القيادي محمود عيسى.. روح معلّقة بين أسوار القدس وذاكرة السجن
المركز الفلسطيني للإعلام
في زاويةٍ هادئة من إحدى قاعات الاستقبال في القاهرة، جلس الأسير المقدسي المحرر محمود موسى عيسى، متعب الملامح، نحيل الجسد، كأن السنين قد مرت فوقه لا به.
ثلاثة عقودٍ أمضاها في معازل سجون الاحتلال الإسرائيلي، خرج بعدها إلى فضاءٍ لا يشبه الوطن، إذ حُرِّر في صفقة طوفان الأقصى، لكنه أُقصي قسراً بعيدًا عن بيته في بلدة عناتا بالقدس المحتلة، وعن شاهد قبر أمه التي رحلت قبل أن تراه حرًّا.
كانت لحظة الإفراج مزدوجة الإحساس: حرية الجسد يقابلها نفي الروح. فقد أصر الاحتلال على أن تكون الحرية مقرونة بالاقتلاع من الجذور، كنمط عقابي يهدف إلى كسر الانتماء وسلب المعنى من التضحية.
يقول ابن خالته يوسف الحوت: “شاهدته عبر شاشة التلفاز بعد الإفراج.. لم أتعرف عليه إلا من عينيه. بدا متعبًا، صوته واهن لكنه مفعم بالإيمان، قال لي في مكالمة قصيرة: خرجت من الزنزانة، لكن قلبي ما زال في عناتا”.
طفولة المقاومة وبدايات الوعي
وُلد محمود عيسى عام 1968 في بلدة عناتا شرقي القدس، ونشأ في أسرةٍ متدينةٍ حملت القدس في وجدانها. درس في مدارس البلدة ثم في مدرسة الرشيدية، قبل أن يلتحق بكلية الدعوة وأصول الدين في جامعة القدس – أبو ديس.
منذ شبابه المبكر، كان هادئًا عميق التفكير، كما يصفه الحوت: “كان يحب الكلمة كما يحب البندقية، يرى في المقاومة فعلاً للعدالة لا ثأرًا”.
في أواخر الثمانينيات، انخرط في صفوف حركة حماس، وكان من أوائل من أسسوا الخلايا العسكرية في القدس، إذ شارك بتأسيس الوحدة الخاصة 101 التابعة لكتائب الشهيد عز الدين القسام، إلى جانب رفاقه موسى عكاري، ومحمود عطّون، وماجد قطيش.
وقد نفذت الوحدة سلسلة عمليات نوعية ضد الاحتلال، أبرزها عملية أسر الجندي نسيم توليدانو قرب مدينة اللد في 13 ديسمبر/كانون الأول 1992، واحتجزته في إحدى المغارات الأثرية قرب قرية حزما شمال شرقي القدس.
منحت الوحدة حكومة الاحتلال مهلةً مدتها عشر ساعات لتنفيذ مطلبها، لكن رئيسها آنذاك إسحاق رابين رفض الاستجابة، فقام أفراد الخلية بتنفيذ وعيدهم وقتلوا الجندي، وألقوا جثته في أحد شوارع اللد، في رسالةٍ صريحة بأن الأسرى الفلسطينيين ليسوا ورقة منسية في معادلة الصراع.
ردّ الاحتلال على تلك العملية باعتقالاتٍ واسعة في صفوف أبناء حركتي حماس والجهاد الإسلامي، ومطارداتٍ شرسة، فيما أُبعد 415 من قادة وناشطي حركتي حماس والجهاد الإسلامي إلى مرج الزهور في جنوب لبنان أواخر عام 1992.
أما محمود فقد اعتقل في يونيو/حزيران 1993، ليحكم عليه بالسجن المؤبد ثلاث مرات و46 عامًا إضافية وذلك بعد سلسلة عمليات نوعية نفذتها الوحدة 101، من بينها دهس جندي في الخضيرة في مارس/آذار 1993، وقتل شرطيين في المدينة نفسها بعد أيام، ثم استهداف عقيد في جيش الاحتلال على مفرق “بيلو” قرب الرملة في مايو/أيار من العام ذاته.
ثلاثة عقود من الصمود والعزلة
داخل السجن، تحوّل القيادي المكنى بـ”أبو البراء” إلى مدرسة فكرية وتنظيمية في صفوف الأسرى. انتُخب عضوًا في الهيئة القيادية العليا لحماس، وشارك في قيادة الإضرابات عن الطعام، وكتب دراساتٍ فكرية وسياسية شكّلت مرجعًا للأسرى في الوعي والمقاومة. فما أراده الاحتلال كسرًا لإرادته، تحوّل في الواقع إلى أسطورة صمودٍ تجاوزت الزمان والمكان، ظلّ خلالها محمود صامدًا في وجه كل محاولات العزل والتنكيل، محتفظًا بصلابته وإيمانه بعدالة قضيته.
احتفظ محمود بصلابته مع مساعي الاحتلال لعزله عن رفاقه، إذ قضى 13 عامًا في العزل الانفرادي، تنقّل خلالها بين الزنازين من سجنٍ إلى آخر كل ستة أشهر، في سياسة هدفها كسر الإرادة وتشويش الذاكرة الجمعية للأسير. لم يسمح له بإكمال دراسته، ومنعه من وداع والده الذي توفي بعد عام من اعتقاله، واعتقلت والدته للضغط عليه، ولم يسمح لها بزيارته سوى خمس مرات فقط خلال 30 عاما من الأسر، تاركةً خلفها حسرة الفراق الطويل.
الإبعاد.. حرية بنكهة المنفى
حين أُعلن عن صفقة وفاء الأحرار عام 2011، كان اسم عميد أسرى حماس وأحد رموز الصمود الأسطوري للحركة الأسيرة الفلسطينية من أوائل المرشحين للإفراج، لكن الاحتلال رفض إدراجه بدعوى “الخطورة الأمنية”، ولم يضمنه في قوائم أسرى ما قبل أوسلو الذين أفرج عنهم عام 2013، حتى جاءت صفقة طوفان الأقصى لتكسر القيد أخيرًا. غير أن الحرية جاءت مشروطة بالإبعاد.
نُقل محمود إلى القاهرة بإشراف الصليب الأحمر، في واحدة من السياسات التي تمارسها سلطات الاحتلال ضد الأسرى المحررين، وهي إبعادهم عن جغرافيتهم الأصلية بهدف حرمانهم من إعادة الاندماج في بيئتهم الوطنية.
يرى خبراء حقوق الإنسان أن هذا النوع من الإبعاد يمثل “عقوبة مضاعفة” تخالف القانون الدولي الإنساني، إذ يُستخدم كأداة لعزل المقاوم عن محيطه وتحويله إلى كائن بلا مكان ولا ذاكرة.
تقول الباحثة في علم الاجتماع السياسي د. رنا العابد في تعليقها على هذه السياسة: “الإبعاد الإسرائيلي ليس فقط انتهاكًا جسديًا، بل تفكيكٌ رمزي لهوية الأسير. إنه نوع من الحرب النفسية الممتدة، يهدف إلى تجريد الفلسطيني من إحساسه بالانتماء والجدوى بعد خروجه من الأسر”.
إرث الصمود
لم يكن محمود عيسى مجرد أسير، بل مفكر مقاوم حمل قضيته من خلف القضبان إلى صفحات الكتب. أصدر خلال سجنه سبعة مؤلفات تناولت موضوعات المقاومة والسياسة والفكر الإسلامي، منها: المقاومة بين النظرية والتطبيق، حكاية صابر، السياسة بين الواقعية والشرعية، وتأملات قرآنية.
يقول ابن خالته: “كتب محمود في الزنزانة ما لم يكتبه كثيرون في الحرية، كان يؤمن أن الفكر هو الجبهة التي لا تُقصف”.
اليوم، يعيش محمود عيسى في القاهرة مؤقتًا، جسده حرٌّ لكن روحه ما تزال معلّقة بين أسوار القدس وذاكرة السجن.
وفي صوته حين يتحدث عن العودة، تسمع نبرة رجلٍ يرى في النفي فصلًا آخر من المقاومة، لا نهايتها، إذ يقول: “خرجت من الزنزانة، لكني لم أخرج من القضية”، لتكون كلماته شاهدًا على جيلٍ آمن أن الحرية لا تكتمل إلا بالعودة إلى الأرض التي من أجلها اعتُقل.
المركز الفلسطيني للإعلام
في زاويةٍ هادئة من إحدى قاعات الاستقبال في القاهرة، جلس الأسير المقدسي المحرر محمود موسى عيسى، متعب الملامح، نحيل الجسد، كأن السنين قد مرت فوقه لا به.
ثلاثة عقودٍ أمضاها في معازل سجون الاحتلال الإسرائيلي، خرج بعدها إلى فضاءٍ لا يشبه الوطن، إذ حُرِّر في صفقة طوفان الأقصى، لكنه أُقصي قسراً بعيدًا عن بيته في بلدة عناتا بالقدس المحتلة، وعن شاهد قبر أمه التي رحلت قبل أن تراه حرًّا.
كانت لحظة الإفراج مزدوجة الإحساس: حرية الجسد يقابلها نفي الروح. فقد أصر الاحتلال على أن تكون الحرية مقرونة بالاقتلاع من الجذور، كنمط عقابي يهدف إلى كسر الانتماء وسلب المعنى من التضحية.
يقول ابن خالته يوسف الحوت: “شاهدته عبر شاشة التلفاز بعد الإفراج.. لم أتعرف عليه إلا من عينيه. بدا متعبًا، صوته واهن لكنه مفعم بالإيمان، قال لي في مكالمة قصيرة: خرجت من الزنزانة، لكن قلبي ما زال في عناتا”.
طفولة المقاومة وبدايات الوعي
وُلد محمود عيسى عام 1968 في بلدة عناتا شرقي القدس، ونشأ في أسرةٍ متدينةٍ حملت القدس في وجدانها. درس في مدارس البلدة ثم في مدرسة الرشيدية، قبل أن يلتحق بكلية الدعوة وأصول الدين في جامعة القدس – أبو ديس.
منذ شبابه المبكر، كان هادئًا عميق التفكير، كما يصفه الحوت: “كان يحب الكلمة كما يحب البندقية، يرى في المقاومة فعلاً للعدالة لا ثأرًا”.
في أواخر الثمانينيات، انخرط في صفوف حركة حماس، وكان من أوائل من أسسوا الخلايا العسكرية في القدس، إذ شارك بتأسيس الوحدة الخاصة 101 التابعة لكتائب الشهيد عز الدين القسام، إلى جانب رفاقه موسى عكاري، ومحمود عطّون، وماجد قطيش.
وقد نفذت الوحدة سلسلة عمليات نوعية ضد الاحتلال، أبرزها عملية أسر الجندي نسيم توليدانو قرب مدينة اللد في 13 ديسمبر/كانون الأول 1992، واحتجزته في إحدى المغارات الأثرية قرب قرية حزما شمال شرقي القدس.
منحت الوحدة حكومة الاحتلال مهلةً مدتها عشر ساعات لتنفيذ مطلبها، لكن رئيسها آنذاك إسحاق رابين رفض الاستجابة، فقام أفراد الخلية بتنفيذ وعيدهم وقتلوا الجندي، وألقوا جثته في أحد شوارع اللد، في رسالةٍ صريحة بأن الأسرى الفلسطينيين ليسوا ورقة منسية في معادلة الصراع.
ردّ الاحتلال على تلك العملية باعتقالاتٍ واسعة في صفوف أبناء حركتي حماس والجهاد الإسلامي، ومطارداتٍ شرسة، فيما أُبعد 415 من قادة وناشطي حركتي حماس والجهاد الإسلامي إلى مرج الزهور في جنوب لبنان أواخر عام 1992.
أما محمود فقد اعتقل في يونيو/حزيران 1993، ليحكم عليه بالسجن المؤبد ثلاث مرات و46 عامًا إضافية وذلك بعد سلسلة عمليات نوعية نفذتها الوحدة 101، من بينها دهس جندي في الخضيرة في مارس/آذار 1993، وقتل شرطيين في المدينة نفسها بعد أيام، ثم استهداف عقيد في جيش الاحتلال على مفرق “بيلو” قرب الرملة في مايو/أيار من العام ذاته.
ثلاثة عقود من الصمود والعزلة
داخل السجن، تحوّل القيادي المكنى بـ”أبو البراء” إلى مدرسة فكرية وتنظيمية في صفوف الأسرى. انتُخب عضوًا في الهيئة القيادية العليا لحماس، وشارك في قيادة الإضرابات عن الطعام، وكتب دراساتٍ فكرية وسياسية شكّلت مرجعًا للأسرى في الوعي والمقاومة. فما أراده الاحتلال كسرًا لإرادته، تحوّل في الواقع إلى أسطورة صمودٍ تجاوزت الزمان والمكان، ظلّ خلالها محمود صامدًا في وجه كل محاولات العزل والتنكيل، محتفظًا بصلابته وإيمانه بعدالة قضيته.
احتفظ محمود بصلابته مع مساعي الاحتلال لعزله عن رفاقه، إذ قضى 13 عامًا في العزل الانفرادي، تنقّل خلالها بين الزنازين من سجنٍ إلى آخر كل ستة أشهر، في سياسة هدفها كسر الإرادة وتشويش الذاكرة الجمعية للأسير. لم يسمح له بإكمال دراسته، ومنعه من وداع والده الذي توفي بعد عام من اعتقاله، واعتقلت والدته للضغط عليه، ولم يسمح لها بزيارته سوى خمس مرات فقط خلال 30 عاما من الأسر، تاركةً خلفها حسرة الفراق الطويل.
الإبعاد.. حرية بنكهة المنفى
حين أُعلن عن صفقة وفاء الأحرار عام 2011، كان اسم عميد أسرى حماس وأحد رموز الصمود الأسطوري للحركة الأسيرة الفلسطينية من أوائل المرشحين للإفراج، لكن الاحتلال رفض إدراجه بدعوى “الخطورة الأمنية”، ولم يضمنه في قوائم أسرى ما قبل أوسلو الذين أفرج عنهم عام 2013، حتى جاءت صفقة طوفان الأقصى لتكسر القيد أخيرًا. غير أن الحرية جاءت مشروطة بالإبعاد.
نُقل محمود إلى القاهرة بإشراف الصليب الأحمر، في واحدة من السياسات التي تمارسها سلطات الاحتلال ضد الأسرى المحررين، وهي إبعادهم عن جغرافيتهم الأصلية بهدف حرمانهم من إعادة الاندماج في بيئتهم الوطنية.
يرى خبراء حقوق الإنسان أن هذا النوع من الإبعاد يمثل “عقوبة مضاعفة” تخالف القانون الدولي الإنساني، إذ يُستخدم كأداة لعزل المقاوم عن محيطه وتحويله إلى كائن بلا مكان ولا ذاكرة.
تقول الباحثة في علم الاجتماع السياسي د. رنا العابد في تعليقها على هذه السياسة: “الإبعاد الإسرائيلي ليس فقط انتهاكًا جسديًا، بل تفكيكٌ رمزي لهوية الأسير. إنه نوع من الحرب النفسية الممتدة، يهدف إلى تجريد الفلسطيني من إحساسه بالانتماء والجدوى بعد خروجه من الأسر”.
إرث الصمود
لم يكن محمود عيسى مجرد أسير، بل مفكر مقاوم حمل قضيته من خلف القضبان إلى صفحات الكتب. أصدر خلال سجنه سبعة مؤلفات تناولت موضوعات المقاومة والسياسة والفكر الإسلامي، منها: المقاومة بين النظرية والتطبيق، حكاية صابر، السياسة بين الواقعية والشرعية، وتأملات قرآنية.
يقول ابن خالته: “كتب محمود في الزنزانة ما لم يكتبه كثيرون في الحرية، كان يؤمن أن الفكر هو الجبهة التي لا تُقصف”.
اليوم، يعيش محمود عيسى في القاهرة مؤقتًا، جسده حرٌّ لكن روحه ما تزال معلّقة بين أسوار القدس وذاكرة السجن.
وفي صوته حين يتحدث عن العودة، تسمع نبرة رجلٍ يرى في النفي فصلًا آخر من المقاومة، لا نهايتها، إذ يقول: “خرجت من الزنزانة، لكني لم أخرج من القضية”، لتكون كلماته شاهدًا على جيلٍ آمن أن الحرية لا تكتمل إلا بالعودة إلى الأرض التي من أجلها اعتُقل.