نائل… صبّاب العسل!

  • الأحد 01, يونيو 2025 09:43 ص
  • نائل… صبّاب العسل!
بزغ هذا الوليّ الصالحُ من عائلة مهاجرة تنتمي إلى قرية “يِبنا” أو “أُبْنى” كما في حديث أسامة بن زيد في بَعْثه الشهير، وهي قرية كبيرة تتبع لقضاء الرملة إلى الجنوب الغربي منها، وهذه القرية كان يقال فيها إنه بلد الغريب حيث يشعر الغريب فيها بأنسٍ وكأنّه من أهله يساعدونه في إيجاد محلّ ليبيع محصوله من الزيت والزيتون والزعتر والميرمية… ويساعدونه في بناء بيته إن أراد المقام فيهم، ومن أمثالهم القديمة: صبّاب العسل يبناويّ؛ ويقال إن عائلة مصران يعود أصلها قبل “يبنا” إلى بلدة حلحول في الخليل.
نائل… صبّاب العسل!
د. أسامة الأشقر
بزغ هذا الوليّ الصالحُ من عائلة مهاجرة تنتمي إلى قرية “يِبنا” أو “أُبْنى” كما في حديث أسامة بن زيد في بَعْثه الشهير، وهي قرية كبيرة تتبع لقضاء الرملة إلى الجنوب الغربي منها، وهذه القرية كان يقال فيها إنه بلد الغريب حيث يشعر الغريب فيها بأنسٍ وكأنّه من أهله يساعدونه في إيجاد محلّ ليبيع محصوله من الزيت والزيتون والزعتر والميرمية… ويساعدونه في بناء بيته إن أراد المقام فيهم، ومن أمثالهم القديمة: صبّاب العسل يبناويّ؛ ويقال إن عائلة مصران يعود أصلها قبل “يبنا” إلى بلدة حلحول في الخليل.
نشأ الشيخ نائل غازي عبد الغني مصران متديّناً في بيئة محافظة في مخيم “يبنا” في رفح حيث نزح جدّه وأبوه، وكان في بداياته ينتمي إلى فكر سلفيّ طامحٍ، وكان يحسب أنّه يسير به إلى تحكيم شرع الله وتنزيل أحكامه، ولأنّه كان منصفاً وقّافاً على الحقّ فإنه كان يراجع ما كان عليه، ولا يبالي أن يغيّر ما يترجّح لديه أنّه خطأ أو ميل، وأن يقرّ بالحقّ الذي قنع به على الوجه الشرعيّ الذي تراءى له.
ومن المزيج الغريب الملفت في شخصيته أنّه كان متصالحاً مع التيارات الفكرية في حركة الإسلام قادراً على تحرير التقاطعات فيها، ولم يكن يتعّصب لها، فقد استقرّ له أن يكون في الفقه مقلّداً على مذهب السادة الشافعيّة مدرّساً ومعلّماً لمتونهم، وتراه في الوقت ذاته يستحضر كلام المدرسة السلفية بأناقة، وكان يستدعي كلام ابن تيمية رحمه الله ولاسيما في فقه الثغور استدعاءً مبهراً يَعجَب له المتلقّون عنه.
وكان إلى جانب شخصيته الشرعية يجمع العلوم التطبيقية مع العلوم الشرعية، فهو قد تخرج في تخصص الهندسة المدنيّة أوّلاً، ثمّ تخرج في كلية الشريعة والقانون عام 2010 وكان من الأوائل المبرّزين فيها، ونال الماجستير في الفقه عام 2012 من الجامعة الإسلامية في غـ.ــزة، وكان عنوان رسالته “مبدأ التمييز والضرورة الحربية في الشريعة الإسلامية”، ثم نال الدكتوراه بعد نحو عشر سنوات عام 2022 من جامعة القرآن الكريم وتأصيل العلوم في السودان، وكانت رسالته بعنوان “تقريرات ابن تيمية في كتاب السياسة الشرعية تخريجاً على قواعده الأصولية”.
ارتقى الدكتور نائل إلى ربّه بقصف أعمى مجنونٍ جبانٍ استهدف خيام النازحين في بلدة القرارة شمال خان يونس في 30 مايو 2025، وارتقت معه كل عائلته: زوجته داليا زكي أم محمود، وابنه محمود، وبناته الأربعة: شيماء وسهام وسميّة وريم، وارتقى معهم جيرانهم في الخيمة ستة من عائلة الأسطل بينهم أربعة أطفال.
ارتحل الشيخ جائعاً هو وأسرته، وقد حدثني أحد أصدقائه أنّه كتب قبل ارتقائه في مجموعة واتساب يشارك فيها أنه سيبيت ليلته حزيناً لأنه لم يجد ما يطعم أولاده الذين يفتك بهم الجوع؛ فقد كان الشيخ عزيز النفس جدّاً فوق أنّه سخيّ جوَاد، وكان إذا خصّه أحد أحبابه بطعام أو مال في المسغبة الشديدة يدعو له دعاءً عريضاً لأنه كان سبباً في عدم إراقة ماء وجهه في الطوابير أو سؤال الناس.
إذا جالستَ الشيخ أبا محمود فستراه مرآة صافية ذا فطرة نقيّة، وأدب جمّ، وحياء شديد، وإذا سمعتَه فستسمع في صوته أنيناً وحنيناً يشدّك إليه، ويدفعك لإكمال الاستماع إليه، فقد كان فصيحاً بليغاً، وكان خطيباً مفوّهاً تتداعى المعاني إلى لسانه، وكان يكره أن يوصف بالعالِم، ولا يرى نفسه إلا طالب علمٍ، وأنا عندما أعدتُ قراءة ما كتبه في منصاته أجده يغرف من علم متمكّن، ونظر أصيلٍ، وبيان رائقٍ، وتصوّف جميل، ولو امتدّ به العمر وفسَح الله له في الأجل فسيكون آية مشهودة مؤثرة في الناس، ولكن الله أعلم بأقداره وتدابيره.
لم يكتم الشيخ نائل علمه، وأبَى أن يخفي نفسه، ولم يناوِر، ولم يقبع في خيمة معزولة أو ركن بعيد كما فعل كثيرون ممن يجب عليهم البلاغ، بل قرّر أن يكون جبهةً في الدفاع عن أهل الثغر، والذبّ عنهم بكل قوّة، وسخّر لسانه وقلمه لأجلهم، وكان ذا حجّة متينة، ولسان صارم لا عيب فيه، وإيمان راسخ لا يعتزّ.
وكان يحب استذكار ذكرى المقاتلين الذين راتقوا في ساح المعارك، ويحفظ أسماءهم، ويوثّق كفاحهم، ويستدعي علامات الصلاح التي بدَت فيهم، ويستحقر نفسه أمامهم، وكثيراً ما كان يتحسّر على ما فاته من إدراك النعيم الذي حلّوا فيه.
هذا الرجل من الأولياء النجباء الذين اصطفاهم الله إليه فيما نحسب، وحقّ على الناس أن يجمعوا تراثه المكتوب في منصاته، وخطبه ومحاضراته وكتبه، وأن يوثقوها، وأن ينشروها بين الناس ليتعلّموا منها الثبات، ومعاني الإيمان النقيّ، وآيات التدبّر الشاهدة، وأحسب أن الله سيجعل في ذلك ذكرى وبركة للمؤمنين، وتجربة هادية للمسترشِدين، وحجّة على القاعدين من المدّعين والمتعالِمين.
رحمك الله أبا محمود، وجعل لك في الناس بقيّة وأثراً وصدقة جارية صادعةً بالحقّ.