أسعار خيالية.. من يقف خلف احتكار البضائع في غزة؟

  • الجمعة 13, يونيو 2025 11:36 ص
  • أسعار خيالية.. من يقف خلف احتكار البضائع في غزة؟
على مفترق السرايا وسط مدينة غزة، يقف عدد من الباعة يعرضون أكياسًا من الدقيق للبيع بأسعار تتغير من ساعة إلى أخرى، وكأنهم يتفقون على توحيدها، في الوقت الذي يتنقل فيه المواطنون من سوق لآخر بحثًا عن السلع الأساسية، لكن دون جدوى.
أسعار خيالية.. من يقف خلف احتكار البضائع في غزة؟
غزة - خــاص صفا
على مفترق السرايا وسط مدينة غزة، يقف عدد من الباعة يعرضون أكياسًا من الدقيق للبيع بأسعار تتغير من ساعة إلى أخرى، وكأنهم يتفقون على توحيدها، في الوقت الذي يتنقل فيه المواطنون من سوق لآخر بحثًا عن السلع الأساسية، لكن دون جدوى.
وبرزت معضلة احتكار البضائع في أوقات عصيبة من الحرب الإسرائيلية على غزة، لتضيف عبئًا إضافيًا على المثقلين بالأعباء اليومية، دون وجود من يضبط السوق بعدما شلت قوات الاحتلال عمل الجهات الحكومية في القطاع.
ويعاني أكثر من مليوني فلسطيني في غزة من الارتفاع المهول في أسعار البضائع، بسبب تعمد فئة محدودة يمتلكونها تغييبها عن الأسواق من حين لآخر، بهدف تبرير رفع سعرها دون حسيب أو رقيب.
شح واحتكار
ويعزو مختصون في الشأن الاقتصادي احتكار السلع الأساسية في قطاع غزة لسببين، الأول استيراد شركات محدودة للبضائع من "إسرائيل" والجانب المصري في الأوقات التي كانت سلطات الاحتلال تسمح بذلك؛ وبالتالي تمكنوا من فرض الأسعار التي تحقق لهم الكثير من الأرباح، ولاسيما مع غياب الجهات الحكومية الرسمية عن المشهد.
أما السبب الثاني فيتعلق بتعمد أشخاص برزوا خلال الحرب، واتخذوا من جمع البضائع الموجودة في السوق- سواءً التي كان يتم استيرادها أو بعض المساعدات التي يبيعها أصحابها- والاحتفاظ بها في مخازن وعدم إخراجها إلا وقت إغلاق المعابر؛ وبالتالي يتمكنون من عرضها بأي سعر يفرضونه في الأسواق.
ووفق مختصين استطلعت وكالة "صفا" آراؤهم، فإن المواطنين يضطرون أوقات الأزمات ومع غياب البدائل لشراء السلع خاصة الأساسية منها بأي ثمن، لتوفير طعام أبنائهم، وهو ما يلاحظ في الاحتياج للدقيق وزيت الطهي والسكر، والأرز والبقوليات.
وتشير معطيات نشرتها جهات حكومية بغزة إلى أنه في الأوقات المتفرقة التي سمحت فيها قوات الاحتلال بإدخال البضائع عبر المعابر خلال الحرب، لم يتجاوز عدد الشاحنات 9% من مجمل ما كان يصل للقطاع قبل السابع من أكتوبر 2023.
ووصل المعدل اليومي إلى ما بين 35 و43 شاحنة فقط في الأشهر الأولى من الحرب قبل سيطرة قوات الاحتلال على معبري رفح وكرم أبو سالم مطلع مايو/ أيار 2024 ومنع إدخال البضائع إلا القليل منها.
وعاد عدد الشاحنات الواردة إلى القطاع للارتفاع خلال فترة التهدئة في يناير/ كانون ثاني 2025 ووصل إلى المئات يوميًا، قبل أن تعيد قوات الاحتلال إغلاق المعابر بشكل كامل مطلع مارس/ آذار الماضي وتستأنف الحرب.
ويبلغ متوسط عدد الشاحنات التي كانت تدخل يوميًا إلى القطاع 450، في الوقت الذي يحتاج فيه أهالي غزة إلى أكثر من 700 شاحنة يوميًا.
أزمات مركبة
ويعاني القطاع من أزمات مركبة أفضت إلى واقع معيشي سيء يكابده أكثر من مليوني فلسطيني يواجهون القتل والتجويع معًا.
ويقول الباحث في الشأن الاقتصادي أحمد أبو قمر إن قوات الاحتلال عملت منذ الأيام الأولى للحرب على وقف الاستيراد ضمن السوق الحرة، وحصرت جهات الاستيراد بخمسة تجار فقط، وبعدما عادت لفتح المعابر في أوقات محدودة، بهدف الإبقاء على حالة الاحتكار والندرة في السوق، وبما يمنع وصول السلع للمواطنين بأسعار معقولة.
ويوضّح أبو قمر، في حديث لوكالة "صفا"، أن قصر الاستيراد على خمسة تجار فقط يُمكّنهم من التحكم في الأسواق بشكل كامل، ولاسيما أن كميات البضائع التي تدخل محدودة، وضمن سياسة "التقطير"، وهو ما أبقى الأسعار مرتفعة على مدار أشهر الحرب.
ويشير الباحث في الشأن الاقتصادي إلى أن التجار الخمسة كانوا يبيعون التنسيق الخاص بهم لتجار آخرين بأسعار وصفها بـ"الفلكية"، وهو ما انعكس سلبًا على الأسعار التي تضاعفت، وتحمّل المواطنون الذين فقد معظمهم مصدر دخلهم بسبب الحرب، تبعاتها.
ويعتقد أن قصر الاستيراد على عدد محدود من التجار لم يقف عند احتكارهم السوق، وإنما امتد لاحتكار القطاع المصرفي وعمليات "التكييش" (تحويل المبالغ الموجودة في الحسابات البنكية إلى سيولة نقدية) في ظل إغلاق البنوك، بما في ذلك التلاعب بنسبة العمولة التي يتقاضونها مقابل سحب الأموال.
ويلفت أبو قمر إلى أن الأمر وصل بهؤلاء التجار إلى التحكم بطبيعة الأموال المتداولة في السوق، إذ قرروا عدم التعامل بفئة العشرة شواقل والأوراق النقدية القديمة، ورفضوا الحصول عليها من التجار والباعة الوسطاء الذين يمثلّون حلقة وصل بين المواطنين والتجار المستوردين؛ مما أربك السوق، وجعل من تصريف العملات مهمة صعبة.
ووفق أبو قمر؛ فإن كل الإشكاليات السابقة زادت من أزمة السيولة، في الوقت الذي تقف فيه سلطة النقد والبنوك العاملة بالأراضي الفلسطينية موقف المتفرج على نسب "التكييش" المرتفعة، حتى وصلت إلى أكثر من 40%.
ويبيّن أن الاحتكار أدى لارتفاع كبير في الأسعار، فيما وصل التضخم على السلع الأساسية، مثل الدقيق والسكّر، إلى نسب غير مسبوقة زادت عن 1000%؛ مما خلق حالة من التشوه الاقتصادي.
ويضيف أبو قمر "نشهد تغيّرات على سعر السلعة الواحدة في نفس اليوم بطريقة غير مفهومة، حتى وصل الأمر إلى حدوث انخفاضات وارتفاعات على سلع أساسية في نفس اليوم بما يفوق ± 80%".
ويرى أبو قمر أن "إسرائيل نجحت في تحييد جهات الاختصاص المتمثلة بوزارة الاقتصاد ومباحث التموين، عبر الاستهداف المباشر للعاملين فيها، وبالتالي باتت السوق السوداء هي المتحكم الرئيس في الأسواق، دون قدرة السوق الرسمية على العمل بعد أشهر طويلة من حالة التشوه الاقتصادي في الأسواق والأسعار والقطاع المصرفي".
إجراءات دون تأثير
وبالتوازي مع الحرب العسكرية التي تشنها "إسرائيل" على القطاع، فإنها تستهدف مقوّمات الحياة كافة، ومقدّمي الخدمات؛ بهدف إحداث حالة من الفوضى، وزيادة الأعباء اليومية على المواطنين.
ويكشف مصدر في وزارة الاقتصاد الوطني بغزة عن محاولات حثيثة بدأ الاحتلال الإسرائيلي تنفيذها مبكرًا لشل عمل الجهات الرسمية والرقابية في القطاع.
ويوضّح المصدر، في حديث لوكالة "صفا"، أن إجراءات الاحتلال شملت استهداف العاملين في الوزارات الحكومية، وملاحقة الطواقم الميدانية التي تُلزم التجار بالبيع بأسعار معقولة تتناسب مع حالة الحرب في القطاع.
ويشير إلى أن "الاحتلال تعمد تعزيز حالة الاحتكار، إذ بدأ كل تاجر يعمل من خلال أذرعه لاستغلال قوت الناس وحاجاتهم، وتورطوا بالتحكم بالسوق عبر شبكات وظيفية تعمل لصالحهم وفق آلية التقطير واستغلال أخبار إغلاق المعابر وتشديد الحصار على غزة".
ويلفت المصدر الحكومي إلى أن آلية التحكم بالبضائع تتبع ثلاثة مسارات، هي: نوع التنسيق وكميات البضاعة المسموح بإدخالها، والاحتكار المحلي، وبيع المساعدات.
ويضرب مثالًا على المسار الأول بمنع سلطات الاحتلال إدخال المنظفات إلى القطاع لعدة أشهر، ثم السماح بإدخال كميات محدودة منها، قبل إعادة منع استيرادها من جديد، "وهو ما يؤدي لاحتكارها وزيادة العبء على المواطنين".
أما بشأن مسار "الاحتكار المحلي"، فهو يعتمد على إخفاء السلع بقصد "تعطيش" السوق، ومن ثم إخراجها وبيعها بأسعار فلكية.
ويتمثل المسار الثالث في شراء بعض التجار المساعدات التي كانت توزع مجانًا على المواطنين بـ"أسعار مغرية"، والاحتفاظ بها حتى اشتداد حاجة المواطنين إليها بفعل إغلاق المعابر، ومن ثم طرحها في السوق.
ويعترف المصدر في "الاقتصاد الوطني" أن الإجراءات الحكومية التي اتخذتها وزارته للحد من الاحتكار تبقى ضعيفة بسبب غياب الردع الحقيقي للمخالفين.
وتمثّلت الجهود الحكومية، وفق المصدر، في الحملات التفتيشية وتحديد سقف أعلى للأسعار، وبعض الإجراءات الرقابية مع الأجهزة الأخرى، مثل مباحث التموين وغيرها.
ويعزو عدم نجاح الإجراءات لعديد العوامل، أبرزها الاستهداف الإسرائيلي للإطار الحكومي، إذ تعرضت العديد من كوادر وزارة الاقتصاد للاستهداف، وعلى رأسهم وكيل الوزارة ونائبه، وعدد من أعضاء مجلس الوزارة، و"خيرة" الموظفين المختصين.
ويبين أن عدم التحكم في المعابر من الأسباب التي أدت لاحتكار السوق، عدا عن "الفوضى العائلية والنعرات القبلية وأسلوب العصابات الذي يمارسه بعض التجار، إذ تلقى موظفون حكوميون عشرات التهديدات وتعرضوا لمضايقات كبيرة بهدف منع عملهم".
وتستهدف قوات الاحتلال فرق تأمين المساعدات والتفتيش على الأسواق بغارات مركزة أدت لاستشهاد عشرات منهم، وهو ما اعتبره المكتب الإعلامي الحكومي في غزة محاولة إسرائيلية لخلق حالة من الفوضى والفلتان، بما يخدم سياسة "هندسة التجويع" التي ينتهجها الاحتلال في غزة.
تجاوز الأزمة
وفي الوقت الذي يعتقد فيه المختصون الاقتصاديون أن تجاوز الاحتكار لن يتم إلا في حال وقف العدوان والعودة للسوق الحرة، التي تكمن في فتح باب الاستيراد دون تحديد عدد معين من التجار، وعودة السوق الرسمية للعمل تحت إطار حكومي ناظم، يوصي الائتلاف من أجل النزاهة والمساءلة (أمان) بضرورة تفعيل دور الأجسام التمثيلية لتشديد الرقابة وضبط الأسعار واتخاذ إجراءات رادعة للاحتكار.
ويقول مدير مكتب "أمان" في غزة وائل بعلوشة، في تقرير عبر موقع الائتلاف، إن هناك مجموعة إجراءات يجب الأخذ بها لضبط الأسواق، تتمثل في استمرار "الجهات المعنية" بالضغط على الاحتلال لضمان تدفق المساعدات إلى القطاع؛ الأمر الذي سيسهم في إعادة الاستقرار للسوق المحلي بشكل تدريجي.
ويدعو بعلوشة إلى "العمل على تعزيز وتحفيز الطواقم العاملة في دائرة حماية المستهلك التابعة لوزارة والاقتصاد للقيام بدورها الرقابي، وتطوير منصات الشكاوى الخاصة بحماية المستهلك".
ويشدد على "أهمية التعامل مع الشكاوى الواردة من المواطنين بجدية، وتفعيل دور الأجسام التمثيلية للقطاع الخاص، للقيام بدورها التوعوي للمواطنين والتجار على حد سواء".
ويؤكد ضرورة اتخاذ ما يلزم من إجراءات رادعة ضد ظاهرة الاحتكار، وضبط الأسعار في الأسواق بما يحقق مصالح المواطنين ويعزز صمودهم.
وبشأن العمولة التي تفرضها محال الصرافة، يوصى بعلوشة بتعزيز التعاون بين الجهات المختصة والغرف التجارية؛ لاتخاذ إجراءات تمنع تقاضي التجار عمولات طائلة عند بيع السيولة، والعمل على تمكين سلطة النقد من القيام بدورها الرقابي في غزة، ودعم اتخاذها قرارات تحمي مصالح المواطنين.