ترامب على الخط: من النيل إلى رفح
وائل قنديل
على نحوٍ مباغت، قرّر الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، الدخول على ملف مياه النيل لإدارة الخلاف بين القاهرة وأديس أبابا بشأن سدّ النهضة وحصص مياه النهر. وفي لحظةٍ تهلّلت أسارير القاهرة الرسمية، وأعلنت على لسان الرجل الذي كان إعلامها يصوّره أنه في مرمى مؤامرة أميركية أن “مصر تؤكد ثقتها في قدرة الرئيس ترامب على حل المشاكل المعقدة وإرساء السلام والاستقرار والأمن في مختلف ربوع العالم، سواء كان ذلك في أوكرانيا، أو الأراضي الفلسطينية، أو أفريقيا”. هنا، كذلك، خفتت موسيقى اللطم والنحيب في الإعلام الذي يخوّف الناس بخطر المخطّط الشرير الذي تقوده واشنطن وتل أبيب على حاكم مصر الواقف في وجه ترامب ونتنياهو وحده.
أمّا وأنّ ترامب قد استخدم موضوع النيل في سياق مخطّطه الأساس بشأن غزّة، مُطلقاً تصريحات تدغدغ المشاعر، مثل “الولايات المتحدة تعمل على حل مشكلة سد النهضة الإثيوبي بسرعة كبيرة”، متسائلًا ببراءة: “لا أعلم لماذا لم يحلّوا المشكلة قبل أن يبنوا السد. لكن من الجميل أن يكون هناك ماء في نهر النيل”، فإن الموقف تغيّر تماماً في القاهرة التي كانت تحشد الجماهير لصدّ المخطّط، أو كأنه بعد تصريحات ترامب التي تقطر عذوبة، “كل الجراح طابت” هي جملة شعرية من قصيدة الراحل أحمد فؤاد نجم في رثاء جمال عبد الناصر .
ليست المشكلة في موقف دونالد ترامب وإدارته، فهو يعلم كيف ومتى يغازل وأين يتوقف عن الغزل ويهدّد ويأمر، وإنما المشكلة في هؤلاء الذين تذهب بهم كلمة وتأتي بهم أخرى، ويتناسون أنّ إنجازات إثيوبيا الأضخم في مشروع سدّ النهضة تحقّقت مع تولي ترامب رئاسة أميركا أوّل مرّة. وفي ذلك، تنبئنا الوقائع المُثبتة بأنّه فور زوال إدارة ترامب الأولى، ووصول إدارة بايدن إلى حكم الولايات المتحدة، سارعت الحكومة المصرية إلى طلب الغوث من الإدارة الديمقراطية الجديدة في موضوع بناء السدّ الإثيوبي والنزاع على مياه النيل. كانت رئاسة ترامب الأولى الفترة الذهبية لحكومة أديس أبابا كي تحقّق وَثباتٍ خطيرة في موضوع بناء السد، إذ شهد شهر يوليو/ تموز 2020 ذروة الإنجاز في البناء والتعبئة الأولى للخزّان. ويمكن القول إنّ فترة رئاسة ترامب كانت أثمن ما حصلت عليه إثيوبيا من هدايا، بعد احتفالية توقيع إعلان المبادئ بين عبد الفتاح السيسي وعمر البشير ورئيس حكومة إثيوبيا في حينه هايلي ديسالين في 2015.
حملت استغاثة الحكومة المصرية بإدارة بايدن الجديدة بعد أسابيع من الوصول إلى البيت الأبيض، في جوهرها ومنطوقها، نوعاً من الشعور بالظلم من إدارة ترامب، حيث نشر السفير المصري في واشنطن، معتز زهران، مقالاً مدفوعاً في مجلة “فورين بوليسي” الأميركية، لا يمكن أن يكون إلا تنفيذاً لتوجيه من الرئاسة المصرية، عنوانه “واشنطن المنقذ الوحيد لمفاوضات سد النهضة الآن”، في 30 إبريل/ نيسان 2021 واشتمل على فقراتٍ أقرب إلى استعطاف إدارة بايدن، مع التذكير بأنّ القاهرة بقيت وفية لما تراه واشنطن منذ توقيع اتفاقيات كامب ديفيد في نهاية سبعينيات القرن الماضي. ويكتبُ نصّاً: “احترمنا اتفاقاتنا مع اسرائيل وشجّعنا اتفاقات الدول العربية مع إسرائيل، وخلال 40 عاماً، كانت أميركا ومصر على تفاهم وتشاور كامل ومفيد قبل اتخاذ القرارات. نحن نريد تدخل الرئيس الأميركي للمساعدة في الوصول إلى اتفاق بضمان أميركا وعلى إدارة بايدن، التي تدرس حالياً أفضل سياسة لإدارة هذا الوضع، أن تتحرّك الآن”.
المعنى هنا أن الإدارة الأميركية السابقة على إدارة بايدن، وهي إدارة ترامب، لم تتحرّك ولم تقم بما كانت تتوقّعه منها مصر، وبتعبير السفير حرفيّاً: “ومن خلال الدبلوماسية القائمة على المبادئ، يمكن لإدارة بايدن إعادة ضبط المفاوضات المتعثرة”.
يبقى أن من المفيد أو من الواجب طرح الأسئلة الشائكة المتعلّقة بهذه الالتفاتة العطوف من دونالد ترامب ناحية مصر بعد أشهر من الجفاء والتجاهل والتهميش: لماذا الآن والمخطّط الأميركي الصهيوني بشأن قطاع غزّة، والذي يقوم على حشر الشعب الفلسطيني داخل مدينة خيام تديرها وتتحكّم فيها تل أبيب في رفح الفلسطينية يقطع خطوات كبيرة، وتدور حوله تفاهمات ورسائل باقتراحات متبادلة وترتيبات بين القاهرة وتل أبيب؟
ما الذي يمنع أن يكون هذا الرئيس الأميركي، المولع بالصفقات، ولا يرى الحياة كلّها إلا صفقة، قد قرّر اللعب بورقة النيل في قضية فلسطين؟ وما الذي يضمن ألا يفكّر في إحياء مشروع شرق أوسط شيمون بيريز الذي يتضمّن مدّ مياه النيل حتى تصل إلى الأراضي الفلسطينية المحتلة؟
بقي سؤال مفصلي وتاريخي اشتعل في “قاهرة الكامب ديفيد” على لسان أحد العاملين عليها في زمن أنور السادات، وزير الشؤون الخارجية في السبعينيات، بطرس غالي، في كتابه “بين النيل والقدس”، ويقول: “إذا كان لا بد من الاختيار بين العالم العربي وأفريقيا، ماذا سيكون خيارنا؟ باختصار، ما هو الأهم بالنسبة لمصر: النيل رمز المستقبل أم القدس، رمز التاريخ؟ ما هو الأهم: الجغرافيا أم التاريخ؟. … هذا هو السؤال المطروح على المصريين الآن في عصر يقدّس “كامب ديفيد” ويعتبرها صنمه المعبود.
وائل قنديل
على نحوٍ مباغت، قرّر الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، الدخول على ملف مياه النيل لإدارة الخلاف بين القاهرة وأديس أبابا بشأن سدّ النهضة وحصص مياه النهر. وفي لحظةٍ تهلّلت أسارير القاهرة الرسمية، وأعلنت على لسان الرجل الذي كان إعلامها يصوّره أنه في مرمى مؤامرة أميركية أن “مصر تؤكد ثقتها في قدرة الرئيس ترامب على حل المشاكل المعقدة وإرساء السلام والاستقرار والأمن في مختلف ربوع العالم، سواء كان ذلك في أوكرانيا، أو الأراضي الفلسطينية، أو أفريقيا”. هنا، كذلك، خفتت موسيقى اللطم والنحيب في الإعلام الذي يخوّف الناس بخطر المخطّط الشرير الذي تقوده واشنطن وتل أبيب على حاكم مصر الواقف في وجه ترامب ونتنياهو وحده.
أمّا وأنّ ترامب قد استخدم موضوع النيل في سياق مخطّطه الأساس بشأن غزّة، مُطلقاً تصريحات تدغدغ المشاعر، مثل “الولايات المتحدة تعمل على حل مشكلة سد النهضة الإثيوبي بسرعة كبيرة”، متسائلًا ببراءة: “لا أعلم لماذا لم يحلّوا المشكلة قبل أن يبنوا السد. لكن من الجميل أن يكون هناك ماء في نهر النيل”، فإن الموقف تغيّر تماماً في القاهرة التي كانت تحشد الجماهير لصدّ المخطّط، أو كأنه بعد تصريحات ترامب التي تقطر عذوبة، “كل الجراح طابت” هي جملة شعرية من قصيدة الراحل أحمد فؤاد نجم في رثاء جمال عبد الناصر .
ليست المشكلة في موقف دونالد ترامب وإدارته، فهو يعلم كيف ومتى يغازل وأين يتوقف عن الغزل ويهدّد ويأمر، وإنما المشكلة في هؤلاء الذين تذهب بهم كلمة وتأتي بهم أخرى، ويتناسون أنّ إنجازات إثيوبيا الأضخم في مشروع سدّ النهضة تحقّقت مع تولي ترامب رئاسة أميركا أوّل مرّة. وفي ذلك، تنبئنا الوقائع المُثبتة بأنّه فور زوال إدارة ترامب الأولى، ووصول إدارة بايدن إلى حكم الولايات المتحدة، سارعت الحكومة المصرية إلى طلب الغوث من الإدارة الديمقراطية الجديدة في موضوع بناء السدّ الإثيوبي والنزاع على مياه النيل. كانت رئاسة ترامب الأولى الفترة الذهبية لحكومة أديس أبابا كي تحقّق وَثباتٍ خطيرة في موضوع بناء السد، إذ شهد شهر يوليو/ تموز 2020 ذروة الإنجاز في البناء والتعبئة الأولى للخزّان. ويمكن القول إنّ فترة رئاسة ترامب كانت أثمن ما حصلت عليه إثيوبيا من هدايا، بعد احتفالية توقيع إعلان المبادئ بين عبد الفتاح السيسي وعمر البشير ورئيس حكومة إثيوبيا في حينه هايلي ديسالين في 2015.
حملت استغاثة الحكومة المصرية بإدارة بايدن الجديدة بعد أسابيع من الوصول إلى البيت الأبيض، في جوهرها ومنطوقها، نوعاً من الشعور بالظلم من إدارة ترامب، حيث نشر السفير المصري في واشنطن، معتز زهران، مقالاً مدفوعاً في مجلة “فورين بوليسي” الأميركية، لا يمكن أن يكون إلا تنفيذاً لتوجيه من الرئاسة المصرية، عنوانه “واشنطن المنقذ الوحيد لمفاوضات سد النهضة الآن”، في 30 إبريل/ نيسان 2021 واشتمل على فقراتٍ أقرب إلى استعطاف إدارة بايدن، مع التذكير بأنّ القاهرة بقيت وفية لما تراه واشنطن منذ توقيع اتفاقيات كامب ديفيد في نهاية سبعينيات القرن الماضي. ويكتبُ نصّاً: “احترمنا اتفاقاتنا مع اسرائيل وشجّعنا اتفاقات الدول العربية مع إسرائيل، وخلال 40 عاماً، كانت أميركا ومصر على تفاهم وتشاور كامل ومفيد قبل اتخاذ القرارات. نحن نريد تدخل الرئيس الأميركي للمساعدة في الوصول إلى اتفاق بضمان أميركا وعلى إدارة بايدن، التي تدرس حالياً أفضل سياسة لإدارة هذا الوضع، أن تتحرّك الآن”.
المعنى هنا أن الإدارة الأميركية السابقة على إدارة بايدن، وهي إدارة ترامب، لم تتحرّك ولم تقم بما كانت تتوقّعه منها مصر، وبتعبير السفير حرفيّاً: “ومن خلال الدبلوماسية القائمة على المبادئ، يمكن لإدارة بايدن إعادة ضبط المفاوضات المتعثرة”.
يبقى أن من المفيد أو من الواجب طرح الأسئلة الشائكة المتعلّقة بهذه الالتفاتة العطوف من دونالد ترامب ناحية مصر بعد أشهر من الجفاء والتجاهل والتهميش: لماذا الآن والمخطّط الأميركي الصهيوني بشأن قطاع غزّة، والذي يقوم على حشر الشعب الفلسطيني داخل مدينة خيام تديرها وتتحكّم فيها تل أبيب في رفح الفلسطينية يقطع خطوات كبيرة، وتدور حوله تفاهمات ورسائل باقتراحات متبادلة وترتيبات بين القاهرة وتل أبيب؟
ما الذي يمنع أن يكون هذا الرئيس الأميركي، المولع بالصفقات، ولا يرى الحياة كلّها إلا صفقة، قد قرّر اللعب بورقة النيل في قضية فلسطين؟ وما الذي يضمن ألا يفكّر في إحياء مشروع شرق أوسط شيمون بيريز الذي يتضمّن مدّ مياه النيل حتى تصل إلى الأراضي الفلسطينية المحتلة؟
بقي سؤال مفصلي وتاريخي اشتعل في “قاهرة الكامب ديفيد” على لسان أحد العاملين عليها في زمن أنور السادات، وزير الشؤون الخارجية في السبعينيات، بطرس غالي، في كتابه “بين النيل والقدس”، ويقول: “إذا كان لا بد من الاختيار بين العالم العربي وأفريقيا، ماذا سيكون خيارنا؟ باختصار، ما هو الأهم بالنسبة لمصر: النيل رمز المستقبل أم القدس، رمز التاريخ؟ ما هو الأهم: الجغرافيا أم التاريخ؟. … هذا هو السؤال المطروح على المصريين الآن في عصر يقدّس “كامب ديفيد” ويعتبرها صنمه المعبود.