية العربية ونزع صفة الوحدة عنها.
فالمصطلح ليس له ما يبرره في التاريخ، ولم نسمع بأي حركة في التاريخ العربي والإسلامي أنها نادت بوحدة (الشرق الأوسط) يوماً، وأياً كانت حدود (الشرق الأوسط) الجغرافية في المفاهيم والمناظير الغربية التي تتفاوت بتفاوت مصالحها حسب كل مرحلة من مراحل صراعها مع أمتنا للهيمنة على ثروات وطننا، يبقى الجزء الرئيس منها ومركز ثقلها، هم العرب، وبلادهم بها مخزون العالم الاستراتيجي من الثروات المتنوعة، وعلى رأسها مصادر الطاقة من النفط والغاز الطبيعي، وهي مهد الحضارات الإنسانية ومهبط الوحي بالرسالات السماوية، ومعبر الجيوش والقوافل التجارية قديماً وحديثاً، في حلقة الوصل بين قارات العالم القديم.
وقد كان أول من استخدم مصطلح (الشرق الأوسط) هو (ألفرد تيير ماهان) الضابط والمؤرخ البحري الأمريكي عام 1902 وذلك لتحديد المنطقة الواقعة بين شبه الجزيرة العربية والهند، عند مناقشته للاستراتيجية البحرية البريطانية في مواجهة التحرك الروسي في إيران، ومخطط ألمانيا في إنشاء خط للسكك الحديدية – وقتذاك – يربط بين برلين وبين بغداد العثمانية من ناحية أخرى، حيث شمل المصطلح تركيا وإيران وبلدان الخليج العربي.
وإن كانت أمريكا أول من ابتدع هذا المصطلح ليكون له دلالة سياسية وعسكرية، فإن بريطانيا كانت أول من روج هذا المصطلح سياسياً وإعلامياً، حيث كانت صحيفة "التايمز البريطانية أول من نقل هذا التعبير الجغرافي الجديد، ثم استخدمته بعد ذلك حكومة بريطانيا رسمياً "عند قيام وينستون تشرشل في 1921، بعد الحرب العالمية الأولى، بإنشاء (إدارة الشرق الأوسط) في وزارة (المستعمرات) التي كان يتولاها كي تدير شئون فلسطين وشرق الأردن والعراق، والتي ما لبثت أن امتد اختصاصها إلى مصر".
وفي أثناء الحرب العالمية الثانية وسّع الحلفاء حدود (الشرق الأوسط) لتضم "مجموعة البلدان الواقعة في غرب الهند بآسيا ومنطقة شمال إفريقيا، بما أصبح في النهاية عنواناً على كل البلدان العربية وتركيا وإيران، ثم رقعة الدول المجاورة لها، التي كانت تتسع أو تضيق حسب الظروف. وإن انتهت بضم إثيوبيا (الحبشة) لها". وقد ظلت هذه الحدود الجغرافية لـ(لشرق الأوسط) شبه ثابتة في السياسة الغربية والعالمية طوال فترة الحرب الباردة، والصراع بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي.
(الشرق الأوسط) بعد انتهاء الحرب الباردة
وبعد تفكك الاتحاد السوفيتي، وبعد حرب الخليج الثانية وإخراج العراق من الكويت ونجاحها في جمع الأطراف المتصارعة في (الشرق الأوسط) على مائدة المفاوضات فيما يسمى مؤتمر مدريد للسلام عام 1991، وبعد توقيع اتفاقية أوسلو 1993 بين منظمة التحرير الفلسطينية وكيان العدو، واتفاقية وادي عربة عام 1994 بين الأردن وكيان العدو، ولد وضع جديد يمثل في نظر المخطط الأمريكي تهديداً لمصالح الغرب الأمنية – الاستراتيجية في المنطقة (نفط الخليج وأمن كيان العدو الصهيوني). وهذا الخطر يتمثل في: استقلال الجمهوريات الإسلامية الست "جمهوريات آسيا الوسطى" التي كانت جزءاً من الاتحاد السوفيتي سابقاً، ومنها جمهوريتان تحتويان على كميات كبيرة من النفط والغاز الطبيعي، والخوف من انتقال الإسلام السياسي الثوري إليها مما سيؤثر على المصالح الأمنية الاستراتيجية لأمريكا والغرب في المنطقة.
ولما كانت عملية التغيير الشامل جارية في منطقة (الشرق الأوسط)، كان لا بد من إعادة صياغة وتعريف مصطلح (الشرق الأوسط) وتحديده جغرافياً وسياسياً واقتصادياً وأمنياً وفق تلك التغييرات والتوجهات الجديدة، ووفقاً للمصالح الأمريكية التي تحاول الانفراد بقيادة النظام العالمي الجديد، وتمهيداً لتنفيذ (مشروع الشرق الأوسط الجديد وسوقه الشرق أوسطية) في المنطقة، الذي اقترحه وزير خارجية العدو الصهيوني بعد توقيع اتفاق أوسلو خدمة لمصالح الغرب والعدو الصهيوني، فظهرت مفهومات جديدة لمصطلح (الشرق الأوسط)، سنعرض لبعضها مع التحليل:
يرى (يوسف صايغ) أن الرؤية اليهودية لـ(لشرق الأوسط) تستمد من الجذور التاريخية والتوراتية، التي حددت الأرض من الفرات إلى النيل ميراثاً للشعب اليهودي، يقول:
"تمتد تاريخية المنظور (ونحن نغفل شمال أفريقيا من البحث) في إطار الحركة الصهيونية ودولة (إسرائيل) من الجذور التاريخية (التي تحدد المنطقة من الفرات إلى النيل ميراثاً للشعب اليهودي)، إلى يوميات هرتزل، إلى أدبيات الصهيونية السياسية والجغرافية (خاصة قبل صدور وعد بلفور ومؤتمر فرساي عام 1919 وبعدها) إلى تجسيد المنظور صراحة بعد حرب حزيران/يونيو 1967 بكتاب رسمي أصدرته (إسرائيل) بعنوان (الشرق الأوسط عام 2000)".
ويستطرد قائلاً: "يمكن ملاحظة ضبابية مفهوم (الشرق الأوسط) مقابل مفهوم الوطن العربي أو المنطقة العربية. فالأول تعبير جغرافي عائم لم تتضح حدوده بعد، فهو يستثني الأقطار العربية في شمال أفريقيا، لكنه يضم بعض الأقطار العربية من مصر والسودان والصومال غرباً، والعراق شرقاً، واليمن جنوباً، وإلى ذلك المدى، فهو يجزئ المنطقة العربية الواحدة بعملية افترائية تعسفية متعمدة ... المصطلح يضم إلى جانب البلدان العربية المشرقية، و(إسرائيل) القائمة على التراب الفلسطيني بالاغتصاب والاقتلاع والسلب، كلاً من قبرص وتركيا وإيران .. وهي غير عربية – مع أن البيان الختامي لقمة الدار البيضاء لا يذكر البلدان الثالثة الأخيرة بالاسم.
ثم إن البعض يوسع المنظور ليشمل أفغانستان كذلك، مع إمكانية امتداده شرقاً من أفغانستان وشمالاً من تركيا. فالمنظور لا يعدو أن يكون تعبير عن بقعة جغرافية غير ثابتة الحدود ... وأخيراً ففي جميع الأحوال يشمل المنظور (إسرائيل) – بل إن (إسرائيل) كما يقول مسئولوها هي قلب (الشرق الأوسط) وتلتقي فيها معظم المشاريع والبرامج المنشورة في إطار (الشرق الأوسط) – وهي مقولة جاءت في خطاب الوزير الصهيوني بيريز في قمة الدار البيضاء.
أما (شيمون بيريز) في كتابه "الشرق الأوسط الجديد" يحدد خريطته: "بأنها تمتد من حدود مصر الغربية حتى حدود باكستان الشرقية ومن تركيا وجمهوريات آسيا الوسطى الإسلامية شمالاً حتى المحيط الهندي وشمال السودان جنوباً، وهي منطقة تجمع دولاً عربية وإسلامية وليس فيها خارج هاتين الدائرتين (العروبة والإسلام) سوى (إسرائيل)".
الهوية الحضارية والثقافية لـ(الشرق الأوسط)
وسواء ضاقت مساحة (الشرق الأوسط) الجغرافية أو اتسعت، فإنه يعني في المفاهيم الغربية الوطن الإسلامي، الذي يمثل مناطق النفوذ للدول الغربية المتنافسة للسيطرة عليه وعلى ثرواته، والمتفقة فيما بينها على أن عقيدة شعوبه المتنوعة الأعراق والأجناس تمثل العدو المركزي للغرب وأطماعه، والبديل الحضاري عن نموذجه الحضاري الذي يحاول فرضه على العالم تحت مسميات عدة، أبرزها: العولمة.
الوطن الإسلامي! الذي انتهت دراسات وأبحاث مؤتمر لندن الذي عقد عام 1905 للبحث عن وسيلة تمنع الحضارة الغربية من الفناء كما جاء في خطاب كامبل بنرمان رئيس وزراء بريطانيا في الجلسة الافتتاحية للمؤتمر: "إن الحضارة الأوروبية مهددة بالانحلال والفناء والواجب يقضي علينا أن نبحث في هذا المؤتمر عن وسيلة فعالة تحول دون انهيار حضارتنا". وبعد سنتان أنهى المؤتمر دراسته وقدم نتائج عام 1907 في تقرير سري (تقرير كامبل بنرمان) وقد حدد التقرير موطن الخطر الذي يهدد الحضارة الأوروبية: بأنه يكمن في الشعب الواحد الذي يعيش على الشواطئ الجنوبية والشرقية للشريان البحري الحيوي لتلك الدول وللتجارة العالمية، البحر المتوسط، والتواصل بين تلك الدول ومناطق احتلالها.
لذلك كانت توصياته العاجلة تتمثل في : "ضرورة فصل الجزء الإفريقي من المنطقة العربية عن جزئها الآسيوي وضرورة إقامة الدولة العازلة إذ أن إقامة حاجز بشري قوي على الجسر الذي يربط أوروبا بالعالم القديم ويربطهما معا بالبحر المتوسط بحيث يشكل من هذه المنطقة، وعلى مقربة من قناة السويس قوة عدوة لشعب المنطقة، وصديقة للدول الأوروبية ومصالحها هو التنفيذ العملي العاجل للوسائل والسبل المقترحة". وتجسدت هذه التوصية في (وعد بلفور) 1917، الذي وضه أسس التحالف اليهودي – الصليبي واقعاً في فلسطين وتحويلها إلى وطن لليهود، لتكون رأس الحربة للصهيونية واليهودية العالمية والغرب ضد المسلمين!
وقد كان من الوسائل والسبل أيضا: "العمل على إيجاد التفكيك والتجزئة والانقسام وإنشاء دويلات مصطنعة تابعة لتلك الدول وخاضعة لسيطرتها وأوصى التقرير بشكل خاص على محاربة اتحاد هذه الجماهير العربية أو ارتباطها بأي نوع من أنواع الاتحاد الفكري أو الروحي أو التاريخي وبضرورة إيجاد الوسائل العلمية القوية لفصلها عن بعضها بعض ما استطاع الاستعمار إلى ذلك سبيلا". وتجسدت هذه التوصية في اتفاقية سايكس – بيكو بين بريطانيا وفرنسا عام 1916 التي اقتسمت الولايات العثمانية العربية فينما بينها.
وقد تم تسليم تقرير كامبل بنرمان لوزارة الخارجية البريطانية واختفى التقرير نهائياً ولم يعد أحداً يذكره، وفي عام 1939 كتب صحفي يهودي بريطاني (كادمي كوهين) مقالات عن التقرير، وألف كتاباً "دولة إسرائيل" دعا فيه الغرب إلى عدم تمكين شعوب وطننا من النهضة ثانية واستعادة قوتها وذلك بالإسراع بإقامة كيان العدو الصهيوني في فلسطين، قبل أن تنفك المنطقة من عقال الاحتلالات الغربية وتستعيد وحدتها ونهضتها من جديد في دولة واحدة. وضمنه رؤيته لتأمين وجود كيان العدو الصهيوني المزمع إقامته في فلسطين حتى لا يواجه أي تهديد حقيقي بعد إنشاءه!
ومما جاء فيه عن أهمية فلسطين وتجزئة وطننا لمن يريد السيطرة على العالم القديم: "إن الساحل الشرقي للبحر المتوسط يشكل بالنسبة لأوروبا رأس جسر واسع نحو آسيا، وعلى طرفي هذا الإقليم الممتد من البحر المتوسط إلى جبال هملايا يتحرك شعبان "الشعب الهندي"، وفيه نسبة كبيرة من المسلمين في ذات الوقت و"الشعب المصري"، وفي الداخل تستيقظ الشعوب على الحياة السياسية العالمية".
ويحذر الغرب خاصة بريطانيا وفرنسا ويدعوهما لتنسيق سياستيهما اتجاه وطننا لأن الخطر الذي يتهددهما، هو الإسلام، وبعد أن يذكر في سطور كيف استطاع الإسلام أن يوحد القوميات المختلفة في أمة إسلامية واحدة يسارع إلى تقديم وصفته الناجعة للغرب الصليبي بعدم تكرار ذلك فيقول:
"وإذا أرادت السياسة الأوروبية أن تتحرر من العقبات الكؤود التي ترهق مستعمراتها ينبغي عليها أن تسعى لتفكيك هذه الهوية المصطنعة التي تتحرك ضدها: هوية بين المفاهيم "العربية" والمفهوم "الإسلامي" وعندما تتجرأ على حل المسألة العربية فإنها تحطم آلية التشابك الموجود بين المفهومين وتفتت الوحدة الإسلامية كما أن القوميات الاستعمارية الأوروبية تُؤمن بهذا هدوء لم تعرفه منذ أمد طويل. إن نظرية الوحدة العربية هي خير علاج وأفضل ترياق ضد الوحدة الإسلامية فهي لا تشكل خطراً أكثر مما تشكله القومية التركية الحالية، إذ عندما تنصرف عن الدعوة إلى المشاعر الدينية ولأنها هي على العكس تشكل عرقية أساسية تصبح عنصراً صحيحاً للتوازن السياسي في العالم القديم. إن تفتيت الهوية التي تجمع بين الإسلام والعروبة هو القادر على جعل الضفة الشرقية للبحر المتوسط ما يجب أن تكون في الحقيقة: واجهة القارة الآسيوية التي تطل على العالم الغربي ورأس جسر لأوروبا نحو آسيا الكبرى". يعني ضرب القومية بالإسلام!
"إن الوحدة العربية تصبح قادرة على مقاومة الوحدة الإسلامية إذا ما نظمت سياسياً فإيقاظ الشعور القومي العربي هو الذي ولد الإيمان الجديد عند العرب بتشكيل الأمة الإسلامية: إن القومية الإسلامية تتفوق على الفكرة العائلية وعلى العصبية العشائرية أو القبلية التي كانت معروفة لحد الآن، فإذا ما تراجع الغرب أمام تلك الديانة الجديدة وإذا ما أقره أكد على وجود قومية عربية تمتد من البحر المتوسط، وحتى بلاد فارس قومية مختلفة في جوهر تحديدها على التتر والهندوس والبربر، فإنه يحرر بذلك قوة هائلة إذا ما تأطرت بشكل مناسب استطاعت أن تلعب دوراً في العالم المتمدن تؤهلها له أصالتها الرفيعة".
كما أنه لم يترك للغرب فرصة الغفلة أو التهاون أو الاتكال على أعوانهم من أبناء أمة الإسلام فيدعوه ليتولى بنفسه تنظيم وطننا، فيقول: "من أجل أن نتجنب هذا الاحتمال المرعب الذي ينطوي على أخطار جسيمة مجهولة ينبغي على العالم المتمدن أن يتولى بنفسه تنظيم العالم العربي كي يجعل منه عاملاً سياسياً نافعاً وليس عامل فوضى".
الواقع الذي نعيشه اليوم أكبر دليل على أن الغرب أخذ بنصيحة هذا اليهودي اليقظ وأفكاره ـومَنْ سبقه من يهود آخرين وسارعوا لإخراج كيان العدو الصهيوني إلى الوجود ومازالا يعملان على منع عودة الإسلام لتهديد الحضارة الغربية من خلال مزيد من التقسيم والتفتيت لأقطار سايكس – بيكو وتشكل (الشرق الأوسط الجيد) ومركزه كيان العدو.