العرب في مكان نتنياهو تحت الشمس
نبيل البكري
"مكان تحت الشمس" عنوان كتاب شهير لرئيس وزراء دولة الكيان الصهيوني، بنيامين نتنياهو، أصدره في 1993، ووضع فيه رؤاه وتصوراته الكاملة لإسرائيل ومحيطها العربي وعلاقتها بهذا المحيط وسردياته التي يعمل من أجلها من موقعه مواطناً إسرائيلياً وقائداً وزعيماً وسياسياً يهودياً، وهو الأطول بقاءً في رئاسة وزراء الكيان، نحو 17 عاماً، متجاوزاً بذلك بن غوريون الذي مكث 13 عاماً.
المثير في هذا كلّه أن ما دفعني إلى معاودة قراءة الكتاب، بعد أكثر من 15 عاماً من قراءتي الأولى له، هذا الواقع المرير الذي نعيشه اليوم نحن العرب، وكيف يعربد سفاح مثلَ نتنياهو شرقاً وغرباً، وأن هذه العربدة الصهيونية له ليست وليدة هذه المصادفة والمرحلة، بقدر ما هي اتساقٌ مع استراتيجية متكاملة، ومعدّة مسبقاً للرجل ومشروعه الذي وضعه كله في كتابه آنف الذكر الذي تُرجم للعربية فور صدوره، وكان يُفترض أن يصبح ضمن مراجع العرب في فهم عدوهم الوجودي الصهيوني هذا.
العودة إلى قراءة الكتاب اليوم وحجم الوضوح للاستراتيجية الصهيونية التي يتبنّاها نتنياهو ما جعلني أقف مجدّداً أمام قولةٍ نُسبت إلى الإرهابي الصهيوني الأشهر وزير الحرب الأسبق في دُويلة الاحتلال، موشيه دايان، "العرب لا يقرأون وإذا قرأوا لا يفهمون".
وهذا يتجلّى اليوم في طريقة تفكير العرب ورؤيتهم إلى عدوهم، وأنهم فعلاً قليلو القراءة في الخرائط الذهنية لأعدائهم، ما يجعلهم في هذا التيه الذي طال أمد البقاء فيه. تتقدّم أهم النقاط المركزية التي تسيطر على ذهن نتنياهو في كتابه "مكان تحت الشمس" الواقعية الهجومية/ الواقعية المتطرّفة، فنتنياهو يدعو إلى تبنّي سياسة واقعية قوية، بحيث لا تكتفي باقتراح السلام أو التفاوض، إنما تعتمد على القوة والردع وسائل أساسية لبقاء إسرائيل وتأمينها.
يشدّد نتنياهو على أن للضفة الغربية (يهودا والسامرة)، وشرق القدس، والخليل، وغيرها، أهمية تاريخية ودينية لليهود، ويعتبرها جزءاً من "إرث أجدادهم" .
ثانياً تركيز نتنياهو على فكرة الخطر الإيراني، فهو يرى أن إيران الخطر الأكبر الذي يهدّد وجود إسرائيل، خصوصاً إذا ما حصلت على سلاح نووي، مع وجود نظام إسلامي راديكالي يدعم الأيديولوجيات المعادية لإسرائيل،
أمّا ثالثاً فما يسميها نتنياهو الحقوق التاريخية والدينية، إذ يشدّد على أن للضفة الغربية (يهودا والسامرة)، وشرق القدس، والخليل، وغيرها، أهمية تاريخية ودينية لليهود، ويعتبرها جزءاً من "إرث أجدادهم".
ورابعاً رفض نتنياهو مبدأ "الأرض مقابل السلام"، فهو يرى أن التفاوض على أساس تبادل الأرض مقابل السلام ضعيف وغير كافٍ، وأن السلام الحقيقي يجب أن يقوم على الأساس المتين، أي السلام مقابل السلام، من دون التفريط في الأرض أو الحقوق الأساسية كما يراها.
أمّا خامساً فيرى نتنياهو أن السّلام لا يكون بالتنازل، بل بالقوة، فهو يؤمن بأن السلام يجب أن يُدعَّم بسياسات القوة، وأن المفاوضات وحدها لا تكفي ما لم تكن إسرائيل قوية بدرجةٍ تستطيع فيها أن تفرض شروطها، وتضمن أمنها من خلال deterrence (ردع)، وليس من خلال المفاوضات أو التنازلات فحسب.
سادساً، وهي نقطة مهمة وجوهرية في قلب هذه الاستراتيجية، دور الاستيطان، إذ يشجع نتنياهو على الاستيطان اليهودي في الضفة الغربية، جزءاً من ضمان السيطرة التاريخية والجغرافية والدينية لأجزاء يعتبرها جزءاً من الأرض اليهودية.
بعد هذا كله، كيف يمكن أن نفهم تعاطي أنظمة عربية مع هذا الرجل كلّ هذا الوقت والسنوات، وتقدُّمهم بالمبادرات، والأكثر مرارة كيف انخرط المناضلون الفلسطينيون في حركات التحرّر الفلسطينية، ومنها "فتح"، في دوّامة سلام لم تكن سوى واحدةٍ من محطّات تذويب القضية الفلسطينية وتجميدها وتجهيزها للدفن.
لم تكن كل هذه العربدة التي يمارسها نتنياهو اليوم هي الأخرى مصادفة أو اضطراراً، أو نتيجة لعملية طوفان الأقصى كما قد يحبّ بعضهم أن يصوّرها.
بالعكس من ذلك كله، ينفّذ الرجل استراتيجية دقيقة وواضحة، يؤمن بها بوصفها أحد أقانيمه العقائدية الدينية، وإنّ "طوفان الأقصى" ربما لم يكن سوى الذريعة التي عجّلت تنفيذ نتنياهو استراتيجيّته الإجرامية هذه التي يُفترض أنها تعيد العرب مرّة أخرى إلى الاستفاقة مجدّداً من وهم السلام الموهوم ووهم أن إسرائيل لا عدوّ لها سوى الفلسطينيين أو فقط حركة حماس، بل كتائب الشهيد عز الدين القسّام فحسب، بحسب ما تجود به قرائح بعض العباقرة اليوم.
يتوفّر "مكان تحت الشمس" على شرح واضح ومفصل إلى أي مدى يستمد كاتبه سياساته وبقاءه وإجرامه وعنجهيته وهمجيته من موقعه هذا كل هذا الوقت رغم المعارضة الكبيرة التي تظهر له بين حين وآخر داخل المشهد السياسي الإسرائيلي الداخلي.
ومع ذلك، الإسرائيليون متوافقون، إلى حدّ كبير، على كل هذا الجنون الذي يقوم به نتنياهو من حرب إبادة في غزّة وعربدة في كل مكان، من سورية إلى اليمن إلى قطر إلى كل مكان يمكن أن يخطر في باله، ولن يردعه رادع، ما دام الجميعُ راضخين ومتخلين عن واجبهم الأخلاقي والإنساني والديني والمصلحي تجاه أنفسهم وبلدانهم، دعك من غزّة ومأساتها.
العرب اليوم أمام اختبار وتحدٍّ حقيقيين، يتعلقان بمصير آخر ما تبقى لهم من كرامة ووجود تحت شمسٍ يرى نتنياهو أن لا مكان فيها سوى لمشروع إمبراطوريّته الصهيونية المدعومة بصمت العرب وخذلانهم أنفسهم وشعوبهم وأنظمتهم.
وما لم يستفق العرب اليوم والآن، وليس غداً، ويستنقذوا آخر حصون كرامتهم في غزّة المدمّرة، فالحبل على الجرّار، ولن يستثني الإسرائيليون مكاناً إلّا ويعربدون فيه شرقاً وغرباً، ما دام العرب يواجّهون الإهانة بالصمت ودسّ رؤوسهم في الرماد، فمكان تحت الشمس اليوم لأمة العرب يستدعي قول شاعرهم: وليسوا بغيرِ صَليل السّيوف/ يُجيبونَ صوتاً لنا أو صدى.
نبيل البكري
"مكان تحت الشمس" عنوان كتاب شهير لرئيس وزراء دولة الكيان الصهيوني، بنيامين نتنياهو، أصدره في 1993، ووضع فيه رؤاه وتصوراته الكاملة لإسرائيل ومحيطها العربي وعلاقتها بهذا المحيط وسردياته التي يعمل من أجلها من موقعه مواطناً إسرائيلياً وقائداً وزعيماً وسياسياً يهودياً، وهو الأطول بقاءً في رئاسة وزراء الكيان، نحو 17 عاماً، متجاوزاً بذلك بن غوريون الذي مكث 13 عاماً.
المثير في هذا كلّه أن ما دفعني إلى معاودة قراءة الكتاب، بعد أكثر من 15 عاماً من قراءتي الأولى له، هذا الواقع المرير الذي نعيشه اليوم نحن العرب، وكيف يعربد سفاح مثلَ نتنياهو شرقاً وغرباً، وأن هذه العربدة الصهيونية له ليست وليدة هذه المصادفة والمرحلة، بقدر ما هي اتساقٌ مع استراتيجية متكاملة، ومعدّة مسبقاً للرجل ومشروعه الذي وضعه كله في كتابه آنف الذكر الذي تُرجم للعربية فور صدوره، وكان يُفترض أن يصبح ضمن مراجع العرب في فهم عدوهم الوجودي الصهيوني هذا.
العودة إلى قراءة الكتاب اليوم وحجم الوضوح للاستراتيجية الصهيونية التي يتبنّاها نتنياهو ما جعلني أقف مجدّداً أمام قولةٍ نُسبت إلى الإرهابي الصهيوني الأشهر وزير الحرب الأسبق في دُويلة الاحتلال، موشيه دايان، "العرب لا يقرأون وإذا قرأوا لا يفهمون".
وهذا يتجلّى اليوم في طريقة تفكير العرب ورؤيتهم إلى عدوهم، وأنهم فعلاً قليلو القراءة في الخرائط الذهنية لأعدائهم، ما يجعلهم في هذا التيه الذي طال أمد البقاء فيه. تتقدّم أهم النقاط المركزية التي تسيطر على ذهن نتنياهو في كتابه "مكان تحت الشمس" الواقعية الهجومية/ الواقعية المتطرّفة، فنتنياهو يدعو إلى تبنّي سياسة واقعية قوية، بحيث لا تكتفي باقتراح السلام أو التفاوض، إنما تعتمد على القوة والردع وسائل أساسية لبقاء إسرائيل وتأمينها.
يشدّد نتنياهو على أن للضفة الغربية (يهودا والسامرة)، وشرق القدس، والخليل، وغيرها، أهمية تاريخية ودينية لليهود، ويعتبرها جزءاً من "إرث أجدادهم" .
ثانياً تركيز نتنياهو على فكرة الخطر الإيراني، فهو يرى أن إيران الخطر الأكبر الذي يهدّد وجود إسرائيل، خصوصاً إذا ما حصلت على سلاح نووي، مع وجود نظام إسلامي راديكالي يدعم الأيديولوجيات المعادية لإسرائيل،
أمّا ثالثاً فما يسميها نتنياهو الحقوق التاريخية والدينية، إذ يشدّد على أن للضفة الغربية (يهودا والسامرة)، وشرق القدس، والخليل، وغيرها، أهمية تاريخية ودينية لليهود، ويعتبرها جزءاً من "إرث أجدادهم".
ورابعاً رفض نتنياهو مبدأ "الأرض مقابل السلام"، فهو يرى أن التفاوض على أساس تبادل الأرض مقابل السلام ضعيف وغير كافٍ، وأن السلام الحقيقي يجب أن يقوم على الأساس المتين، أي السلام مقابل السلام، من دون التفريط في الأرض أو الحقوق الأساسية كما يراها.
أمّا خامساً فيرى نتنياهو أن السّلام لا يكون بالتنازل، بل بالقوة، فهو يؤمن بأن السلام يجب أن يُدعَّم بسياسات القوة، وأن المفاوضات وحدها لا تكفي ما لم تكن إسرائيل قوية بدرجةٍ تستطيع فيها أن تفرض شروطها، وتضمن أمنها من خلال deterrence (ردع)، وليس من خلال المفاوضات أو التنازلات فحسب.
سادساً، وهي نقطة مهمة وجوهرية في قلب هذه الاستراتيجية، دور الاستيطان، إذ يشجع نتنياهو على الاستيطان اليهودي في الضفة الغربية، جزءاً من ضمان السيطرة التاريخية والجغرافية والدينية لأجزاء يعتبرها جزءاً من الأرض اليهودية.
بعد هذا كله، كيف يمكن أن نفهم تعاطي أنظمة عربية مع هذا الرجل كلّ هذا الوقت والسنوات، وتقدُّمهم بالمبادرات، والأكثر مرارة كيف انخرط المناضلون الفلسطينيون في حركات التحرّر الفلسطينية، ومنها "فتح"، في دوّامة سلام لم تكن سوى واحدةٍ من محطّات تذويب القضية الفلسطينية وتجميدها وتجهيزها للدفن.
لم تكن كل هذه العربدة التي يمارسها نتنياهو اليوم هي الأخرى مصادفة أو اضطراراً، أو نتيجة لعملية طوفان الأقصى كما قد يحبّ بعضهم أن يصوّرها.
بالعكس من ذلك كله، ينفّذ الرجل استراتيجية دقيقة وواضحة، يؤمن بها بوصفها أحد أقانيمه العقائدية الدينية، وإنّ "طوفان الأقصى" ربما لم يكن سوى الذريعة التي عجّلت تنفيذ نتنياهو استراتيجيّته الإجرامية هذه التي يُفترض أنها تعيد العرب مرّة أخرى إلى الاستفاقة مجدّداً من وهم السلام الموهوم ووهم أن إسرائيل لا عدوّ لها سوى الفلسطينيين أو فقط حركة حماس، بل كتائب الشهيد عز الدين القسّام فحسب، بحسب ما تجود به قرائح بعض العباقرة اليوم.
يتوفّر "مكان تحت الشمس" على شرح واضح ومفصل إلى أي مدى يستمد كاتبه سياساته وبقاءه وإجرامه وعنجهيته وهمجيته من موقعه هذا كل هذا الوقت رغم المعارضة الكبيرة التي تظهر له بين حين وآخر داخل المشهد السياسي الإسرائيلي الداخلي.
ومع ذلك، الإسرائيليون متوافقون، إلى حدّ كبير، على كل هذا الجنون الذي يقوم به نتنياهو من حرب إبادة في غزّة وعربدة في كل مكان، من سورية إلى اليمن إلى قطر إلى كل مكان يمكن أن يخطر في باله، ولن يردعه رادع، ما دام الجميعُ راضخين ومتخلين عن واجبهم الأخلاقي والإنساني والديني والمصلحي تجاه أنفسهم وبلدانهم، دعك من غزّة ومأساتها.
العرب اليوم أمام اختبار وتحدٍّ حقيقيين، يتعلقان بمصير آخر ما تبقى لهم من كرامة ووجود تحت شمسٍ يرى نتنياهو أن لا مكان فيها سوى لمشروع إمبراطوريّته الصهيونية المدعومة بصمت العرب وخذلانهم أنفسهم وشعوبهم وأنظمتهم.
وما لم يستفق العرب اليوم والآن، وليس غداً، ويستنقذوا آخر حصون كرامتهم في غزّة المدمّرة، فالحبل على الجرّار، ولن يستثني الإسرائيليون مكاناً إلّا ويعربدون فيه شرقاً وغرباً، ما دام العرب يواجّهون الإهانة بالصمت ودسّ رؤوسهم في الرماد، فمكان تحت الشمس اليوم لأمة العرب يستدعي قول شاعرهم: وليسوا بغيرِ صَليل السّيوف/ يُجيبونَ صوتاً لنا أو صدى.