كأنهم جُدرٌ مُسنّدة

  • السبت 19, يوليو 2025 11:25 ص
  • كأنهم جُدرٌ مُسنّدة
لا يُرى التصدّع في الجدار إلا بعد اقتراب السقوط، ولا تُكتشف هشاشة البنيان إلا عند ارتجاج الأرض تحت الأقدام، هكذا بدا الكيان الصهيوني بعد طوفان الأقصى: جدارٌ يُظنُّ أنه محكم، لكنه في الحقيقة أجوف من الداخل، لا يحمل من القوة إلا ما يُخادع به أعين المراقبين، ولم تكن غزة كما حاول إعلام العدو أن يروّج عبئاً جيوسياسياً بل كانت –وما تزال– لبّ الصدع الذي تشقّقت عنده أكذوبة الردع، وانفضحت فيه الأسطورة الأمنية التي بُني عليها كيان لم يعرف يوماً الشرعية ولا الاستقرار.
كأنهم جُدرٌ مُسنّدة
أميرة فؤاد النحال
لا يُرى التصدّع في الجدار إلا بعد اقتراب السقوط، ولا تُكتشف هشاشة البنيان إلا عند ارتجاج الأرض تحت الأقدام، هكذا بدا الكيان الصهيوني بعد طوفان الأقصى: جدارٌ يُظنُّ أنه محكم، لكنه في الحقيقة أجوف من الداخل، لا يحمل من القوة إلا ما يُخادع به أعين المراقبين، ولم تكن غزة كما حاول إعلام العدو أن يروّج عبئاً جيوسياسياً بل كانت –وما تزال– لبّ الصدع الذي تشقّقت عنده أكذوبة الردع، وانفضحت فيه الأسطورة الأمنية التي بُني عليها كيان لم يعرف يوماً الشرعية ولا الاستقرار.
شكّل طوفان الأقصى زلزالاً وجودياً ضرب المشروع الصهيوني في عمقه النفسي والعقدي والعسكري، وكشف حجم الإنهاك، والتفكك، واليوم يأتي السؤال: أيّ نوع من الزوال يواجهه الكيان؟ هل هو زوالٌ آنيٌّ سريع؟ أم انكشافٌ بطيء لهيكلٍ فقد بوصلته، وشرعيته، ومكانته الإقليمية والدولية؟
لم يكن صباح السابع من أكتوبر مجرد إشعال لخط تماس أو تسلل على حدود مؤقتة، كان الطوفان، وزحزحة لأسس المنظومة الصهيونية، ونقلاً للمعركة من الهامش المحاصر إلى قلب الكيان المتعالي، الذي طالما قدّم نفسه كقلعة لا تُمس، الوعي الغزّاوي المقاوِم لم ينطلق من حسابات ميدانية ضيّقة، بل من إدراك تاريخي أن المواجهة مع هذا الكيان تُقاس بموازين الحق والإرادة وتراكم الكفاح، لذلك لم يكن الطوفان ردّ فعل على الاقتحامات أو انفجاراً غاضباً كما روّجت الرواية الصهيونية، بل كان فعلاً سيادياً تحريرياً، هدفه خلخلة التوازنات دون استجداء حلول، وتجاوزت المقاومة الفلسطينية، لا سيما كتائب القسام، مفهوم الضربة المفاجئة بالمعنى العسكري، نحو ما يشبه الإعلان عن لحظة تحوّل استراتيجي في مسار القضية، لم يكن الهدف مجرد ضرب مفاصل أمنية أو أسر جنود، وإن كان هذا جزءً من النتائج، إنما كان لتحطيم صورة الردع الموهومة، وإثبات أن الحصار مهما طال، لا يُطفئ جذوة المبادرة.
اللافت في مشهد الطوفان أنّ غزة كانت تقاتل بعقيدتها، فلم يكن سلاح الجو ولا التفوّق التقني ولا ترسانة الدعم الدولي حاضرة في صفّها، بل كانت سردية الأرض، وشرعية الدم، وذاكرة القهر التي لم تخنها البوصلة، وما أن تحرّك رجال الطوفان من خلف السواتر حتى انهار ما كان يُروَّج له لعقود بوصفه الحدود الآمنة، وكُسرت القبة، واخترقت التحصينات، وتهاوت الغطرسة التي لا تهزم، وهنا تحديداً بدأت مرحلة التأسيس الجديدة لعقيدة المواجهة، وكشف الطوفان أن المنظومة الاحتلالية بكل ما تحمله من ضخ أمني وتكنولوجيا متقدمة، عاجزة عن حماية قلبها من صاعقة واحدة نزلت من غزة، وهذه الحقيقة المجردة من الزينة الإعلامية هي بداية التحوّل الذي سيفرض على المنطقة بأكملها قراءة جديدة للسيادة، والشرعية، ومنذ ذلك اليوم صارت "تل أبيب" تبحث عن خطة خروج مشرّف من غزة.
أحدث طوفان الأقصى اختراقاً في حدود الكيان وكشف ما كان يُخشى الاعتراف به في الداخل الصهيوني: أن هذه "الدولة" المزعومة ليست إلا هيكلاً هشاً مشدوداً بخيوط مصالح مؤقتة، وتصدّعت الجبهة الداخلية من داخلها، لأن بنيتها مركّبة على شروخ سابقة: انقسامات دينية، وتناقضات عرقية، وصراع نفوذ بين المكونات غير المتجانسة، وقد بدا جليّاً بعد الطوفان أن ما يُسمّى بالوحدة الوطنية في الكيان لا تصمد أمام هزّة أمنية واحدة تنبع من غزة.
الطوفان لم يهزم جيش الاحتلال بقدر ما أربك عمقه الاجتماعي والسياسي، فقد تَجلّت الأزمة في غرف القرار، وفي الشارع الصهيوني نفسه، حين بدأت الثقة تتهاوى بين من يُفترض أنهم يقودون المشروع، فقد فشلت المؤسسة العسكرية في التنبؤ، ثم فشلها في الاستيعاب، تبعه تبادل اتهامات بين القادة السياسيين والعسكريين، وتسارُع مطالب الإقالة، وحالة ذعر جماعية عمّقتها خسائر غير مسبوقة، وفي قلب هذا المشهد تراجعت صورة الجيش الذي لا يُقهر، وتقدّمت مشاهد الانسحاب، والانهيار، والارتهان لردود الفعل، فالجيش الذي اعتاد المبادرة صار يُجرّ إلى معارك يُفقد فيها سيطرته ويتعامل فيها مع المجهول، فالكيان الذي زعم أنه قلعة العالم المتقدّم، خرج المستوطنون في شمال فلسطين المحتلة يفرّون كمن يهرب من مدينة غارقة، ومن جنوبها هُجّر عشرات الآلاف من مستوطنات الغلاف، ليُعاد طرح سؤال: هل هذا مشروع بقاء أم مشروع نزوح مؤجَّل؟ وهنا برزت غزة ككاشف حقيقي لمستوى التصدّع داخل المشروع الصهيوني نفسه، وأصبحت المسألة مرتبطة بكيفية إبقاء هذا الكيان متماسكاً تحت ضربات الوعي والسلاح.
ومنذ أن أُعلن عن تأسيس الكيان الصهيوني، سُوِّق للجيش الصهيوني على أنه ذراع التفوق المطلق في محيط عربيّ مفكك، تلك الصورة صيغت بعناية، ووُظّفت إعلامياً وسياسياً، لتجعل من كل حرب يخوضها الكيان إعلاناً عن استمرار التفوق الوجودي، لكن غزة بمحدودية الجغرافيا وشُحّ الإمكانات أعادت صياغة المعادلة من جذورها، والأسطورة الأمنية التي قامت على فكرة الضربة الاستباقية وحسم المعركة في أيام تهاوت في مواجهة معركة استنزاف واشتباك طويل النفس، تقوده مقاومة شعبية مسلّحة تعرف تضاريس أرضها كما تعرف معاني ثباتها.
غزة لم تذهب إلى الحرب لتنتصر بالنقاط، بل لتقول للعالم: الردع سقط، والقوة لا تحمي كياناً بلا شرعية، فهنا لا تُقاس المعارك بعدد الطائرات، وإنما بمن يفرض شروط الميدان، وبمن يُبقي سلاحه مشهراً رغم الجراح والحصار، أما القبة الحديدية -منظومة الآمال الكبرى للكيان- فقد تحوّلت إلى درع مثقوب، وفضحت الحاجة المستمرة للدعم الغربي، وكشفت هشاشة الداخل الذي صار يتابع صافرات الإنذار أكثر من نشرة الأخبار، وللمرة الأولى انتقلت المعركة من كونها مواجهة بين ما يُسمى بدولتهم وتنظيم مقاوم، إلى صراع بين مشروعين: مشروع احتلال يبحث عن نصر معنوي ينقذه من الهزيمة السياسية، ومشروع تحرير يمتلك الإرادة والرواية وسيف الأرض.
لقد أدرك العدو متأخراً أنّ غزة تحاصر الرواية الصهيونية وكلما امتدّ القتال تكشّف زيف الصورة التي زرعها لسنوات، وتراجع الإيمان بجيش لا يُقهر، أمام واقع جيش يهرب من اشتباك بريّ، ويتسوّل صفقات الأسرى، وهكذا سقطت الأسطورة وسقط معها الحاجة لتصديقها من جديد.
الكيان الصهيوني لم يكن يوماً دولة بالمفهوم السياسي أو التاريخي، بل مشروع وظيفي استعماري مؤقّت، جرى توظيفه لتقسيم المنطقة وتفجير محيطها، ثم زُرع في قلبها كقاعدة متقدمة للاستعمار الحديث، هذا المشروع لم ينشأ من إرادة جماعية أو نضج وطني، بل من وعدٍ خارجي، ورعاية استعمارية، وقرار فوقي أوروبي غربي صهيوني، وكلّ ما بُني فوق هذا الأساس الهشّ، لا يمكن أن يتحوّل إلى دولة حقيقية، لأن الركيزة التي لا تستند إلى الأرض والشعب والشرعية، ستظلّ كياناً مصطنعاً يتكيّف مع اللحظة لكنه لا يصمد في التاريخ.
وما أثبته طوفان الأقصى أن الكيان الصهيوني يفتقر إلى مقومات الدولة المستقرة: لا وحدة اجتماعية، ولا عقد سياسي داخلي، ولا شرعية متينة، ولا قدرة على حماية حدوده، حتى تعريف "المواطنة" عندهم هش، قائم على درجات عنصرية دينية وتباينات عِرقية، من اليهود الشرقيين، إلى الأثيوبيين، إلى الدروز، وصولاً إلى الفلسطينيين في الأرض المحتلة عام 48 الذين يُعاملون كمقيمين مشروطين، ولا وجود لعقد اجتماعي جامع، إنما شبكة امتيازات عرقية متوترة تُدار بقوة الأمن لا بمنطق الانتماء.
إنّ ما سمّي بالجيش الإسرائيلي يُمثل أداة مركزية لحماية المشروع، يديرها طاقم من النخب الأمنية المرتبطة بمراكز القرار الغربي، ومع أول فشل استراتيجي –كما حدث في طوفان الأقصى– انكشفت هذه المؤسسة كأداة مأزومة عاجزة عن إنتاج النصر، ولا تجرؤ على الانسحاب، والمقاومة الفلسطينية أجبرت الكيان على التعامل مع ذاته كمنظومة مهددة، يهرب من اشتباك بريّ، ويتوسّل التهدئة دون شروط حقيقية، لأنه لم يعد يملك القدرة على السيطرة ولا على الانسحاب، وأمام هذا المشهد تسقط صورة الدولة، ويُعاد تعريف الكيان بوصفه كياناً طارئاً، يعيش تحت حماية دولية مؤقتة، لا داخلًا متماسكاً ولا بنية صلبة، وهنا يُصبح سؤال "إسرائيل كدولة" سؤالاً زائفاً، لأن القضية لم تكن دولة ذات سيادة، بل مستوطنة ضخمة تبحث عن اعتراف دائم، وتحاول أن تُقنع نفسها أنها أصبحت طبيعية بينما تفشل حتى في تثبيت سكانها في مستوطنات الغلاف.
وعندما جاء الطوفان لم يستهدف وجوداً مادياً فحسب، بل شرعيةً زائفة بُني عليها كيانٌ دخيل على الجغرافيا والتاريخ، فالمعركة هنا ليست حول حدودٍ أو معابر، إنما حول من يملك الحق في البقاء، ومن يُطرد من ذاكرة الأرض، وفي ضوء الطوفان يتجلّى معنى الإفساد الثاني كما ورد في سورة الإسراء: فسادٌ بالغ القوة والبطش، قابلته يقظة ربانية عبر عبادٍ أولي بأسٍ شديد، وقد صدحت غزة بالفعل قبل القول، وأثبتت أن وعد الحق لا يتوقف على كثرة العدد أو عُدّة، بل على صدق الاتجاه.
إخراج الكيان من غزة سيكون بداية تفكيك لمنظومة الاحتلال نفسها، وها هو الطوفان اليوم يُعيد خلط الخرائط، ويجعل من كل مستوطنةٍ نقطة نزوح، إنه زوالٌ لا يُقاس بشرعية تنهار، ورواية تنهزم، وكيانٍ يُحاصر معنوياً في قلب الأرض التي اغتصبها، وهكذا يصبح الطوفان لحظة كاشفة: من غزة تبدأ نهاية المشروع، لا من حدود تُرسم على الورق.
ولأول مرة منذ عقود، يخسر العدو معركة الخطاب وصعود رواية أهل الأرض، لا عبر وكالاتٍ ناطقة باسمهم، بل من دم الشهداء، فغزة لم تنتظر من يدافع عنها، ولكنها فرضت حضورها على طاولة العالم، ورغم الحصار خرج صوتها من تحت الأنقاض، يتجاوز جدران الإعلام الموجّه، ويكسر قوالب السرد الجاهزة، وبينما أمعن العدو في قتل الصورة، أمعنت غزة في بثّها من زاوية لا تصلها الرقابة، نعم.. إنها المرة الأولى التي تُعرّى فيها منظومة الاحتلال أخلاقياً بهذا الشكل العلني، والمرة الأولى التي يجد فيها العالم نفسه مطالباً بالإجابة لا بالتبرير.
إن ما عجزت الجيوش عن فعله في العقود الماضية، فعلته غزة بجدار من الإرادة والدم والحق، لأن العدو أجوف، كأنهم جُدرٌ مُسنّدة، لقد تهاوت الأسطورة الأمنية، وسقطت معها فكرة "الدولة" التي لا تُمسّ، وبقي كيانٌ يُطارد ماضيه، ويُطوّق حاضره، ويخشى مستقبله، وأصبح الكيان كله في دائرة الطوفان، من الردع المكسور إلى المشروع الذي يتآكل من داخله، وهنا بالضبط، يتحقّق العنوان كما لو كان نبوءة: كأنهم جُدرٌ مُسنّدةٌ، تنهار حين يشتد عليها السؤال، وتسقط إذا هبّت عليها رياح الحقيقة.