استراتيجية فلسطينية تحرّرية بديلة… مواجهة المشروع الصهيوني

مقالات وأبحاث

  • الإثنين 27, أكتوبر 2025 10:41 ص
  • استراتيجية فلسطينية تحرّرية بديلة… مواجهة المشروع الصهيوني
في ظلّ ما تشهده المنطقة من تحولات سياسية وأمنية متسارعة، يصمد الشعب الفلسطيني رغم ما يواجهه من مؤامرات ومشاريع لا تستهدف وجوده وهويته فحسب، بل المنطقة كلّها. قدّم الفلسطينيون على مدى عقود طويلة تضحيات جسيمة في سبيل حريتهم وكرامتهم، وسجّلوا بصمودهم أسطع صفحات النضال ضدّ الاحتلال الصهيوني. كما كشفت حرب الإبادة في قطاع غزّة مجددًا حجم الوحشية التّي يتعرض لها هذا الشعب الأعزل، لكنها في الوقت نفسه أبرزت صلابة المقاومة، ووحدة الموقف الشعبي في مواجهة التصفية، رغم الدمار والحصار والتجويع والمعاناة الإنسانية العميقة.
استراتيجية فلسطينية تحرّرية بديلة… مواجهة المشروع الصهيوني بأفق أممي
أحمد جبر
في ظلّ ما تشهده المنطقة من تحولات سياسية وأمنية متسارعة، يصمد الشعب الفلسطيني رغم ما يواجهه من مؤامرات ومشاريع لا تستهدف وجوده وهويته فحسب، بل المنطقة كلّها. قدّم الفلسطينيون على مدى عقود طويلة تضحيات جسيمة في سبيل حريتهم وكرامتهم، وسجّلوا بصمودهم أسطع صفحات النضال ضدّ الاحتلال الصهيوني. كما كشفت حرب الإبادة في قطاع غزّة مجددًا حجم الوحشية التّي يتعرض لها هذا الشعب الأعزل، لكنها في الوقت نفسه أبرزت صلابة المقاومة، ووحدة الموقف الشعبي في مواجهة التصفية، رغم الدمار والحصار والتجويع والمعاناة الإنسانية العميقة.
في ظلّ هذه التحديات، تتكثّف المشاريع الأميركية والصهيونية الهادفة إلى تصفية القضية الفلسطينية وطمس هويتها، في سبيل تمرير مشاريع إمبريالية، في السياق ذاته يمكن العودة إلى مقالٍ بعنوان “مخاض الشرق الأوسط الجديد… غزّة قلب العالم”، كتبه مروان رضوان ونشر في ملحق فلسطين/ العربي الجديد بتاريخ 2025/6/30. ما يجعل من الضروري بحث سبل المواجهة الفاعلة لهذه المخططات، من خلال تحديد القدرات والاحتياجات لمعرفة سبل تسخيرها لبناء مشروع تحرري قادر على تطوير أدوات المقاومة السياسية والميدانية، وتوظيف الدعم العالمي والتضامن بين مختلف قضايا المضطهدين في العالم لنصرة بعضها بعضًا.
تهدف المقالة الحالية إلى مناقشة الكيفية التّي تمكّن الفلسطينيين من مواجهة المشاريع الأميركية والصهيونية في المنطقة، واستشراف آفاق الصمود والمقاومة في ظلّ الواقع الراهن. إذ تبدأ مواجهة المشاريع الأميركية والصهيونية من ضرورة البناء النظري الواعي، الذي يستند إلى فهم عميق لطبيعة الاحتلال، وأبعاده التاريخية والسياسية والفكرية، وهضم سرديته، وتفكيكها برؤية نقدية تجيب وتعالج كلّ الأساطير المؤسسة لسرديته. فمن دون البناء النظري السليم يصبح الفعل السياسي والمقاوم مجرد ردة فعلٍ آنية، تفتقر إلى التماسك والاتجاه الاستراتيجي. إنّ البناء النظري المطلوب هو الذي يعيد تعريف القضية الفلسطينية في إطارها التحرري الشامل، لا بوصفها صراعًا حدوديًا بل بصفتها قضية تحرر وطني وعدالة تاريخية تواجه مشروعًا استعماريًا استيطانيًا استبدالياً متكاملًا.
يقتضي هذا البناء تطوير السردية الفلسطينية الموجودة أساسًا وإعادة الاعتبار للمفاهيم الجوهرية مثل المقاومة، والهوية، والحقّ التاريخي، والاحتلال السرطاني وغيرها من المفاهيم والمصطلحات، كما يجب أن يمثّل هذا الإطار النظري قاعدةً لإعادة تنظيم العمل السياسي الفلسطيني، وتوحيد الرؤى بين الفصائل والقوى الوطنية، وضمان مشاركة مختلف الفئات الشعبية، وفي مقدمتها الفئات الأكثر تضررًا، بما يضمن وضوح الهدف المركزي، أي التحرير وإنهاء الاحتلال. ومن هذا المنطلق الفكري، يمكن الانتقال إلى بناء مشروع مقاوم متكامل يجمع بين القوة الميدانية، والدبلوماسية الفاعلة، والعمل الشعبي والإعلامي، في مواجهة مشاريع الهيمنة الأميركية والصهيونية في المنطقة.
المشروع الفلسطيني نضال أممي ضدّ الاستعمار والاحتلال والسيطرة الامبريالية
رغم أن القضية الفلسطينية قضية الشعب الفلسطيني أولًا إلّا أنّها قضية مختلف الشعوب المضطهدة حول العالم، التي تعاني من سيطرة القوى الإمبريالية وهيمنتها، وبالتالي لها مصلحة مباشرة بتبني القضية الفلسطينية، كما أنّها قضية كلّ المدافعين عن حقوق الإنسان، لذلك لا يمكن فصل نضال الفلسطينيين عن محيطهم الجغرافي، فمختلف شعوب المنطقة باختلاف انتماءاتها القومية أو الدينية لهم مصلحة مشتركة بمواجهة المشاريع الإمبريالية، التّي لا تستهدف القضية الفلسطينية والشعب الفلسطيني فحسب، بل تستهدفهم استهدافًا مباشرًا، من مشروع خط غاز شرق المتوسط إلى مشروع الطريق الهندي الأوروبي، لذلك لا بدّ للمشروع الفلسطيني من تحالفات جذرية مع حركات التحرر حول العالم، وخصوصًا حركات التحرر في المنطقة، التي يمكن أن تكون حاملًا له ويكون حاملاً لها.
نظرَ مهدي عامل إلى الأنظمة العربية على اعتبارها “أنظمةً كولونياليةً” تابعةً بنيويًا، استبداديةً سياسيًا، ورجعيةً اقتصاديًا، تمثّل مصالح البرجوازية التابعة (الكومبرادورية)، وتعمل على إعادة إنتاج التخلف تحت مظلة التبعية للإمبريالية. كما رفض الفصل بين التحرر الوطني والثورة الاجتماعية. فبالنسبة له، لا يمكن تحقيق الاستقلال الحقيقي إلّا عبر ثورة طبقية تُطيح البنية الاجتماعية التابعة وتبني اقتصادًا وطنيًا مستقلاً. وبالتالي، كان ناقدًا للأنظمة التي رفعت شعارات “التحرر الوطني” (مثل بعض الأنظمة القومية) لكنها لم تغيّر البنية الطبقية التابعة، وهذا ما غاب عن ثورات الربيع العربي. صحيح أن ثورات الربيع العربي كشفت عمق التناقض الطبقي في الوطن العربي، لكنها لم تتحوّل إلى ثورات اجتماعية، لهذا، استعادت البنية التابعة (الطبقات الحاكمة) نفسها بأشكال جديدة أسوء من القديمة.
يمكن القياس على تحليل عامل للأنظمة العربية على مختلف الأنظمة في العالم، فرغم الصراعات بين القوى العظمى إلّا أنّها صراعات إمبريالية، فالأيديولوجيا السائدة عالميًا رأسمالية تنقسم بين شكلي حكم رئيسيين (الديمقراطية التمثيلية والدكتاتورية الشمولية) وعلى اعتبار القضية الفلسطينية نتيجة سببيةً للإمبريالية لا يمكن بأيّ حال من الأحوال الرهان عليها داعمًا ومناصرًا للشعب الفلسطيني.
دفعت التضحيات العظام التي قدمها الشعب الفلسطيني من أبناء قطاع غزّة العديد من دول العالم الى الاعتراف بالدولة الفلسطينية، كما عقد في سبتمبر/أيلول الماضي مؤتمر حلّ الدولتين في الأمم المتّحدة، رغم أنه لا يمكن إلا أنّ نراها ثمرةً نضاليةً، لا بدّ لنا أن ندرك مأزق حلّ الدولتين واقعيًا وسياسيًا، إذ يمثّل تبنّي “حلّ الدولتين” جهلًا واضحًا بالمشروع الصهيوني، والنيّات التوسّعية، التي انتقلت إلى مرحلة التصريحات العلنية، كما تواجه فرص تطبيقه العملياتي على الأرض عوائق جوهرية لا يمكن تجاوزها، لعل أهمّها المستوطنات والطرق الاستيطانية، التي باتت تفصل المناطق الفلسطينية عن بعضها، مشكّلةً منعزلات محاصَرةً. كما يسيطر الاحتلال على مختلف الموارد المائية والحدود والثروات الباطنية، لذلك؛ حتّى لو اعترف الاحتلال تحت هذه الظرف بالدولة الفلسطينية، فستبقى دولةً بالاسم فحسب، وهو ما بشّر بها الشاعر الفلسطيني الراحل محمود درويش “هل سيُسفر موتنا عن دولةٍ أم خيمة”.
لذلك يجب أن يكون المنطلق النظري الأول للاستراتيجية الفلسطينية الذي يمكن له أن يتطوّر، هو إعادة الاعتبار للطرح الفلسطيني الأساسيّ متمثّلًا بحلّ الدولة الفلسطينية العلمانية الواحدة على كامل الجغرافيا الممتدة بين نهر الأردن والبحر المتوسط. فهو حلّ تحرري إنساني يناقض المشروع الإمبريالي في فلسطين، وخارج الصراع على مَن يمثّل الشعب الفلسطيني بين السلطة الفلسطينية من جهة، باعتبارها القابضة على رسن منظّمة التحرير الفلسطينية، وحركة حماس من جهةٍ أخرى، فهو صراع على سلطة تحت الاحتلال، من دون أن يمثّل حقًّا أي منهما الشعب الفلسطيني. لذلك لا بدّ من استراتيجية فلسطينية خارج صراع التمثّيل هذا، ولا ترضى بما يرضى به هؤلاء الممثّلون، بل تبقى في حالة نضالية مستمرة حتّى تحقيق أهدافها كاملةً.
كيفية بناء المشروع
حالة التضامن العالمي، التّي انطلقت بهذا الزخم منذ عامَين، لا يمكن أن تترك للعشوائية، التّي قد تضيعُ كلّ المكتسبات المتراكمة على حساب تضحيات الشعب الفلسطيني الكبيرة، وستكون ردّة فعل (فورة) تخبو بعد فترة، وتضيعُ فرصةً تاريخيّةً على القضية الفلسطينية من جهة واليسار العالمي من جهة أخرى، إلّا أن ما يمكن أن يسهل الانتقال من العشوائية إلى التنظيم أنّها ليست عشوائية بالمطلق، إذ هناك مئات الأحزاب والمجموعات التّي تشكّل معظمها بعد السابع من أكتوبر/تشرين الأول. رغم ذلك لا بدّ من ربط المجموعات المختلفة كلّها بمختلف أماكن وجودها بتنظيم يتفق على هيكليته ومنطلقاته.
من أهمّ الخطوات المطلوبة هنا أن يكون المشروع الفلسطيني أمميًا، منفتحًا على مختلف القضايا التي تتقاطع مع بعضها، أقلّها العدو المشترك (الإمبريالية). وهذا يتطلب إلى جانب العمل الدؤوب على الأرض عملًا نظريًا ورؤيةً وتصورًا للقضية الفلسطينية والقضايا الأخرى، منها قضايا شعوب المنطقة، لذلك يمكن أن يكون المشروع الفلسطيني حاملًا لهذه القضايا، والمشروع في حدِّ ذاته يحتاج إلى التنظيم الذي يمكن البدء به:
أولًا؛ تحديد الراغبين بالانخراط والمشاركة في المشروع.
ثانيًا؛ تحديد القدرات والإمكانيات: الركيزة الأساسية للمشروع: الهدف من هذه الخطوة هو معرفة ما يمتلكه كلّ فصيل أو مجموعة من موارد، مهارات، وخبرات، وكيف يمكن توجيه هذه الموارد بطريقة فعّالة لتحقيق أهداف المشروع على الصعيدين المحلي والعالمي، فمن دون معرفة دقيقة للقدرات، ستظلّ الجهود متفرقة وعشوائية، وقد تضيع الفرص الاستراتيجية، كما سيتيح ذلك تبادل الخبرات، وتطوير العمل والمهارات.
ثالثًا؛ إنشاء غطاء مالي مستدام: يضمن استمرارية المشروع وفاعليته، ويحول التضامن العالمي العاطفي إلى قوّة عملية وواقعية، لأنّه من دون موارد مالية كافية، ستظلّ الحملات الإعلامية، والقانونية، والدبلوماسية محدودة التأثير، كما أن دعم المجتمعات الفلسطينية المحلية سيكون ضعيفًا أو منقطعًا. والتمويل ليس غايةً في حدّ ذاته، بل وسيلةً لتحقيق أهداف استراتيجية محدّدة، مع مراعاة الشفافية والمساءلة. أمّا مصادر التمويل، فقد تتنوع بين التبرعات الفردية، والحملات الجماعية، وصولاً إلى المشاريع التجارية الربحية لخدمة المشروع.
رابعًا؛ لجنة قانونية مهمّتها دعم الدعاوي المرفوعة ضدّ الاحتلال أمام المحاكم الدولية، مثل محكمة العدل الدولية والمحكمة الجنائية، ورفع دعاوي مباشرة ضدّه أمام المحاكم الوطنية، خصوصًا في الدول التي ما زال القانون فيها يتمتع بهامش مقبول، في السياق ذاته، يمكن الاستفادة من الولاية القضائية الدولية في أوروبا، فالملاحقات القانونية في الدول الأوروبية حتّى لو لم تمثّل رادعًا للمسؤولين الصهاينة والأوروبيين الداعمين لهم، فإنّها تسبب حالة ارباك للحكومات الداعمة، فتعرّض المسؤولين والداعمين إلى المساءلة السياسية والقانونية والاقتصادية، بل قد نصل إلى أحكام مبرمة، ما سيسبب ضغطًا إعلاميًا كبيرًا.
إضافةً إلى ذلك؛ قد تمارس اللجنة مهامًا أخرى منها:
1. تثبيت الوقائع القانونية والتعريف بها، أي أن تصبح ملفات المحاكم سجلاً دوليًا للانتهاكات يُستشهد به أمام الرأي العام والهيئات الدولية.
2. فتح قنوات ضغط جديدة: أوامر اعتقال، وتجميد أصول، وقضايا مدنية أمام المحاكم الوطنية تقوّض شبكة دعم الاحتلال السياسية والمالية.
3. حماية الناشطين: وجود آلية قانونية قوية يردع حملات التضييق والتجريم ضدّ النشطاء والمجموعات التضامنية.
4. الطعن بدستورية القوانين التي تضييق على الصوت الفلسطيني.
خامسًا؛ اللجنة الاقتصادية: هدفها الضغط المالي والاستراتيجي على الاحتلال من خلال:
● استهداف بنية الاحتلال الاقتصادية، وداعميه السياسيين، والشركات المرتبطة بالاستيطان والانتهاكات.
● دعم العمل القانوني من خلال توفير الأدلة الاقتصادية والمالية التي تعزز الدعاوى أمام المحاكم الوطنية والدولية.
● استغلال الاقتصاد أداةَ ضغط لتحقيق أهداف المشروع الفلسطيني الأممي.
سادسًا؛ اللجنة الإعلامية لبناء الوعي العالمي وتوجيه الرأي العام: مهمتها تحويل التضامن العفوي إلى حركة مضبوطة وفعّالة عبر الإعلام، ودعم الحملات القانونية والاقتصادية من خلال توضيح الحقائق، وفضح الانتهاكات، وكشف داعمي الاحتلال، والتأثير على الرأي العام العالمي لإحداث ضغط سياسي ودبلوماسي واقتصادي.
سابعًا مركز دراسات: على اعتباره عقل المشروع الفلسطيني الأممي الاستراتيجي، ما يوفر الدعم التحليلي والعلمي لكل اللجان (القانونية، الاقتصادية، الإعلامية). إضافةً إلى إعداد استراتيجيات طويلة المدى لضمان استدامة المشروع الفلسطيني الأممي، وجمع البيانات الاقتصادية وتحليلها، والقانونية، والسياسية لتقديم أدلة دقيقة ومؤثرة للحملات والملاحقات القانونية، فضلاً عن تعزيز القدرة على التخطيط المسبق، لمواجهة السياسات الإسرائيلية والدولية.
من الطبيعي؛ لن يبنى المشروع بين ليلة وضحاها، بل سيكون تدريجيًا، لكنه ليس مستحيلًا، فإذا نظرنا حولنا سنجد أن معظم هذه اللجان هي تجارب فلسطينية حية على أرض الواقع، مع أنّها ليست في المستوى المطلوب، بسبب غياب التنسيق بينها، وغياب الخطاب الجامع، لذلك نعود إلى الركيزة الأولى في الاستراتيجية الفلسطينية لبناء مشروع أممي وهي البناء النظري أولًا، والتنظيمي ثانيًا.