أين 2 مليار مسلم؟
ساهر غزاوي
كثيرًا ما تتردد في خضم المآسي والكوارث التي تصيب الأمة الإسلامية أصوات عتاب وانتقاد حاد يتساءل بمرارة: أين 2 مليار مسلم؟ وكأن هذا الرقم الضخم تحول إلى شاهد صامت أمام محن إخوانه.
ويُستحضر في هذا السياق الحديث النبوي الشريف: «المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يُسلمه، ومن كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته، ومن فرج عن مسلم كربة فرج الله عنه كربة من كربات يوم القيامة، ومن ستر مسلمًا ستره الله يوم القيامة»، لتذكير الأمة بمسؤولياتها الدينية والأخلاقية.
وتأتي هذه الصرخات لتخاطب البعد الإسلامي الجامع، إذ لا يُنادى المسلمون بصفتهم القومية أو الوطنية، وإنما بوصفهم أمة واحدة يجمعها دين واحد وعقيدة واحدة.
وفي مقابل هذه النداءات، تُوجّه أيضًا صيحات استغاثة إلى عالم يكيل بمكيالين ويغض الطرف عن الجرائم بحق غزة وسواها.
غير أن الضمير الإنساني الحر في شتى بقاع العالم أثبت أنه ليس شريكًا في هذا الصمت، بل صار أكثر وعيًا بحقيقة ما يحدث.
فمنذ اندلاع الحرب على غزة لم يتوقف صوت الشعوب الحيّة في مختلف أنحاء العالم عن رفع صوته عاليًا ضد حرب الإبادة، مبتكرًا أساليب مختلفة وإبداعية للتعبير عن رفضه، ومعبرًا عن تعاطف شعبي عالمي يربط قضية فلسطين بقيم الحرية والعدالة.
هذه القيم التي يزعم النظام الليبرالي الغربي أنه يحميها ويصونها، بينما يمارس في الواقع التفافًا دائمًا عليها متى تعارضت مع مصالح مراكز النفوذ فيه.
ويبقى السؤال مطروحًا بقوة: أين 2 مليار مسلم من قضاياهم الكبرى، وفي مقدمتها فلسطين وغزة المحاصرة؟ ولماذا يبدو حضورهم وتأثيرهم أقل بكثير من حجمهم وإمكاناتهم؟ إن محاولة الإجابة تقتضي النظر في القوى التي مثلت خلال العقود الأخيرة القلب النابض للأمة، والرافعة التي أعادت ربط الجماهير بدينها وقضاياها المصيرية، وهي الحركات الإسلامية.
فبينما انكفأت الأنظمة وتراجعت التيارات القومية واليسارية عن أداء الأدوار التي طالما رفعتها في شعاراتها، برزت هذه الحركات باعتبارها المحرك الأساسي للأمة، بما امتلكته من قدرة على التعبئة الشعبية وتوظيف المرجعية الدينية كعامل جامع يحرك الضمير الإسلامي نحو نصرة المستضعفين والتصدي للاستبداد والاستعمار.
لقد كان للحركات الإسلامية، وما يزال، دور محوري في الأمة، وإن تباين حضوره بحسب السياقات السياسية والاجتماعية والفكرية.
فهي دينيًا وتربويًا حافظت على الهوية الإسلامية عبر الدعوة والتعليم وإحياء الشعائر، ما رسخ وعيًا متجذرًا لدى الأجيال.
واجتماعيًا أنشأت مؤسسات تعليمية وصحية وخيرية وقدمت خدمات واسعة للفقراء والمهمشين، فاقتربت من هموم الناس اليومية.
وسياسيًا خاضت تجارب المشاركة البرلمانية والحزبية ضمن حدود ضيقة فرضتها أنظمة أفرغت السياسة من مضمونها وأحبطت كل محاولة جادة للإصلاح، فانتقلت إلى أدوار المعارضة والضغط الشعبي دفاعًا عن القضايا المركزية وفي طليعتها فلسطين. أما ثقافيًا وفكريًا فقد قدمت خطابًا بديلًا، وأنتجت رؤية إسلامية شاملة لقضايا الهوية والاستقلال الحضاري ومقاومة التغريب.
غير أن الدور الأبرز والأكثر حضورًا كان في ميدان المقاومة والتحرر، حيث وقفت هذه الحركات في طليعة المواجهة مع الاستعمار والاحتلال، وربطت بين الإسلام كعقيدة وهوية وبين مشروع مقاومة العدوان الخارجي.
ويكفي النظر إلى الحالة الفلسطينية ليتضح كيف تصدت للمشروع الصهيوني، وحملت راية المقاومة في وقت سعت فيه قوى عديدة إلى الالتفاف على هذه القضية أو تهميشها. لقد مثلت بالنسبة إلى قطاعات واسعة من الأمة التعبير الأصدق عن رفض الاحتلال والإصرار على استعادة الأرض والكرامة.
وفي المقابل، لا يمكن تجاهل ما واجهته هذه الحركات من مظاهر ضعف وقصور، ومن انتقادات ارتبطت أحيانًا بالجمود أو الانقسام الداخلي أو الإفراط في التركيز على الجانب السياسي على حساب التربوي والاجتماعي. يضاف إلى ذلك استهدافها المتواصل من قوى إقليمية ودولية رأت في صعودها تهديدًا مباشرًا لمصالحها ونفوذها.
ويظل التحدي الأكبر أمام هذه الحركات هو إيجاد التوازن بين التمسك بالثوابت الإسلامية واستيعاب متغيرات الواقع السياسي والاجتماعي، إلى جانب حاجتها الدائمة إلى مراجعات نقدية تعزز فاعليتها وتحد من نقاط ضعفها.
إن الحركات الإسلامية تؤدي الدور الأبرز في نهضة الأمة، غير أن ذلك لا يُعفي الدول الإسلامية الرسمية من مسؤولياتها الكبرى، فهي الإطار الأوسع الذي يحتضن الغالبية الساحقة من المسلمين في العالم.
أما الدول العربية، التي تضم ما بين 350 إلى 400 مليون مسلم ناطق بالعربية، فإنهم لا يمثلون سوى ما نسبته 18–20% من مجموع المسلمين عالميًا، أي أقلية داخل الأمة الإسلامية الكبرى. ومع ذلك، فإن موقعهم السياسي والجغرافي والتاريخي يضاعف حجم مسؤوليتهم تجاه قضايا الأمة، وفي مقدمتها قضية فلسطين، باعتبارها القضية المركزية التي تكشف صدقية الانتماء الإسلامي والإنساني.
لقد شكلت الحركات الإسلامية خلال العقود الأخيرة المحرك الأساسي للأمة الإسلامية، إذ أعادت الاعتبار للهوية الدينية الجامعة وربطت الجماهير بقضاياها المصيرية، وفي مقدمتها فلسطين. لم يقتصر دورها على المقاومة المسلحة ضد الاستعمار، بل امتد إلى بناء مؤسسات اجتماعية وتعليمية عززت صمود المجتمع الفلسطيني، وإلى أدوار إصلاحية وخدماتية في عدد من البلدان العربية جعلت منها قوة أمل للتغيير.
غير أن هذا الدور جرى تقييده وإضعافه عبر حملات منظمة من الملاحقات والاعتقالات والانقلابات، كما حدث في مصر، أو عبر التضييق والتحريض كما في الأردن، أو التقييد السياسي في تونس، أو التهميش كما في المغرب.
وهكذا، حين غُيّبت هذه الحركات أو أُضعفت قسرًا، بدا وكأن “2 مليار مسلم” غائبون أو عاجزون، لأن المحرك الأهم لقدرتهم على الفعل قد شُل، فانعكس ذلك في وهن الأمة وفقدانها لقوتها التعبوية، وترك فراغًا استغلته قوى سلطوية وخارجية لترسيخ الهيمنة والتبعية. ومن هنا، فإن الحركات الإسلامية مطالَبة اليوم أكثر من أي وقت مضى بأن تستعيد دورها التاريخي بكل الطرق الممكنة، ومهما كلفت الأثمان، لأن غيابها يعني بقاء الأمة أسيرة العجز، وعاجزة عن نصرة فلسطين، التي ستظل الامتحان الأكبر لصدق الانتماء الإسلامي والإنساني.
ساهر غزاوي
كثيرًا ما تتردد في خضم المآسي والكوارث التي تصيب الأمة الإسلامية أصوات عتاب وانتقاد حاد يتساءل بمرارة: أين 2 مليار مسلم؟ وكأن هذا الرقم الضخم تحول إلى شاهد صامت أمام محن إخوانه.
ويُستحضر في هذا السياق الحديث النبوي الشريف: «المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يُسلمه، ومن كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته، ومن فرج عن مسلم كربة فرج الله عنه كربة من كربات يوم القيامة، ومن ستر مسلمًا ستره الله يوم القيامة»، لتذكير الأمة بمسؤولياتها الدينية والأخلاقية.
وتأتي هذه الصرخات لتخاطب البعد الإسلامي الجامع، إذ لا يُنادى المسلمون بصفتهم القومية أو الوطنية، وإنما بوصفهم أمة واحدة يجمعها دين واحد وعقيدة واحدة.
وفي مقابل هذه النداءات، تُوجّه أيضًا صيحات استغاثة إلى عالم يكيل بمكيالين ويغض الطرف عن الجرائم بحق غزة وسواها.
غير أن الضمير الإنساني الحر في شتى بقاع العالم أثبت أنه ليس شريكًا في هذا الصمت، بل صار أكثر وعيًا بحقيقة ما يحدث.
فمنذ اندلاع الحرب على غزة لم يتوقف صوت الشعوب الحيّة في مختلف أنحاء العالم عن رفع صوته عاليًا ضد حرب الإبادة، مبتكرًا أساليب مختلفة وإبداعية للتعبير عن رفضه، ومعبرًا عن تعاطف شعبي عالمي يربط قضية فلسطين بقيم الحرية والعدالة.
هذه القيم التي يزعم النظام الليبرالي الغربي أنه يحميها ويصونها، بينما يمارس في الواقع التفافًا دائمًا عليها متى تعارضت مع مصالح مراكز النفوذ فيه.
ويبقى السؤال مطروحًا بقوة: أين 2 مليار مسلم من قضاياهم الكبرى، وفي مقدمتها فلسطين وغزة المحاصرة؟ ولماذا يبدو حضورهم وتأثيرهم أقل بكثير من حجمهم وإمكاناتهم؟ إن محاولة الإجابة تقتضي النظر في القوى التي مثلت خلال العقود الأخيرة القلب النابض للأمة، والرافعة التي أعادت ربط الجماهير بدينها وقضاياها المصيرية، وهي الحركات الإسلامية.
فبينما انكفأت الأنظمة وتراجعت التيارات القومية واليسارية عن أداء الأدوار التي طالما رفعتها في شعاراتها، برزت هذه الحركات باعتبارها المحرك الأساسي للأمة، بما امتلكته من قدرة على التعبئة الشعبية وتوظيف المرجعية الدينية كعامل جامع يحرك الضمير الإسلامي نحو نصرة المستضعفين والتصدي للاستبداد والاستعمار.
لقد كان للحركات الإسلامية، وما يزال، دور محوري في الأمة، وإن تباين حضوره بحسب السياقات السياسية والاجتماعية والفكرية.
فهي دينيًا وتربويًا حافظت على الهوية الإسلامية عبر الدعوة والتعليم وإحياء الشعائر، ما رسخ وعيًا متجذرًا لدى الأجيال.
واجتماعيًا أنشأت مؤسسات تعليمية وصحية وخيرية وقدمت خدمات واسعة للفقراء والمهمشين، فاقتربت من هموم الناس اليومية.
وسياسيًا خاضت تجارب المشاركة البرلمانية والحزبية ضمن حدود ضيقة فرضتها أنظمة أفرغت السياسة من مضمونها وأحبطت كل محاولة جادة للإصلاح، فانتقلت إلى أدوار المعارضة والضغط الشعبي دفاعًا عن القضايا المركزية وفي طليعتها فلسطين. أما ثقافيًا وفكريًا فقد قدمت خطابًا بديلًا، وأنتجت رؤية إسلامية شاملة لقضايا الهوية والاستقلال الحضاري ومقاومة التغريب.
غير أن الدور الأبرز والأكثر حضورًا كان في ميدان المقاومة والتحرر، حيث وقفت هذه الحركات في طليعة المواجهة مع الاستعمار والاحتلال، وربطت بين الإسلام كعقيدة وهوية وبين مشروع مقاومة العدوان الخارجي.
ويكفي النظر إلى الحالة الفلسطينية ليتضح كيف تصدت للمشروع الصهيوني، وحملت راية المقاومة في وقت سعت فيه قوى عديدة إلى الالتفاف على هذه القضية أو تهميشها. لقد مثلت بالنسبة إلى قطاعات واسعة من الأمة التعبير الأصدق عن رفض الاحتلال والإصرار على استعادة الأرض والكرامة.
وفي المقابل، لا يمكن تجاهل ما واجهته هذه الحركات من مظاهر ضعف وقصور، ومن انتقادات ارتبطت أحيانًا بالجمود أو الانقسام الداخلي أو الإفراط في التركيز على الجانب السياسي على حساب التربوي والاجتماعي. يضاف إلى ذلك استهدافها المتواصل من قوى إقليمية ودولية رأت في صعودها تهديدًا مباشرًا لمصالحها ونفوذها.
ويظل التحدي الأكبر أمام هذه الحركات هو إيجاد التوازن بين التمسك بالثوابت الإسلامية واستيعاب متغيرات الواقع السياسي والاجتماعي، إلى جانب حاجتها الدائمة إلى مراجعات نقدية تعزز فاعليتها وتحد من نقاط ضعفها.
إن الحركات الإسلامية تؤدي الدور الأبرز في نهضة الأمة، غير أن ذلك لا يُعفي الدول الإسلامية الرسمية من مسؤولياتها الكبرى، فهي الإطار الأوسع الذي يحتضن الغالبية الساحقة من المسلمين في العالم.
أما الدول العربية، التي تضم ما بين 350 إلى 400 مليون مسلم ناطق بالعربية، فإنهم لا يمثلون سوى ما نسبته 18–20% من مجموع المسلمين عالميًا، أي أقلية داخل الأمة الإسلامية الكبرى. ومع ذلك، فإن موقعهم السياسي والجغرافي والتاريخي يضاعف حجم مسؤوليتهم تجاه قضايا الأمة، وفي مقدمتها قضية فلسطين، باعتبارها القضية المركزية التي تكشف صدقية الانتماء الإسلامي والإنساني.
لقد شكلت الحركات الإسلامية خلال العقود الأخيرة المحرك الأساسي للأمة الإسلامية، إذ أعادت الاعتبار للهوية الدينية الجامعة وربطت الجماهير بقضاياها المصيرية، وفي مقدمتها فلسطين. لم يقتصر دورها على المقاومة المسلحة ضد الاستعمار، بل امتد إلى بناء مؤسسات اجتماعية وتعليمية عززت صمود المجتمع الفلسطيني، وإلى أدوار إصلاحية وخدماتية في عدد من البلدان العربية جعلت منها قوة أمل للتغيير.
غير أن هذا الدور جرى تقييده وإضعافه عبر حملات منظمة من الملاحقات والاعتقالات والانقلابات، كما حدث في مصر، أو عبر التضييق والتحريض كما في الأردن، أو التقييد السياسي في تونس، أو التهميش كما في المغرب.
وهكذا، حين غُيّبت هذه الحركات أو أُضعفت قسرًا، بدا وكأن “2 مليار مسلم” غائبون أو عاجزون، لأن المحرك الأهم لقدرتهم على الفعل قد شُل، فانعكس ذلك في وهن الأمة وفقدانها لقوتها التعبوية، وترك فراغًا استغلته قوى سلطوية وخارجية لترسيخ الهيمنة والتبعية. ومن هنا، فإن الحركات الإسلامية مطالَبة اليوم أكثر من أي وقت مضى بأن تستعيد دورها التاريخي بكل الطرق الممكنة، ومهما كلفت الأثمان، لأن غيابها يعني بقاء الأمة أسيرة العجز، وعاجزة عن نصرة فلسطين، التي ستظل الامتحان الأكبر لصدق الانتماء الإسلامي والإنساني.