في الذكرى الـ77 للنكبة.. حيث لا تزال النكبة مستمرة

  • الخميس 15, مايو 2025 11:15 ص
  • في الذكرى الـ77 للنكبة.. حيث لا تزال النكبة مستمرة
في الذكرى السابعة والسبعين للنكبة، لا أملك إلا أن أروي ما عاشه والدي، قبل أن يختطفه الموت في محنة النزوح. سأحدثكم عن الحياة التي لم تكن يومًا حياة، عن أجساد أنهكها الألم، ونفوس انحنت تحت وطأة المعاناة، عن القاع الذي لا قرار له، عن صراع الإنسان للبقاء عندما لا يبقى له سوى اليأس ليعانقه.
في الذكرى الـ77 للنكبة.. حيث لا تزال النكبة مستمرة
ثامر قشطة
في الذكرى السابعة والسبعين للنكبة، لا أملك إلا أن أروي ما عاشه والدي، قبل أن يختطفه الموت في محنة النزوح. سأحدثكم عن الحياة التي لم تكن يومًا حياة، عن أجساد أنهكها الألم، ونفوس انحنت تحت وطأة المعاناة، عن القاع الذي لا قرار له، عن صراع الإنسان للبقاء عندما لا يبقى له سوى اليأس ليعانقه.
سأروي عن ذلك الإنسان الذي حُرم إنسانيته، حين يُنتزع من أرضه، ويُلقى في أقبية التهجير، ويُعزل عن تاريخه وحياته، ويُسلب كل ما كان يملكه. إنها المأساة التي تكشف عن أمر رهيب: ما يمكن أن تفعله نفس بشرية بأخرى حين لا تُرى كإنسان، بل كمجرد كائن يمكن إزالته دون تردد.
النكبة: جريمة مستمرة
لم تكن نكبة عام 1948 مجرد لحظة تاريخية عابرة، بل بداية مشروع اقتلاعي ممنهج، أسفر عن تهجير أكثر من 750 ألف فلسطيني من قراهم ومدنهم، وتدمير أكثر من 530 بلدة فلسطينية، وفق توثيق مركز "عكّا" وموسوعة وليد الخالدي. لقد مهّد ذلك التهجير القسري، الذي يُصنّف قانونيًا كـجريمة تطهير عرقي، لتأسيس دولة الاحتلال على أنقاض شعب ما زال حتى اللحظة يبحث عن العدالة.
ولم تكن اتفاقية جنيف الرابعة لعام 1949 غائبة عن هذا المشهد، فقد نصّت على حماية المدنيين تحت الاحتلال، ومنع تهجيرهم القسري، ومع ذلك لم تُطبّق على الفلسطينيين، وظل المجتمع الدولي عاجزًا أو متواطئًا.
غزة اليوم: الوجه المعاصر للنكبة
إن ما يجري في غزة منذ تسعة عشر شهرًا ليس مجرد عدوان، بل نسخة حديثة من النكبة، تُمارس بأدوات تكنولوجية أكثر فتكًا، وبتواطؤ عالمي أكثر وقاحة. مئات الآلاف من المدنيين مكشوفون للموت: لا مأوى، لا حماية، لا مفر من الغارات الجوية أو رصاص القناصة المتعمد.
حوالي 70% من سكان غزة نازحون، وفق تقارير الأمم المتحدة، وغالبهم يعيشون في ظروف لا تليق بالحيوانات، دون ماء أو دواء أو غذاء. المستشفيات مدمّرة، والمدارس تحوّلت إلى مقابر جماعية أو ثكنات عسكرية، والمجتمع الدولي يراقب بصمت، أو يبرر بحجج واهية.
جريمة ضد الإنسانية
بحسب تقارير صادرة عن مجلس حقوق الإنسان ومنظمة العفو الدولية، فإن كثيرًا من الأفعال التي يرتكبها الاحتلال بحق سكان غزة – من القصف العشوائي، إلى سياسة التجويع والحصار، والتدمير الممنهج للبنى التحتية – تُشكّل جرائم حرب، بل وجرائم ضد الإنسانية، تستوجب المحاسبة بموجب القانون الدولي.
إلا أن النظام الدولي، الذي صنع شرعة حقوق الإنسان بعد الحرب العالمية الثانية، يبدو عاجزًا عن فرضها حين تكون الضحية فلسطينية، والجلاد دولة مدعومة من قوى كبرى.
العودة: حق غير قابل للتصرف
إن النكبة لم تنتهِ، وما زال شعبنا يعيش فصولها كل يوم، في كل بيت، وتحت كل سقف، بل حتى حيث لم يبقَ سقف. لكننا نذكّر العالم بأن حق العودة ليس شعارًا، بل حق قانوني ثابت أقرته الفقرة 11 من قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 194، وأكدته عشرات القرارات الأممية اللاحقة.
من هجّروهم بالأمس، يسعون اليوم لمحو ما تبقى من شواهد اللجوء، عبر ضرب وكالة "الأونروا"، وتحويل المخيمات إلى أهداف عسكرية، لطمس أي دلالة على جريمة التهجير الأصلية.
صرخة للعدالة
أين أفراد العائلة الذين فُقدوا تحت الأنقاض؟ هل ما زالوا أحياء؟ هل لفظوا أنفاسهم الأخيرة وحدهم؟ لا إجابة. الأطباء في مستشفيات غزة المنهارة يقاتلون بعجز مطلق، صرخاتهم ترتفع، وقلوبهم تموت وهم يشهدون الأطفال يحتضرون، والنساء، والشيوخ، والرضّع ينزفون حتى الموت دون قدرة على إنقاذهم.
الروائح تختلط: الدم، القذارة، المرض، والموت. فهل بقي للعالم ذرة من إنسانية ليشهد على هذه الوحشية؟ هل سيواصل المثقفون والناشطون التهرب من تسمية الأشياء بأسمائها؟ آن الأوان أن يُقال بوضوح: من المسؤول عن هذه المجازر؟ ليس أولئك الذين يقاومون، بل من يشنّ العدوان ويصنع الموت كل ساعة.