تأثير طوفان الأقصى في توجهات النخبة الفكرية السياسية الأمريكية

مقالات وأبحاث

  • السبت 06, ديسمبر 2025 09:15 ص
  • تأثير طوفان الأقصى في توجهات النخبة الفكرية السياسية الأمريكية
لعل مفهوم “النخبة الفكرية” من بين المفاهيم الأكثر جدلاً حول تعريفه، لكن أغلب التعريفات للنخب بشكل عام تربط بين هوية النخبة وبين أداة التأثير في المجتمع، فهناك نخب مالية (الأكثر تأثيراً في المجتمع من خلال نفوذها المالي) والنخب السياسية (قادة الأحزاب والتنظيمات السياسية خصوصاً الأكثر وزناً في التأثير على القرار السياسي)، وهناك النخب الاجتماعية (أي الأفراد الذين يتنبأون مواقع متقدمة في السلم الاجتماعي، كرجال الدِّين وشيوخ القبائل)… إلخ. أما النخبة الفكرية فهي الأكثر تأثيراً في “ثقافة ومناهج تفكير المجتمع”، والتي تتمركز في الجامعات ومراكز الأبحاث ووسائل الإعلام الأكثر جمهوراً ورؤساء بعض مؤسسات المجتمع المدني والخيري، وتنصب مهمتهم على توليد المعرفة وتوجيه التفكير والتأثير على صانع القرار الاستراتيجي للدولة.
تأثير طوفان الأقصى في توجهات النخبة الفكرية السياسية الأمريكية
د. وليد عبد الحي
مقدمة:
لعل مفهوم “النخبة الفكرية” من بين المفاهيم الأكثر جدلاً حول تعريفه، لكن أغلب التعريفات للنخب بشكل عام تربط بين هوية النخبة وبين أداة التأثير في المجتمع، فهناك نخب مالية (الأكثر تأثيراً في المجتمع من خلال نفوذها المالي) والنخب السياسية (قادة الأحزاب والتنظيمات السياسية خصوصاً الأكثر وزناً في التأثير على القرار السياسي)، وهناك النخب الاجتماعية (أي الأفراد الذين يتنبأون مواقع متقدمة في السلم الاجتماعي، كرجال الدِّين وشيوخ القبائل)… إلخ. أما النخبة الفكرية فهي الأكثر تأثيراً في “ثقافة ومناهج تفكير المجتمع”، والتي تتمركز في الجامعات ومراكز الأبحاث ووسائل الإعلام الأكثر جمهوراً ورؤساء بعض مؤسسات المجتمع المدني والخيري، وتنصب مهمتهم على توليد المعرفة وتوجيه التفكير والتأثير على صانع القرار الاستراتيجي للدولة.
وتشير الدراسات الأمريكية إلى أن 54.2% من النخبة الفكرية الأمريكية تخرجوا من أهم 34 مؤسسة أكاديمية أمريكية، في الوقت الذي يقترب عدد الجامعات الأمريكية من نحو 4 آلاف جامعة. وهو ما يعني أن في الولايات المتحدة “نخبة مؤسسية” أكاديمية تشكل نحو 0.85% من مجموع المؤسسات الأكاديمية لكنها تفرز أكثر من نصف النخبة الفكرية في الولايات المتحدة.
وعند دراسة بنية النخبة الفكرية الأمريكية منذ نصف قرن تقريباً وحتى الآن، تُجمع الدراسات على أن نسبة اليهود بين أفراد النخبة الفكرية الأمريكية تفوق بشكل واضح نسبتهم السكانية في المجتمع والتي هي في حدود 2.4%، والمقارنة التاريخية تشير إلى أنه كان لليهود حضورٌ بارز في الأوساط الأكاديمية المرموقة، فقد أظهرت دراسةٌ أُجريت على الفترة ما بين سنتي 1965 و1982 أن اليهود شكّلوا 40% من الحائزين على جائزة نوبل الأمريكية في العلوم والاقتصاد، 20% من الأساتذة في الجامعات الرائدة، إلا أن هذا التمثيل يتغير حالياً، فقد أشارت دراسة حديثة إلى أن 4% فقط من الأكاديميين الأمريكيين المتميزين الذين تقل أعمارهم عن 30 عاماً هم من اليهود، مقارنةً بـ 21% بين جيل ما بعد الحرب العالمية الثانية، وتشير أغلب الدراسات إلى أن نسبة اليهود بين النخبة الفكرية الأمريكية تميل للتراجع لكنها ما تزال تفوق نسبتهم السكانية بشكل واضح.
ويشير تقرير لمجلس الشؤون الخارجية الأمريكي Council on Foreign Relations إلى التحول الذي بدأ يتضح في توجهات النخبة الأمريكية تجاه “إسرائيل”، إذ “أظهرت معظم الجامعات الأمريكية المرموقة… بعد السابع من أكتوبر…. معظم المؤسسات الثقافية الأمريكية المهيمنة، وليس فقط الجامعات النخبوية بل معظم وسائل الإعلام، والمتاحف، وجزء كبير من هوليوود [Hollywood] وغالبية الممثلين والرسامين والكتاب المشهورين أنها معادية بشدة لإسرائيل”.
ما سبق، يعنينا في هذه الدراسة تحديداً، لأن ذلك أمر يستحق التنبه له لما له أثر—على المدى المتوسط والبعيد—على توجهات الرأي العام الأمريكي نحو قضايا المنطقة العربية وخصوصاً القضية الفلسطينية. والملاحظ أن النخبة الفكرية الأمريكية ذات التأثير تضم 40% من أساتذة الجامعات خصوصاً من المتخصصين في العلوم الاجتماعية والإنسانية، و40% من كتاب الصحف والمجلات المعروفة إلى جانب 15% من المنتمين لتخصصات الأدب والفنون، ويتوزع الباقي على فروع مختلفة.
أولاً: قياس تأثير طوفان الأقصى على توجهات النخبة:
شكل طوفان الأقصى حدثاً مرجعياً لتطورات عميقة أصابت تفاعلات المجتمع الدولي مع المشهد السياسي القائم في الشرق الأوسط، ونظراً لعمق الانخراط الأمريكي في الشأن الشرق أوسطي، فإننا سنحاول رصد تأثير هذا الحدث على “الفكر السياسي” الأمريكي ممثلاً بأبرز من يمثلون هذا الفكر بمدارسهم الفكرية المختلفة.
ويمكن تقسيم قطاعات التأثير على المفكرين من خلال الأبعاد التالية التي سنوضحها لاحقاً:
1. اتساع الانقسام داخل المجتمع الأمريكي (الرأي العام، والقيادات الحزبية، والقيادات المستقلة، والقيادات الفكرية) حول السياسة الأمريكية تجاه الحرب في غزة.
2. التأثير على المنظومة القِيَميّة السياسية الأمريكية خصوصاً في جانب الحرية الفكرية والأكاديمية.
3. درجة التحول في الانحيازات الحزبية الأمريكية تجاه طرفي الصراع الإسرائيلي – الفلسطيني.
4. تأثير المفكرين على تحولات الرأي العام الأمريكي تجاه موضوع الصراع.
وسنختار عينة—نُقدّر أنها ممثلة—من مجموعة من أبرز أعضاء النخبة الفكرية الأمريكية المعاصرة، ونحاول رصد توجهاتهم، لنصل إلى تحديد الاتجاه العام للتحولات سالفة الذكر، وقد حاولنا الرجوع لأكبر عدد ممكن من المواقع ذات العلاقة بموضوعات النخبة، وعملنا على اختيار الأسماء الأكثر تكراراً في هذه المواقع وكان عددهم 24 فرداً، وهم الواردة أسماؤهم في الجدول رقم (1).
وبتحليل الجدول رقم 1 يتبين لنا ما يلي:
1. من بين الـ 24 من أفراد النخبة الفكرية السياسية هناك 16 يهودياً، و6 من أصول مسيحية ومسلمان (أو من أصول إسلامية)، وهو ما يؤكد أن نسبة اليهود بين النخبة ما تزال تفوق نسبتهم السكانية على الرغم من بعض التراجع في هذا الجانب.
2. عند توزيع التوجه الفكري لكل منهم كانت النتيجة هي:
* من بين اليهود الـ 16 هناك 5 علمانيين أو لا دينيين.
* من بين المسيحيين الـ 6 هناك 3 علمانيين أو لا دينيين.
* من بين المسلمين هناك واحد من أصول إسلامية لكنه غير متديّن.
3. عند توزيع توجهات أفراد عينة النخبة قبل وبعد الطوفان، تبين لنا النتائج التالية استناداً لعينات من مقالات العينة:
* تغيرت توجهات 9 من الـ 24 مثقفاً أمريكياً باتجاه موقف أقرب—ولو بنسب متباينة— للموقف الفلسطيني قياساً لموقفهم قبل الطوفان، ويظهر ذلك سواء بالإعراب الصريح عن موقف مساند للمطالب الفلسطينية أم تزايد النقد لبعض أو كل السياسات الإسرائيلية بعد الطوفان، سواء السياسات الإسرائيلية العسكرية أم الإنسانية، بينما لم نجد نقداً ذا دلالة من هؤلاء للسياسات الإسرائيلية قبل الطوفان، ذلك يعني أن الطوفان أحدث تحولاً تصل نسبته إلى 37.5% في أوساط النخبة السياسية الفكرية الأمريكية، وهو أمر لا يمكن فصله عن أن المظاهرات المساندة للفلسطينيين شملت نحو 525 جامعة أو معهد أمريكي، وأن 94% من المظاهرات في الولايات المتحدة كانت لمساندة الفلسطينيين. ولا ريب أن هذه المؤشرات تفسر إلى حدّ ما التحولات في توجهات المجتمع الأمريكي تجاه “إسرائيل” والمتمثلة في تراجع نسب التأييد الشعبي الأمريكي خصوصاً بين الديموقراطيين والشباب لـ”إسرائيل”.
* بقي 8 من أفراد العينة على موقفهم المؤيد لـ”إسرائيل” أو ازداد تأييداً، وهو ما يعني نسبة تصل إلى 33.3%.
* استمر 7 من النخبة على موقفهم المتعاطف مع فلسطين قبل وبعد الطوفان، وهو ما يشكل 29.2% من مجموع العينة.
جدول رقم 1: عينة مختارة من أبرز أفراد النخبة الأمريكية الفكرية
1- بيتر بينارت
Peter Beinart[13]:
أستاذ علوم سياسية أميركي، وكاتب صحفي.
يهودي، انتقل من التأييد الواضح للسياسات الإسرائيلية قبل الحرب إلى ناقد واضح لتلك السياسات خصوصاً بعد الطوفان.
2- نعوم تشومسكي
Noam Chomsky[14]:
مفكر يساري معروف، يركز على السياسات الخارجية وموضوعات حقوق الإنسان.
يهودي علماني، (يصنف نفسه ملحداً) موقفه قبل الحرب وبعدها هو دعم الحقوق الفلسطينية ونقد السياسات الإسرائيلية.
3- جوديث بتلر
Judith Butler[15]:
فيلسوفة، تتركز أطروحاتها على موضوع الجندر وقضية العدالة السياسية.
يهودية، (تصنف نفسها ملحدة) واصلت موقفها الداعم للحقوق الفلسطينية قبل الحرب وبعد الطوفان.
4- كورنيل ويست
Cornel West[16] :
مفكر يساري كلاسيكي.
مسيحي بروتستانتي، ركز على انتقاد الموقف الأمريكي خصوصاً عرقلة وقف إطلاق النار.
5- جون ميرشايمر
John Mearsheimer[17]:
أستاذ علاقات دولية مرموق، وهو أبرز منظري الواقعية السياسية في العلاقات الدولية المعاصرة.
لا ديني، ناقد شديد لوزن اللوبي اليهودي في القرار السياسي الأمريكي، وأقرب للموقف الفلسطيني.
6- ستيفن والت
Stephen Walt[18]:
أستاذ علوم سياسية مرموق، وأبرز أنصار النظرية الواقعية في العلاقات الدولية.
لا ديني، هو الأكثر ترويجاً لفكرة أن “إسرائيل” تحولت إلى عبء استراتيجي على الولايات المتحدة، وعزز الطوفان توجهه هذا.
7- جيفري جولدبيرج
Jeffrey Goldberg[19]:
صحفي أمريكي معروف في مجلة ذا أتلانتيك The Atlantic، تتركز تحليلاته حول الشرق الأوسط.
يهودي، يميل إلى المساندة الأمنية لـ”إسرائيل”، لكنه ينتقد بعض سياساتها الخارجية.
8- توماس فريدمان
Thomas Friedman[20]:
كاتب رأي أمريكي في صحيفة نيويورك تايمز The New York Times، متخصص في الشؤون الدولية.
يهودي، ما زال من المدافعين عن “إسرائيل” خصوصاً في البعد الأمني، لكنه بدأ في انتقاد بعض سياساتها الإنسانية بعد الطوفان.
9- فريد زكريا
Fareed Zakaria[21]:
محلّل سياسي من أصول هندية، يُعنى بالشؤون العالمية.
أصول إسلامية، يميل إلى الحلول الديبلوماسية، بما في ذلك لمشكلات الشرق الأوسط، حتى بعد الطوفان.
10- بن شابيرو
Ben Shapiro[22]:
إعلامي ومعلّق محافظ أمريكي. يهودي، أرثوذوكسي دعمٌ قوي لـ”إسرائيل” من المنظور الأمني/ المحافِظ قبل الطوفان وبعده.
11- روبرت كاجان
Robert Kagan[23]:
مفكّر أمريكي محافظ في شؤون السياسة الخارجية.
يهودي، يميل قبل الطوفان وبعده إلى الموقف الإسرائيلي من منظور مصالح استراتيجية أمريكية.
12- فيليس بينيس
Phyllis Bennis[24]:
متخصصة في سياسات الشرق الأوسط.
يهودية، مناصر بارز للقضية الفلسطينية، أقرب للموقف الفلسطيني قبل الطوفان وبعده.
13 – أليسون وير
Alison Weir[25] :
ناشطة أمريكية في حقوق الفلسطينيين، ناقدة للدعم الأمريكي لـ”إسرائيل”.
لا ديني، تتبنى الموقف الفلسطيني قبل وبعد الطوفان.
14- جوش روبنر
Josh Ruebner[26] :
محلّل سياسي أمريكي، ناشط في حركة حملات حقوق الفلسطينيين.
يهودي، موقفه تجاه الفلسطينيين قوي، من منظور السياسة الأمريكية، قبل الطوفان وبعده.
15- دانيال بايبس
Daniel Pipes[27]:
محلّل محافظ أمريكي في الشرق الأوسط.
يهودي، منتقد لـ”إسرائيل” في توجهاتها الاستراتيجية، لكن من منظور أمني/ إسرائيلي، ويميل للموقف الإسرائيلي.
16- باري شو
Barry Shaw[28]:
كاتب رأي أمريكي في موقع محافظ.
يهودي، يتبنى المنظور الإسرائيلي ودون أي تغير ملموس بعد الطوفان.
17 – سث جروسمان:
Seth Grossman[29]:
محلّل أمريكي في موقع أمريكان ثينكر American Thinker.
يهودي، يتبنى الموقف الإسرائيلي دون أي تحفظ.
18 – داليا شيندلن
Dahlia Scheindlin[30]:
محلّلة أمريكية – إسرائيلية، كاتبة عمود في صحيفة هآرتس Haaretz وصحيفة نيويورك تايمز.
يهودية علمانية، تحليلها نقدي لـ”إسرائيل”؛ أقرب للموقف الفلسطيني خصوصاً بعد الطوفان.
19 – روبرت مالي
Robert Malley[31] :
ديبلوماسي ومحلّل أمريكي، شارك في مفاوضات الشرق الأوسط. يهودي، موقفه نقدي للديبلوماسية الأمريكية – الإسرائيلية، أقرب للموقف الفلسطيني خصوصاً بعد الطوفان.
20- مارجوري تايلر جرين
Marjorie Taylor Greene[32]:
سياسية أمريكية (جمهورية)—مثال على تحوّل في مواقف غزة.
مسيحية إنجيلية، تنتمي لليمين لكنها بدأت تميل بشكل مضطرد لنقد البعد الإنساني في السياسات الإسرائيلية.
21 – برني ساندرز
Bernie Sanders[33]:
سيناتور أمريكي معروف بيساريته.
يهودي علماني، يعكس اتجاهاً أكثر ميلاً نحو الفلسطينيين من داخل المعسكر الأمريكي التقليدي.
22 – تيم سكوت
Tim Scott[34]:
سيناتور أمريكي جمهوري.
مسيحي، بقي محافظاً على تعزيز البعد الأمني لـ”إسرائيل”، بل زاد حدة بعد الطوفان.
23 – ماكس بلومنتال
Max Blumenthal[35]:
صحفي أمريكي ناقد بشدّة لـ”إسرائيل” وسياساتها.
يهودي علماني، يؤيد الموقف الفلسطيني قبل وبعد الطوفان.
24 – غيث العمري
Ghaith al Omari[36]:
كاتب من أصول عربية، يعمل مع معهد واشنطن للسياسة الشرق أوسطية The Washington Institute for Near East Policy.
مسلم، أقرب للموقف المحايد بين الطرفين، مع تغير طفيف بعد الطوفان لصالح الموقف الفلسطيني.
ثانياً: موقف النخب السياسية من إعادة إعمار غزة:
تمثل قضية إعمار غزة، سواء تحديد حجم مشاركة الولايات المتحدة المالية في ذلك أم الدور الأمريكي في المشروع بشكل عام قضية مهمة للغاية، وتشير استطلاعات الرأي الأمريكية إلى أن هناك تباين واضح في مستوى الاستعداد للانخراط في عملية إعادة الإعمار لقطاع غزة، ودلّ استطلاع للرأي، أُجري في 2024/10/3–8/7، على النتائج التالية:[37]
جدول رقم 2: تأييد المشاركة الأمريكية في إعادة إعمار غزة بحسب فئة القادة
القادة الجمهوريون: 24%
القادة الديموقراطيون 70%
القادة المستقلون 56%
أما بخصوص توجهات أساتذة العلوم السياسية والعلاقات الدولية في الجامعات الأمريكية حول السياسة الأمريكية والتأييد لـ”إسرائيل”، فقد دلت نتائج استطلاع للرأي، أُجري في 2024/7/14–6/25 على النتائج التالية:[38]
1. يعارض نحو 92% سياسات الرئيس الأمريكي دونالد ترامب Donald Trump في الصراع العربي الإسرائيلي مقابل 7.3% يؤيدونه.
2. يعارض سياسته مع “إسرائيل” 90.48% مقابل 8.55% يؤيدونها.
3. أعرب 77% عن رفضهم للعمليات العسكرية الإسرائيلية في غزة، مقابل مساندة 17% لها.
وتكشف استطلاعات الرأي أن التحول في النخبة الفكرية ليس منفصلاً عن تحول في موقف الرأي العام الأمريكي، فقد دلت استطلاعات الرأي العام الأمريكي (أيلول/ سبتمبر 2025) أن هناك “بعض التناغم” في تحولات النخبة مع تحولات المجتمع ككل:[39]
جدول رقم 3: تحولات توجهات الرأي العام الأمريكي تجاه السياسات الإسرائيلية بعد الطوفان
السلوك الإسرائيلي في غزة ذهب بعيداً:
2025: 39
2024: 31
2023: 27
نظرة سلبية تجاه الحكومة الإسرائيلية:
2025: 59
2024: 51
2023: –
تأييد/ عدم تأييد سياسات ترامب في قطاع غزة:
2025: 30 تأييد؛ 42 عدم تأييد
النظرة الإيجابية تجاه الفلسطينيين:
2025: الديموقراطيون: 70؛الجمهوريون: 37
النظرة الإيجابية للحكومة الإسرائيلية:
2025: الديموقراطيون 18 ؛
الجمهوريون 55
ثالثاً: مظاهر التحول في مواقف النخبة الفكرية الأمريكية:
ويمكن تحديد الآثار المباشرة لطوفان الأقصى على النخبة الفكرية الأمريكية في الجوانب التالية:[40]
1. تزايد الاستقطاب الفكري بين النخب: قاد طوفان الأقصى إلى تفاقم الانقسامات القائمة داخل النخبة الفكرية السياسية الأمريكية، فبينما كان الدعم لـ”إسرائيل” يشكل تياراً جارفاً ومستقراً تاريخياً، أصبحت مساحات النقد والتشكك في السياسات الإسرائيلية تجاه الفلسطينيين تتنامى خصوصاً في أوساط المثقفين والشباب والتقدميين، ووسط نسبة كبيرة من المهاجرين، خصوصاً من السود. وتركز النقد على بعدين هما: العمليات العسكرية الإسرائيلية خصوصاً في جانب استهداف المدنيين، والدعم الأمريكي للحرب والذي نقل أوزار الصورة الإسرائيلية عالمياً لتصيب الصورة الأمريكية ذاتها، وقد ترتب على تداعيات هذه المسألة تزايد الانقسامات داخل الحزب الديموقراطي بشكل خاص وفي الأوساط الأكاديمية أيضاً.
2. أثار الطوفان موضوع مدى جدية الحرية الأكاديمية في الوسط الثقافي والجامعي الأمريكي: فقد عرف الحرم الجامعي الأمريكي اتساعاً في عدد وحجم الاحتجاجات والاعتصامات المؤيدة للفلسطينيين، وترتب على ذلك موجة من الاعتقالات الواسعة النطاق والاجراءات التأديبية، وأصبحت موضوعات ذات علاقة بالصراع في قطاع غزة تربطه بقيم معينة مثل حرية التعبير ومعاداة السامية والإسلاموفوبيا، وبدأ النقد يتزايد من نخب ثقافية ترى أنّ الحرية الأكاديمية تتعرض لهجوم يتركز حول ضغوط تأتي من جانب المانحين والمشرِّعين والجماعات المؤيدة لـ”إسرائيل”.
3. انعكاس أدبيات النقد الفكري وخطاب النخبة الفكرية على توجهات الرأي العام الأمريكي: لقد أشرنا إلى التغيرات في مواقف المجتمع الأمريكي من الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، فقد أدت الحرب إلى تحوّل كبير في الرأي العام، الذي يؤثّر بدوره على الخطاب الفكري، من خلال تَحسُّس النخبة لهذا التَّغيُّر، وهو ما يعني أن التأثير كان متبادلاً بين النخبة الفكرية والرأي العام الأمريكي، ولعل فكرة أنّ “إسرائيل تدافع عن الحضارة ضدّ الهمجية” كما حاول بنيامين نتنياهوBenjamin Netanyahu ترويجه، واجهت نكسة عميقة، إذ إن التغطية الإعلامية المصورة لمظاهر الإبادة الجماعية، والتي تمّ تداولها على نطاق واسع على وسائل التواصل الاجتماعي واطّلع عليها جيل الشباب الأمريكي، جعل هذا من الصعب على وسائل الإعلام التقليدية والمعلقين السياسيين التحكم في الرواية للأحداث.
4. التشكيك في السياسة الخارجية الأمريكية ومكانتها العالمية: أدى استمرار الدعم العسكري والديبلوماسي الأمريكي لـ”إسرائيل”، على الرغم من الأزمة الإنسانية العميقة لشعب غزة، إلى تكثيف المناقشة حول أوزار الإسهام الأمريكي في هذه الجرائم ضدّ الإنسانية، وتعززت هذه الصورة ببعدين بالغا الأهمية وهما:
‌أ. استخدام الولايات المتحدة بشكل متكرر لحق النقض في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة United Nations Security Council، فظهرت الولايات المتحدة كمعطل للإرادة الدولية المجمعة في أغلب حالات التصويت على وقف القتال، وأصبح ذلك مؤشراً لدى بعض شرائح النخبة الأمريكية الفكرية على خلفيات التشكيك في دور أمريكا كداعم للقيم الليبرالية العالمية وحقوق الإنسان.
‌ب. شكل موضوع “ازدواجية المعايير” بُعداً تبناه الكثير من أطراف النخبة الفكرية، وهو ما أضرّ بمصداقية الخطاب السياسي الأمريكي، وبالتالي بنفوذ الولايات المتحدة ومكانتها العالمية، وتعززت هذه المسألة بصدور قرارات محكمة العدل الدوليةInternational Court of Justice (ICJ) وإقرارها موضوع الإبادة الجماعية، ثم قرار المحكمة الجنائية الدوليةInternational Criminal Court (ICC) بضرورة إلقاء القبض على رئيس وزراء “إسرائيل” ووزير دفاعه، وهو ما وضع النخبة القانونية الأمريكية أمام موقف لا تستطيع تجاوز دلالاته.
5. التأثير على السياسة الداخلية الأمريكية: عزز طوفان الأقصى فكرتين جوهريتين في النقاش الفكري الأمريكي، أولهما قضية الدور السلبي للوبي اليهودي من خلال توريط الولايات المتحدة في سياسات تشكل عبئاً على السياسة الأمريكية الخارجية، وهو ما ازداد وضوحه بعد الطوفان، وهو ما عزز مصداقية نظرية ميرشايمر وستيفن والت حول هذا الموضوع، وتمّ ربط ذلك بالجدل حول أسباب التواطؤ الأمريكي في جرائم حرب محتملة من خلال استمرار تزويد “إسرائيل” بالأسلحة، وهو ما أفرز ضغطاً كبيراً على صانعي السياسات وأجّج المطالبات بمزيد من المساءلة. وثانيهما أن فوز عدد من الشخصيات المهاجرة وخصوصاً المسلمة في عدد من الولايات الأمريكية وفي ولايات أو مدن وازنة في البنية الاجتماعية الأمريكية كان نتيجة لمواقف الفائزين المؤيدين للموقف الفلسطيني في معركة الطوفان بنسبة لا يجوز تجاهلها، مما يشير إلى شقوق في جدار الطمأنينة الإسرائيلية للانحياز الأمريكي الشعبي لها.
رابعاً: تداعيات التحول في فكر النخبة الأمريكية:
طبقا لبعض المقالات الأمريكية التي ترصد التغير في توجهات النخبة الأمريكية الفكرية نتيجة الحرب في غزة، فان التحولات كانت على النحو التالي:[41]
1. تزايد شكوك شرائح مهمة من النخبة حول العملية العسكرية الإسرائيلية: تُعبِّر شريحة متزايدة من النخب السياسية والفكرية عن رأيها بأن العملية العسكرية الإسرائيلية في غزة “تجاوزت الحدود”. وقد ازداد هذا الشعور منذ الأشهر الأولى للعدوان.
2. تزايد الدعوات من شرائح من النخبة لفرض شروط على المساعدات الأمريكية لـ”إسرائيل”: هناك رغبة متزايدة داخل الحزب الديموقراطي، على وجه الخصوص، في فرض شروط جوهرية على استخدام الأسلحة والمساعدات الأمريكية لـ”إسرائيل”، وهو تحول عن الدعم غير المشروط تاريخياً لـ”إسرائيل”.
3. تراجع الآراء الإيجابية لدى بعض النخب تجاه الحكومة الإسرائيلية: انخفضت الآراء الإيجابية تجاه الحكومة الإسرائيلية بين عامة الناس والنخب على حد سواء، وهو اتجاه ينعكس أيضاً بين النخب وقادة الرأي في مجال السياسة، ويواجه رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، على وجه الخصوص، انتقادات حادة بخصوص موقفه من الحرب في غزة.
4. تزايد الانقسام بين “النخب الحزبية” الأمريكية: فبينما ما تزال غالبية قادة الرأي الجمهوريين يعارضون قيام الولايات المتحدة بدور قيادي في إعادة إعمار غزة، فإن غالبية قادة الرأي الديموقراطيين يساندون ذلك،ويميلون بشكل متزايد إلى تفضيل الحياد أو حتى الانحياز إلى جانب الفلسطينيين.
5. تأثير توجهات النخبة على الرأي العام الأمريكي: غالباً ما يأتي استياء النخب في أعقاب تزايد الاستياء الشعبي، لا سيّما بين الشباب الأمريكيين والتقدميين، مما يُوجد ضغطاً لإعادة النظر في السياسة الأمريكية. وقد كان تصور انتهاكات حقوق الإنسان من قبل الجيش الإسرائيلي في غزة محركاً رئيسياً لهذا التحول.
6. التركيز على أن النفوذ الأمريكي الناتج عن اعتماد “إسرائيل” الكبير على الدعم السياسي والعسكري والاقتصادي الأمريكي يعني قدرة الإدارة الأمريكية على التأثير في الإجراءات الإسرائيلية غير الإنسانية وكبحها، وهو المطلب المتزايد من بعض شرائح النخبة الفكرية.
خامساً: رد الطرف لإسرائيلي على مواقف النخبة الأمريكية بعد الطوفان:
تمثل رد الفعل الإسرائيلي على التحولات التي أشرنا لها في المجتمع والنخبة الأمريكية في المواقف التالية:[42]
1. دانت الاحتجاجات الجامعية الأمريكية: أصدرت لجنة البحث الإسرائيلية لرؤساء الجامعاتIsraeli Research Committee of University Presidents بياناً شديد اللهجة يدين الاحتجاجات المؤيدة للفلسطينيين في الجامعات الأمريكية، واصفةً إياها بأنها “مظاهرات عنيفة ومعادية للسامية”. وأعربت اللجنة عن قلقها البالغ من أن هذه الاحتجاجات، التي غالباً ما تتضمن حججاً فكرية تنتقد السياسة الإسرائيلية، تُوجد بيئة معادية للطلاب وأعضاء هيئة التدريس اليهود والإسرائيليين، حسب رأي اللجنة.
2. رفض الانتقادات من النخبة الأمريكية باعتبارها “مشكلة علاقات عامة”: هناك ميل متزايد في “إسرائيل” إلى النظر إلى الانتقادات الدولية والفكرية (بما في ذلك من مصادر أمريكية) على أنها مشكلة “علاقات عامة” أو فشل في استراتيجية “الهسبرة Hasbara” الصهيونية (أي الديبلوماسية العامة/ الدعاية الإسرائيلية)، بدلاً من كونها قضية جوهرية تتعلّق بأعمالهم العسكرية أو سياساتهم في غزة. ويحاول بعض الإسرائيليين، للرد على انتقادات بعض النخب الأمريكية بخصوص سياسة الإبادة الجماعية، ترويج أن المعاناة في غزة “مبالغ فيها أو حتى مفبركة جزئياً من قبل حماس”.
3. تحدي نتنياهو للتحولات في توجهات النخبة الأمريكية: رفض رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو علناً الانتقادات الأمريكية لسياسات حكومته في حرب غزة، خصوصاً اتهام النخب الأمريكية له بأنه يولي الأولوية لقاعدته القومية بغض النظر عن أثر ذلك على الصورة الأمريكية عالمياً، ويشير بعض المسؤولين الإسرائيليين السابقين إلى أنه يسعى بنشاط إلى إثارة الصراع مع الإدارة الأمريكية لإلقاء اللوم عليها إذا لم تتحقق أهداف حربه بالكامل.
4. القلق بشأن تحول الرأي العام الأمريكي: هناك وعي ضمني لدى الحكومة والجمهور الإسرائيلي بأن الجامعات والدوائر الفكرية الأمريكية تلعب دوراً رئيسياً في تشكيل الوعي السياسي وصناع القرار في المستقبل في الولايات المتحدة. ويُنظر إلى تحول الرأي العام بين هذه الشريحة على أنه تهديد طويل الأجل لوضع “إسرائيل” وروايتها في الغرب.
5. التركيز على الوحدة الداخلية/ أزمة الرهائن: انشغل الجمهور الإسرائيلي إلى حدّ كبير بأزمة الرهائن ومخاوف الأمن القومي، مما أدى عموماً إلى تجاهل أو رفض الانتقادات الدولية، بما في ذلك انتقادات المثقفين الأمريكيين. ويدعم العديد من الإسرائيليين استمرار العمل العسكري لتأمين إطلاق سراح الرهائن، وهو ما يتجاوز في كثير من الأحيان المخاوف بشأن القانون الدولي أو القضايا الإنسانية التي يثيرها المثقفون الأمريكيون.
خلاصة:
دلّت هذه الدراسة على أن طوفان الأقصى أحدث شرخاً في صورة “إسرائيل” لدى النخبة الفكرية الأمريكية، ويحتاج هذا الشرخ إلى استثمار له من الطرف الفلسطيني والعربي، مع التنبه إلى أن التغير الاستراتيجي الناتج عن تحولات النخبة يحتاج لوقت كاف لتتبلور القوى التي يمكنها استغلاله وتطويره.
ولعل هذا التحول يشير إلى أن المنظور البراجماتي السائد في منظومة القيم السياسية الأمريكية، قابل للاستثمار. فكلما زادت اعباء السياسات الإسرائيلية على كاهل المجتمع والمؤسسات الأمريكية، كلما زاد استعداد الولايات المتحدة لمراجعة توجهاتها في المنطقة. وقد أدركت الولايات المتحدة أن التحولات السلبية تجاه “إسرائيل” تظهر في أوروبا وآسيا وإفريقيا، وفي داخل المجتمع الأمريكي، خصوصاً بين الشباب وبين الديموقراطيين، بل وحتى في شرائح من الجمهوريين. ولعل التصويت في الجمعية العامة General Assembly ومجلس الأمن للأمم المتحدة وفي أغلب المنظمات الدولية والهيئات القضائية الدولية، والذي كان أكثر بعداً عن الموقف الإسرائيلي، وضع الديبلوماسية الأمريكية في وضع ملتبس وفي موقف الشك العالمي في مصداقية قيمها السياسية، وهو ما تنبهت له شرائح مهمة في النخبة الفكرية الأمريكية.
ذلك يعني أن الطوفان أثر على السلوك السياسي للنخبة الأمريكية بنسبة لا يجوز تجاهلها، ويبقى المطلوب هو استثمار هذا التحول، وفهم مستوى التحولات في الإدراك النخبوي الأمريكي للموضوع الفلسطيني ودون مبالغة أو استهانة على حد سواء في هذا الموضوع.