الضفة الغربية بين شراسة المستوطنين… وانتخابات محسوبة
د. عبد الحميد صيام
عدت من زيارة قصيرة لفلسطين المحتلة، وهي الزيارة الأولى بعد حرب الإبادة التي تقترب من إكمال عامها الثاني، مع ما حملته من مآسٍ بلغت ذروتها باستخدام سلاح التجويع الشامل لسكان غزة جميعهم دون استثناء. والانطباع الذي يخرج به العائد إلى الوطن لفترة قصيرة هو أن الشعب الفلسطيني في الضفة الغربية المحتلة يعيش حالة إحباط وتوجس وتخوف من الأيام المقبلة.
أخبار الإبادة في غزة تتزامن مع هجمات المستوطنين المتوحشة، التي أصبحت أكثر تنظيما وشمولية ودموية تحت رعاية حكومة الثالوث الفاشي نتنياهو- بن غفيرـ سموتريتش. وهذا الإحباط يرافقه غياب البوصلة السياسية في ظل دعوة الرئيس عباس لانتخابات المجلس الوطني الفلسطيني، التي يراها الكثيرون تهربا من المسؤولية الحقيقية لوقف المجازر. وسأعرض بعض الانطباعات حول المشهدين.
توحش المستوطنين
هناك خوف حقيقي الآن لدى سكان القرى الفلسطينية وهم يواجهون هجمات المستوطنين. يشعر الناس بأنهم تركوا لمصيرهم، لمواجهة جماعات مجرمة من المستوطنين يعتدون على الأرض والشجر والثروات الحيوانية، بالإضافة إلى تعمد الاعتداءات الجسدية اليومية التي غالبا ما تنتهي بالقتل العمد، كما حدث في برقة وسنجل ومسافر يطا وسلواد وغيرها الكثير، حيث زاد عدد الشهداء عن 70 فلسطينيا منذ بداية هذا العام. قبل وصولي بأيام دخل مستوطنون تخوم قرية مخماس ونشروا 71 شجرة زيتون مرة واحدة وانصرفوا ليس بعيدا عن المكان.
وفي دير دبوان، ورداً على ضرب أحد المستوطنين بالحجارة قاموا بنهب 800 رأس غنم للمواطن نفسه الذي عاد من الولايات المتحدة للاستثمار في الوطن. وفي قرية برقة التي تشكل أحد أضلاع المثلث المحاصر بالمستوطنات مع مخماس ودير دبوان أقام المستوطنون بؤرة على أرض القرية وما فتئوا يتحرشون يوميا بالسكان، وعندما تصدى لهم شباب القرية وكادوا يحطمونهم أطلق أحدهم النار فأردى الشاب قصي جمال معطان ابن التسعة عشر ربيعا شهيدا.
وفي حديث مع الناس العاديين من أبناء القرية قال أحدهم، إن أخطر ما قام به المستوطنون هو أنهم قطعوا بين الفلاح وأرضه.
فقد أنشأوا بؤرا استيطانية على جميع أراضي القرى المذكورة والمشمولة في منطقة «جيم» حسب اتفاقية أوسلو-2. وهذه الأراضي هي سلة الغذاء للفلاحين، فيها يزرع القمح والشعير والخضروات والبقوليات جميعها
الفلاحون كانوا عادة يتمتعون بالاكتفاء الذاتي لخصوبة الأرض المقدسة التي مر عليها جميع الغزاة طمعا فيها ووصفها الرب بأنها الأرض التي تفيض لبنا وعسلا. لقد نشأنا على هذه الربى الجميلة، حتى جاء هؤلاء الأوباش من كل بقاع الأرض تحت مسمى العلاقه مع ربهم الذي فصّلوه على مقاسهم قبل آلاف السنين، وادعوا ملكيتها في العصر الحديث.
وقد أحضر سفير الكيان داني دانون نسخة من التلمود إلى مجلس الأمن وقال «هذا هو كوشان ملكية الأرض الذي يثبت أننا أصحابها»، ولم يعترض على خزعبلاته أحد.
الخطوة التالية التي يتوجس منها سكان القرى، خاصة تلك التي يعيش جزء أساسي من سكانها في المهجر. هو الاستيلاء على بيوت أصحابها غائبون عنها معظم أيام السنة، ولا يزورونها إلا أيام الصيف.
ولو حصل واخترق مستوطن واحد أحد البيوت واستقر فيه بقوة السلاح ستكون بداية اغتصاب البيوت وطرد السكان من قراهم، وهو ما تسعى إليه حكومة الفاشيين. إنهم يخططون لتفريغ الضفة إذا نجحوا في السيطرة على غزة، ولولا المقاومة لما منعهم أحد عن طرد سكان الضفة، أو إخضاعهم وتحويلهم إلى سكان كانتونات لا مواطنين في بلدهم.
ومع هذا لا يزال بعض المتخاذلين يدعون لسحب سلاح المقاومة وتسليمه لسلطة أوسلو. وقد شاهدنا ما عمله الاحتلال في الضفة، بعد أن سحبت السلطة كل قطعة سلاح من أيدي المواطنين والمناضلين تطبيقا لاتفاقيات لا تطبق إلا على الفلسطينيين.
الانتخابات والهروب إلى الأمام
آخر هموم الشعب الفلسطيني هي الانتخابات، يتساءل الكثيرون أي انتخابات في ظل المجازر؟ فالسلطة المتهاوية في رام الله غير معنية بما يحدث في غزة، إلا بمقدار ما يمكنها استثمارها لصالحها. أحد رموزها قال ذلك: «علينا أن نستثمر دماء الأطفال». الأغرب من كل ذلك أن السلطة تضع اللوم على المقاومة لا على كيان قام على المجازر وعاش عليها وتفنن في ارتكابها، فبدل تكريس كل الجهد لوقف المجازر يتم تكييف الخطاب السياسي ليلبي شروط الكيان. نزع سلاح المقاومة، كما يطالب نتنياهو، إنهاء أي وجود لحركات المقاومة في غزة، وتسليم السلطة لأجهزة التنسيق الأمني التي ستنقل تجربتها الإبداعية في الضفة الغربية إلى غزة.
كل ما سمعته إلا من مجموعة صغيرة، أن نزع سلاح المقاومة يعني انتصارا حاسما للثلاثي الدموي نتنياهو- بن غفير- سموتريتش والذين سيعلنون نهاية القضية الفلسطينية.
سنرى يومها ماذا ستفعل السلطة في رام الله. وكي يؤكد الرئيس أهليته هو ونائبه حسين الشيخ، لمرحلة ما بعد غزة دعا الرئيس محمود عباس لإجراء انتخابات لمجلس وطني جديد قبل نهاية العام.
إنها من أغرب وأعجب الانتخابات في العصر الحديث على فرض أنها ستتم حسب شروطه التي ثبتها في رسالة الدعوة. شرط المشاركة في الانتخابات وهو قبول الاتفاقيات التي عقدتها منظمة التحرير الفلسطينية وقبول الشرعية الدولية، التي تعني في النهاية قبول اتفاقية أوسلو ومثالبها وأخطارها السياسية والاقتصادية والوطنية. تخيلوا معي لو أن انتخابات الكيان منعت المتطرفين الذين ينادون بقتل الفلسطينيين أو تهجيرهم من المشاركة.
الانتخابات السابقة عامي 1996 و2006 على الأقل تعاملت مع كل أبناء فلسطين المحتلة فقط في الضفة وغزة والقدس الشرقية، ما يعني أن أقل من ثلث الفلسطينيين شاركوا في الانتخابات السابقة دون شروط مسبقة. فمثلا قاطعت حركة الجهاد الانتخابات، بينما دخلت حركة حماس الانتخابات عام 2006 وفازت بها بطريقة نظيفة.
أما هذه المرة فهناك شرط جديد وخطير، يضيق عدد المرشحين والمشاركين في الانتخابات. فعلى المرشحين أن يعلنوا سلفا أنهم يؤيدون الاتفاقات الموقعة مع منظمة التحرير، وعلى اللجنة التي شكلها عباس من أنصاره، ومن بعض الفصائل المثبتة على الورق فقط ولا أحد يسمع عنها شيئا، يجب أن يوافقوا على من يدخل ومن لا يدخل ومن يشارك ومن لا يشارك.
فبدل التركيز على حشد كل جهود الشعب الفلسطيني وتشكيل قيادة طوارئ، أو إنقاذ للتعامل مع حرب الإبادة والتكلم مع العالم بصوت واحد موحد يقول بكل جرأة لا شيء يعلو على هدف وقف حرب الإبادة وإدخال المساعدات وإطلاق سراح آلاف المعتقلين ووقف الزحف الاستيطاني بوحدة وطنية على أرضية الصمود والمواجهة، تخلّى الرئيس عن هذه الاستحقاقات وقبل بشروط أمريكية خلال لقائه في عمان، مع وفد أمريكي يبدو أنه طلب منه إعداد المسرح لتسليم السلطة لخليفته حسين الشيخ، بعد مهرجان الانتخابات لمنحه شرعية دستورية يفتقدها الآن.
هذه هي الصورة في الوطن. ولولا مجموعة مناضلة تعتصم في رام الله وتعلن الإضراب عن الطعام وتنظم المسيرات والاعتصامات لظننت أنك تعيش في مدينة أجنبية لا علاقة لها بشلالات الدم في غزة، فكل شيء في رام الله هادئ بانتظار تحقيق نبوءات بعض الشيوخ بقرب زوال إسرائيل.
د. عبد الحميد صيام
عدت من زيارة قصيرة لفلسطين المحتلة، وهي الزيارة الأولى بعد حرب الإبادة التي تقترب من إكمال عامها الثاني، مع ما حملته من مآسٍ بلغت ذروتها باستخدام سلاح التجويع الشامل لسكان غزة جميعهم دون استثناء. والانطباع الذي يخرج به العائد إلى الوطن لفترة قصيرة هو أن الشعب الفلسطيني في الضفة الغربية المحتلة يعيش حالة إحباط وتوجس وتخوف من الأيام المقبلة.
أخبار الإبادة في غزة تتزامن مع هجمات المستوطنين المتوحشة، التي أصبحت أكثر تنظيما وشمولية ودموية تحت رعاية حكومة الثالوث الفاشي نتنياهو- بن غفيرـ سموتريتش. وهذا الإحباط يرافقه غياب البوصلة السياسية في ظل دعوة الرئيس عباس لانتخابات المجلس الوطني الفلسطيني، التي يراها الكثيرون تهربا من المسؤولية الحقيقية لوقف المجازر. وسأعرض بعض الانطباعات حول المشهدين.
توحش المستوطنين
هناك خوف حقيقي الآن لدى سكان القرى الفلسطينية وهم يواجهون هجمات المستوطنين. يشعر الناس بأنهم تركوا لمصيرهم، لمواجهة جماعات مجرمة من المستوطنين يعتدون على الأرض والشجر والثروات الحيوانية، بالإضافة إلى تعمد الاعتداءات الجسدية اليومية التي غالبا ما تنتهي بالقتل العمد، كما حدث في برقة وسنجل ومسافر يطا وسلواد وغيرها الكثير، حيث زاد عدد الشهداء عن 70 فلسطينيا منذ بداية هذا العام. قبل وصولي بأيام دخل مستوطنون تخوم قرية مخماس ونشروا 71 شجرة زيتون مرة واحدة وانصرفوا ليس بعيدا عن المكان.
وفي دير دبوان، ورداً على ضرب أحد المستوطنين بالحجارة قاموا بنهب 800 رأس غنم للمواطن نفسه الذي عاد من الولايات المتحدة للاستثمار في الوطن. وفي قرية برقة التي تشكل أحد أضلاع المثلث المحاصر بالمستوطنات مع مخماس ودير دبوان أقام المستوطنون بؤرة على أرض القرية وما فتئوا يتحرشون يوميا بالسكان، وعندما تصدى لهم شباب القرية وكادوا يحطمونهم أطلق أحدهم النار فأردى الشاب قصي جمال معطان ابن التسعة عشر ربيعا شهيدا.
وفي حديث مع الناس العاديين من أبناء القرية قال أحدهم، إن أخطر ما قام به المستوطنون هو أنهم قطعوا بين الفلاح وأرضه.
فقد أنشأوا بؤرا استيطانية على جميع أراضي القرى المذكورة والمشمولة في منطقة «جيم» حسب اتفاقية أوسلو-2. وهذه الأراضي هي سلة الغذاء للفلاحين، فيها يزرع القمح والشعير والخضروات والبقوليات جميعها
الفلاحون كانوا عادة يتمتعون بالاكتفاء الذاتي لخصوبة الأرض المقدسة التي مر عليها جميع الغزاة طمعا فيها ووصفها الرب بأنها الأرض التي تفيض لبنا وعسلا. لقد نشأنا على هذه الربى الجميلة، حتى جاء هؤلاء الأوباش من كل بقاع الأرض تحت مسمى العلاقه مع ربهم الذي فصّلوه على مقاسهم قبل آلاف السنين، وادعوا ملكيتها في العصر الحديث.
وقد أحضر سفير الكيان داني دانون نسخة من التلمود إلى مجلس الأمن وقال «هذا هو كوشان ملكية الأرض الذي يثبت أننا أصحابها»، ولم يعترض على خزعبلاته أحد.
الخطوة التالية التي يتوجس منها سكان القرى، خاصة تلك التي يعيش جزء أساسي من سكانها في المهجر. هو الاستيلاء على بيوت أصحابها غائبون عنها معظم أيام السنة، ولا يزورونها إلا أيام الصيف.
ولو حصل واخترق مستوطن واحد أحد البيوت واستقر فيه بقوة السلاح ستكون بداية اغتصاب البيوت وطرد السكان من قراهم، وهو ما تسعى إليه حكومة الفاشيين. إنهم يخططون لتفريغ الضفة إذا نجحوا في السيطرة على غزة، ولولا المقاومة لما منعهم أحد عن طرد سكان الضفة، أو إخضاعهم وتحويلهم إلى سكان كانتونات لا مواطنين في بلدهم.
ومع هذا لا يزال بعض المتخاذلين يدعون لسحب سلاح المقاومة وتسليمه لسلطة أوسلو. وقد شاهدنا ما عمله الاحتلال في الضفة، بعد أن سحبت السلطة كل قطعة سلاح من أيدي المواطنين والمناضلين تطبيقا لاتفاقيات لا تطبق إلا على الفلسطينيين.
الانتخابات والهروب إلى الأمام
آخر هموم الشعب الفلسطيني هي الانتخابات، يتساءل الكثيرون أي انتخابات في ظل المجازر؟ فالسلطة المتهاوية في رام الله غير معنية بما يحدث في غزة، إلا بمقدار ما يمكنها استثمارها لصالحها. أحد رموزها قال ذلك: «علينا أن نستثمر دماء الأطفال». الأغرب من كل ذلك أن السلطة تضع اللوم على المقاومة لا على كيان قام على المجازر وعاش عليها وتفنن في ارتكابها، فبدل تكريس كل الجهد لوقف المجازر يتم تكييف الخطاب السياسي ليلبي شروط الكيان. نزع سلاح المقاومة، كما يطالب نتنياهو، إنهاء أي وجود لحركات المقاومة في غزة، وتسليم السلطة لأجهزة التنسيق الأمني التي ستنقل تجربتها الإبداعية في الضفة الغربية إلى غزة.
كل ما سمعته إلا من مجموعة صغيرة، أن نزع سلاح المقاومة يعني انتصارا حاسما للثلاثي الدموي نتنياهو- بن غفير- سموتريتش والذين سيعلنون نهاية القضية الفلسطينية.
سنرى يومها ماذا ستفعل السلطة في رام الله. وكي يؤكد الرئيس أهليته هو ونائبه حسين الشيخ، لمرحلة ما بعد غزة دعا الرئيس محمود عباس لإجراء انتخابات لمجلس وطني جديد قبل نهاية العام.
إنها من أغرب وأعجب الانتخابات في العصر الحديث على فرض أنها ستتم حسب شروطه التي ثبتها في رسالة الدعوة. شرط المشاركة في الانتخابات وهو قبول الاتفاقيات التي عقدتها منظمة التحرير الفلسطينية وقبول الشرعية الدولية، التي تعني في النهاية قبول اتفاقية أوسلو ومثالبها وأخطارها السياسية والاقتصادية والوطنية. تخيلوا معي لو أن انتخابات الكيان منعت المتطرفين الذين ينادون بقتل الفلسطينيين أو تهجيرهم من المشاركة.
الانتخابات السابقة عامي 1996 و2006 على الأقل تعاملت مع كل أبناء فلسطين المحتلة فقط في الضفة وغزة والقدس الشرقية، ما يعني أن أقل من ثلث الفلسطينيين شاركوا في الانتخابات السابقة دون شروط مسبقة. فمثلا قاطعت حركة الجهاد الانتخابات، بينما دخلت حركة حماس الانتخابات عام 2006 وفازت بها بطريقة نظيفة.
أما هذه المرة فهناك شرط جديد وخطير، يضيق عدد المرشحين والمشاركين في الانتخابات. فعلى المرشحين أن يعلنوا سلفا أنهم يؤيدون الاتفاقات الموقعة مع منظمة التحرير، وعلى اللجنة التي شكلها عباس من أنصاره، ومن بعض الفصائل المثبتة على الورق فقط ولا أحد يسمع عنها شيئا، يجب أن يوافقوا على من يدخل ومن لا يدخل ومن يشارك ومن لا يشارك.
فبدل التركيز على حشد كل جهود الشعب الفلسطيني وتشكيل قيادة طوارئ، أو إنقاذ للتعامل مع حرب الإبادة والتكلم مع العالم بصوت واحد موحد يقول بكل جرأة لا شيء يعلو على هدف وقف حرب الإبادة وإدخال المساعدات وإطلاق سراح آلاف المعتقلين ووقف الزحف الاستيطاني بوحدة وطنية على أرضية الصمود والمواجهة، تخلّى الرئيس عن هذه الاستحقاقات وقبل بشروط أمريكية خلال لقائه في عمان، مع وفد أمريكي يبدو أنه طلب منه إعداد المسرح لتسليم السلطة لخليفته حسين الشيخ، بعد مهرجان الانتخابات لمنحه شرعية دستورية يفتقدها الآن.
هذه هي الصورة في الوطن. ولولا مجموعة مناضلة تعتصم في رام الله وتعلن الإضراب عن الطعام وتنظم المسيرات والاعتصامات لظننت أنك تعيش في مدينة أجنبية لا علاقة لها بشلالات الدم في غزة، فكل شيء في رام الله هادئ بانتظار تحقيق نبوءات بعض الشيوخ بقرب زوال إسرائيل.