أهالي الشهداء.. أكتافٌ تسند بعضُها بعضاً

  • الثلاثاء 23, مايو 2023 02:09 م
  • أهالي الشهداء.. أكتافٌ تسند بعضُها بعضاً
يرتقي الشهداء تباعاً، كأنّهم لا يريدون ليومٍ أن يمرّ دون أن تُروى فلسطين بالدماء الزكيّة الطاهرة. ودون مقدماتٍ تصبح عائلاتهم مركزاً للاهتمام؛ يحجّ إليهم الناسُ، صحفيون ومعزون ومهنِئون، وتُطبع مشاهد الحزن والصبر والقوّة التي تلتقطها عدساتُ المصورين لهم في ذاكرة الفلسطينيين، ويُشار لهم بالبنان في كلّ مرة يراهم الناس، ويضربون بهم مثلاً ليشحذوا قلوب المكلومين بالشهيد الجديد.
أهالي الشهداء.. أكتافٌ تسند بعضُها بعضاً
موقع متراس
سامي الشامي
يرتقي الشهداء تباعاً، كأنّهم لا يريدون ليومٍ أن يمرّ دون أن تُروى فلسطين بالدماء الزكيّة الطاهرة. ودون مقدماتٍ تصبح عائلاتهم مركزاً للاهتمام؛ يحجّ إليهم الناسُ، صحفيون ومعزون ومهنِئون، وتُطبع مشاهد الحزن والصبر والقوّة التي تلتقطها عدساتُ المصورين لهم في ذاكرة الفلسطينيين، ويُشار لهم بالبنان في كلّ مرة يراهم الناس، ويضربون بهم مثلاً ليشحذوا قلوب المكلومين بالشهيد الجديد.
بالقوّة التي سطرتها عائلات الشهداء، استطاعوا الخروج من مكانٍ يستدعي الشفقة والمساعدة وجعلوا من أنفسهم قدوة في عيون الناس الذين ينظرون إليهم شاهدين على عظمة الصبر على محياهم. بل إنّ منهم من كانوا منغمسين في متاعب الدنيا حتى انقلبت حياتهم وتفرّغوا لحمل رسالة أبنائهم، فصنعوا لأنفسهم مكاناً في الميدان، يهتمون بشؤون بعضهم البعض، يخرجون للتعبير عن مواقفهم السياسيّة والوطنيّة، ويبادرون لتنظيم الوقفات الاحتجاجية، خاصّةً في موضوع استعادة جثامين الشهداء.
وربما كان مشهد إصرار بعض أمهات الشهداء أو آبائهم على الدخول بين الجموع الغفيرة خلال تشييع أبنائهم، متقدّمين الصفوف يرفعون جثامين أبنائهم، ربما كان شارة البداية لمشوار حملِ الرسالة هذا، ووعد بأن لا تضيع. في هذا المقال ننقل بعضاً من مشاهد تكاتف أهالي الشهداء، ومن نشاطهم المجتمعي.
كتفي لأخي وكتف أخي لي..
نحو عشرين سيدة فلسطينية، ينزلن بهدوء وسكينة من حافلة اصطفت أمام منزل عائلة الشهيد أدهم جبارين في مخيّم جنين1، يمشين صفاً واحداً باتجاه باب البيت، تخرج والدة أدهم المكلومة منذ يومين، تستقبل رفيقاتها وصاحباتها في الوجع والحزن، بينما يلمح المرءُ ابتسامةً على وجه كلِّ أمِّ شهيدٍ وهي تُعرّف عن نفسها باسم ابنها الشهيد، هذا الاسم الذي سيرافقها طيلة حياتها.
تحتضن أمهات الشهداء بقلوبهن أم الشهيد الجديد، يحاولن أن يبتسمن في وجهها كرسالةٍ أوليّة لها: "ها نحن صابرات قويات، نأتيكِ لنتقاسمَ الجرح والألم، ستكونين قويّةً مثلنا"، بعض الأمهات لا يتمالكنّ أنفسهن، يبكين ويذرفن الدموع كأنّ ابنها قد فارق الحياة لتوه.
ختام جرار، والدة الشهيد أحمد نصر جرار2، تقول في حديثٍ لـ"متراس": "بعد كل شهيدٍ نُحدِّد موعداً قريباً نخرج فيه جميعاً إلى بيت الشهيد، وأحياناً يصل عددنا إلى 30 أو 40 أمّاً، نُعرّف عن أنفسنا عند وصولنا، ونحاول في زيارتنا أن نُصبّر والدة الشهيد من خلال كلامنا وحديثنا معها". تُضيف: "أخبرتني إحدى أمهات الشهداء التي ذهبنا لتعزيتها، بأنَّ ألم فراق ابنها وكأنه زال بنسبةٍ عاليةٍ عندما رأت الأمهات يدخلن عليها ويقلن لها كلاماً يصبّرها ويرفع من معنوياتها".
وفي مشهدٍ شبيه، ترجّلت والدة الشهيد إبراهيم النابلسي من المركبة، وبرفقة أمهات شهداء آخرين تقدّمت نحو جمعٍ من النساء أمام منزل عائلة الشهيدين جواد وظافر الريماوي في بيت ريما شمال غرب رام الله. 3أخبرتها النسوة على باب البيت أنّ أمّ ظافر تنتظرها رغم أنّها لم تخبرها مسبقاً بنيّة الزيارة. تقول هدى، والدة الشهيد النابلسي: "عانقتُ الأم وأخذتني إلى غرفة ابنيها لتريني مقتنياتهما وصور الشهداء المعلقة، دار بيني وبينها حديثٌ طويل ومطمئن، حاولت رفع معنوياتها من خلال حديثي عن مراتب الشهداء وعن اصطفائهم من الله، ولاحظت تغيراً عليها أثناء مغادرتي لبيتها".
أصبح الحِمل كبيراً على أهالي الشهداء، خاصّةً أولئك الأقوياء الذي ظهروا أمام الناس بصورةٍ جسّدت معنى الصبر على الفراق، وعلى سبيل المثال لا الحصر، والدة الشهيد إبراهيم النابلسي، التي صار لزاماً عليها أن تزور كل بيت شهيد لما تعطيه من معنوياتٍ وتضفي جواً عظيماً تحتاجه الكثير من عائلات الشهداء كي تتجاوز المراحل الأولى بعد استشهاد نجلهم.
في المقابل، فإنّ هذه الزيارات تُخفّف أيضاً على عائلات الشهداء السابقين. تقول لبنى العموري، والدة الشهيد جميل العموري: "أنا روحي كانت متعلقة بجميل، وحزني كبير جداً على فراقه، لكنني من خلال لقائي بأمهات الشهداء وخروجي معهن إلى بيوت العزاء أخفّف من حزني على فقده، وأتقاسم وجعي مع أمهات الشهداء الذي صرن بمثابة أخوات لي".
الشهيد إذ يجلب لوالديه أصدقاء جدداً..
لا تنحصر العلاقات بين أهالي الشهداء على المشاركة في بيوت العزاء، بل تمتد إلى ما هو أبعد من ذلك. يقول محمد عليان، والد الشهيد بهاء عليان الذي ارتقى عام 20154، بأن أهالي الشهداء تجمعوا في مجموعات اجتماعيّة وأن ذلك يُغطي على علاقاتهم السابقة التي قد تختفي بعد الثكل، إذ لا تعود والدة الشهيد إلى ممارسة حياتها الطبيعيّة بعد فقدان ابنها، فنادراً ما تذهب إلى عرسٍ أو مناسبةٍ اجتماعية، وحتى أنّها نادراً ما تجامل صديقاتها القديمات. تُغطي على هذا التغيير علاقة أمّ الشهيد بأخواتها الجديدات من أمهات الشهداء، اللواتي يعشن الوجع والثكل ذاته، وهو ما ينطبق أيضاً على آباء الشهداء، وفق ما يقوله عليان.
يضيف عليان، وهو أحد النشطاء والفاعلين برفقة أهالي الشهداء على المستوى السياسي والاجتماعي، بأنّ هذا النشاط بين الأهالي لا يندرج ضمن مؤسسة أو جمعية، بل هو علاقات حميمية وقوية بين الأهالي تهدف إلى المناصرة، وتحاول سدّ الفراغ بعد أيام بيت العزاء. ويقول: "هذه المجموعات تضمّ ما بين 200 إلى 300 عائلة شهيد من الحديثين والقدامى يتشاركون الوجع، ويزورون بعضهم في مناسباتٍ اجتماعيّة، ويساهمون في دفع تكاليف الزيارة من أموالهم الخاصة، مثلاً إذا قررنا شراء هدية لعائلة شهيد نتشارك في دفع ثمنها جميعا وكذلك أجرة الحافلات، أي بمجهود شخصي لا تعب أو عبء فيه على أحد بعينه".
ويؤرخ عليان لبداية تشكل هذه المجموعات، وبالأخص في منطقتي القدس والخليل، وممارستها نشاطاتها المختلفة إلى العام 2015 الذي شهد هبّة القدس، وارتقى فيه العشرات من الشهداء. كما أنّ سياسة احتجاز الجثامين التي عادت منذ ذلك العام كانت دافعاً كبيراً لتشكيل مثل هذه التجمعات، إذ شارك الأهالي سوياً في المطالبة باسترداد جثامين أبنائهم.
وكذلك الأمر في جنين، إذ تشكلت مجموعات أهالي الشهداء فيها بعد استشهاد نور جرار وأمجد العزمي وصالح عمار ورائد أبو سيف، خلال اشتباكات مسلحة في آب/ أغسطس 2021. احتجز الاحتلال يومها جثماني جرار والعزمي، ومن ثمّ انطلقت حملة في مخيم جنين للمطالبة بتسليم الجثمانين، وتجمّعت العائلات في خيمة دائمة وسط مخيم جنين، ومن هناك بدأت فعالياتهم الاجتماعيّة والوطنيّة إلى أن صاروا مجموعة كبيرة من العائلات خاصّةً أن قافلة الشهداء لم تتوقف.
أن يصبح الشهيد مفتاح الصُلح بين الناس
ولأهالي الشهداء دورٌ أيضاً على كافة المستويات الاجتماعيّة والثقافيّة والسياسيّة، إذ أصبح عدد منهم يشارك في حلِّ الخلافات العائلية بين الناس، ويُطلب منهم أحياناً التحدث باسم عائلاتهم في المناسبات. يقول الشيخ بسّام حمّاد والد الشهيد أنس حماد: "تحظى عائلات الشهداء باحترامٍ كبير ولهم تأثير واضح في المجتمع، فإذا تدخلوا في حل خلاف ما بين الناس يمكنهم التقدم بعشر خطوات إلى الأمام نظراً للاحترام الذي يجدوه من المتخاصمين، وهناك الكثير من القصص التي تدخلت بها عائلات الشهداء واستطاعوا حلها بعد أن أسقط طرفا الخلاف مطالبهم إكراماً لهم".5
يؤكد على ذلك محمود الأعرج، والد الشهيد باسل الأعرج، مشيراً إلى أنَّ الناس لا يكسرون لآباء الشهداء كلمة، ولا يخرجونهم خائبين عند تدخلهم في حلّ خلافٍ ما، ويستذكر قصةً وقعت عندما تدخّل برفقة عددٍ من ذوي الشهداء لحلِّ إشكاليةٍ ما، وعندما توّجهوا إلى صاحب الحق قال لهم: "كرمال هاي الجاهة اللي ما رح يجيني أكرم منها وكرمال الشهداء أنا أسقط حقي وأعفو وأسامح".6
أن تحبّهم لدرجة أن يكون مصيرك كمصيرهم..
من القصص اللافتة قصة هديل طه، سيدة من نابلس، دفعها الواجب الوطنيّ والإنسانيّ لمرافقة أمهات الشهداء في زياراتهنّ بعد ارتقاء كل شهيد جديد، رغم أنّها لم تكن بنفسها والدة شهيد.
بعد اغتيال الشبان محمد الدخيل وأدهم مبروكة وأشرف المبسلط في الثامن من شباط/فبراير 2022،7 وتوالي الشهداء بعدهم، تشكّلت مجموعة من أمهات الشهداء يذهبن سوياً لمواساة أم الشهيد الجديد. هديل طه، سيدة من نابلس، دفعها الواجب الوطنيّ والإنسانيّ لمرافقتهنّ رغم أنّها لم تكن بنفسها والدة شهيد. تقول هديل إنّها تعرّفت عليهن في إحدى "بيوت التهنئة" كما تحب أن تُسمّيها، وانضمت لهنّ بهدف المشاركة في تخفيف الوجع عند الأمهات، ولو بالكلمة الطيبة.
في التاسع من آب/ أغسطس 2022، ارتقى كل من إبراهيم النابلسي وإسلام صبوح في اشتباكٍ مسلّحٍ داخل البلدة القديمة، واستشهد أيضاً الفتى حسين طه (16 عاماً) خلال المواجهات في محيطها. كان حسين هو ابن السيدة هديل التي كانت ترافق أمهات الشهداء دون أن يكون لها قريب شهيد، والآن أصبحت بعد ارتقاء ابنها إحدى الأمهات الأساسيات بالمجموعة.
تقول هديل طه: "كان دائما حسين يسألني عند عودتي من بيت تهنئة لشهيد جديد، عن ماذا يدور من حديث مع أمهات الشهداء، وكنت أرى مدى سعادته عندما أحدثه عن زيارتنا لأمهات الشهداء، فكان يغنّي لي يا أم الشهيد إن شاء الله تصيري أم شهيد"، فصارت أم حسين كما تمنى لها ابنها.