اقتسام غزّة بين واشنطن وتل أبيب

مقالات وأبحاث

  • الخميس 13, نوفمبر 2025 09:22 ص
  • اقتسام غزّة بين واشنطن وتل أبيب
كان الشعار قبل سنوات أنّ “غزّة هي المساحة الوحيدة المُحرّرة في الوطن العربي”، في إشارة إلى استقلالها عن النفوذ الأميركي، وتمنّعها عن الخضوع لتيار التطبيع مع الاحتلال الصهيوني، كما تمارسه عدّة دول عربية، إذ كانت ولا تزال تؤمن بأنّ العلاقة الطبيعية الوحيدة مع الاحتلال، في كلّ وقت وفي أيّ مكان، هي المقاومة حتى تحرير الوطن كلّه.
اقتسام غزّة بين واشنطن وتل أبيب
وائل قنديل
كان الشعار قبل سنوات أنّ “غزّة هي المساحة الوحيدة المُحرّرة في الوطن العربي”، في إشارة إلى استقلالها عن النفوذ الأميركي، وتمنّعها عن الخضوع لتيار التطبيع مع الاحتلال الصهيوني، كما تمارسه عدّة دول عربية، إذ كانت ولا تزال تؤمن بأنّ العلاقة الطبيعية الوحيدة مع الاحتلال، في كلّ وقت وفي أيّ مكان، هي المقاومة حتى تحرير الوطن كلّه.
كانت غزّة مثالاً حيًاً للكرامة الوطنية والحرية والاستقلال، رغم حصار الاحتلال لها، لأنّها كما قال فيها محمود درويش “لم تقبل وصاية أحد ولم تعلق مصيرها على توقيع أحد أو بصمة أحد”. من هنا، كما وصفها درويش “يكرهها العدو حتى القتل، ويخافها حتى الجريمة، ويسعى إلى إغراقها في البحر أو في الصحراء أو في الدم. من هنا يحبّها أقاربها وأصدقاؤها على استحياء يصل إلى الغيرة والخوف أحيانا. لأن غزّة هي الدرس الوحشي والنموذج المشرق للأعداء والأصدقاء على السواء”.
هل تبقى غزّة كذلك بعد ما جرى في شرم الشيخ؟ … نجح العرب بعد كفاح أسطوري في تقييد وثاق غزّة وإجبارها على الحضور إلى موائد السلام الأميركي، فيما لم يبق لها من مقاومة سوى عشرات من المقاتلين، يحاصرهم الكيان الصهيوني في منطقة صغيرة جنوبي القطاع، ويُخيّرهم بين رفع الرايات البيض والاستسلام وتسليم السلاح والخروج إلى أيّ مكان في العالم بعيداً عن فلسطين، أو القتل. هنا لا تبحث عن وسطاء، فليس في رصيف الوسطاء من يجيب إلا دونالد ترامب، أو أحد مبعوثيه المكلّفين حراسة ما زرعه في شرم الشيخ حتى يؤتي ثماره.
صارت غزّة شأناً أميركيّاً إسرائيليّاً خالصاً، إنْ بالتوافق أو بالتنافس الكاذب على اقتسام النفوذ واقتسام الجغرافيا، واقتسام المستقبل بالطبع. هنا يحضر ما نقلته “رويترز” على لسان مسؤولين أوروبيين، عن تزايد احتمالات تقسيم قطاع غزّة بحكم الأمر الواقع، بين منطقة تُسيطر عليها إسرائيل وأخرى تُديرها حركة حماس، وهو التقسيم الذي يستمرّ سنوات. لكن السؤال هنا: أيّ سيطرة ل”حماس”، بينما المطلوب منها نزع سلاحها وإعلانها طلاقاً بائناً مع فكرة المقاومة، والاكتفاء بالتنقيب عن جثث أعدائها؟
لا تترك الأخبار المُنهمرة كالسيل فرصة للتأمّل والتفكير في إجابات لأسئلة المستقبل، إذ نشرت “العربي الجديد” أمس ما يلي: “تخطّط الولايات المتحدة لإنشاء قاعدة عسكرية كبيرة في منطقة غلاف غزّة (المناطق المُحيطة بقطاع غزّة)، وفق ما كشفه موقع شومريم العبري، وأشارت إليه صحيفة يديعوت أحرونوت.
وقال مسؤولون إسرائيليون مطّلعون على الخطط الأولية إنّ القاعدة مُخصّصة لاستخدام القوات الدولية التي ستعمل في القطاع للحفاظ على وقف إطلاق النار، وسيكون بإمكانها استيعاب عدّة آلاف من الجنود. وأضافوا إنّ ميزانية إنشائها من المتوقّع أن تبلغ نحو نصف مليار دولار. وعمل الأميركيون في الأسابيع الأخيرة على دفع الموضوع قدماً أمام الحكومة الإسرائيلية وجيش الاحتلال الإسرائيلي، وبدأوا دراسة مواقع محتملة في منطقة الغلاف”.
هنا ينزاح الغموض عن التقسيم والاقتسام، فالمقصود بالمنطقة التي تسيطر عليها “حماس” هو المنطقة الخاضعة للنفوذ الأميركي، الذي يريد قاعدة عسكرية على باب مصر من جهة الشرق، مصر الحائرة بين عروبتها وفرعونيتها، المشغولة بالاحتياطي النقدي الذي بات المعيار الأوّل، وربما الوحيد للأمن القومي وفق مفهوم نخبتها الحاكمة التي لا يزال طبّالوها وزمّاروها مُصمّمين على أنّها تقود العالم؛ تقول فينصت الجميع وتقرّر فينفذون صاغرين، حالة من الاستمتاع العميق بمضغ عينة مُفتخرة من الأوهام الموروثة والمُستحدثة.
يحاول الإعلام الصهيوني تصدير حالة وهمية من الانزعاج الإسرائيلي من بسط أميركا نفوذها على غزّة بإقامة قاعدة عسكرية على جزءٍ من أرضها، وهو ما يحاول ساسة إسرائيليون تصويره أنّه مسّ بسيادة الاحتلال على الأراضي التي يتحكّم فيها، وهذا نوعٌ من الخداع الاستراتيجي، ذلك أنّ افتراض وجود تناقض بين الرغبات الأميركية والصهيونية أمر تدحضه وقائع ثمانية عقود من النكبة الفلسطينية، ومن ثم لا يروّجه سوى نفر من الدجالين وتجّار الوعي الفاسد.
يريد ترامب من غزّة قاعدة عسكرية ومنطقة سياحية، ويريد نتنياهو منها منطقة عسكرية بالجنوب (أعلنها بالفعل على حدود مصر) وأخرى أمنية بالشمال، ويريد نفر من العرب ثمنًا لكلّ ذلك، وكأنهم توافقوا على أنّ “غزّة للجميع” باستثناء الفلسطينيين!