ليس الجوعُ خبراً أيها الناس!
د. أسامة الأشقر
1. الوجوه منطفئة شاحبة، والأجساد ذاوية هزيلة، ولو كشف أحدهم بدنَه للعيان لرأيت قضبان السجن العتيق تنحت هيكله البارز الذي يكسوه الجلد اليابس المتقشّر . الجميع هنا بلا استثناء يجوع حقّاً،
2. ارفعوا أيّ حجر هناك فستجدون تحته أنيناً قويّاً يقتحم أذنيك، ولا يتوقف عن الصراخ والعويل.
3. الناس تبحث عن ربع رغيف، فلْيكُنْ يابساً مفتوتاً فإننا سنَنْقَعه بماء البحر الملح، فيكون تحسيناً لمذاقه، وشراباً قليل الملوحة، ولْيكُنْ متعفناً فإننا سنكْحَت العفن عنه، ونقمّره بأشعة الشمس التي تلفح وجوهنا السمراء، فكلّ شيء مأكول هنا، وما دامت الخيول الهزيلة الباقية والحمير الصابرة تأكله فهو صالح للأكل، حتى لو غطاّه العفن، والتمّت عليه عيون الفئران المذعورة التي هاجر أكثرها عبر دبول الأرض.
4. هذه الكاميرات تلتقط مشاهد حشود الجائعين عن بُعد، ولو رآها الناس لغطّوا وجوههم بتلك الأواني التي يحملونها من فرط حزنهم واستحيائهم، لأنه أهل كرامة وشمَم وأنَفة وعزّة.
5. حشود من الجياع لا تبتسم إلا بعد كيل طعام في أوعيتها الصغيرة التي يوضع فيها قَدرٌ متساوٍ من ظلم التوزيع ليسع الجميع.
6. الجوع الآن وحشٌ يكسر قلوب الناس وينهش كرامتهم، ويزداد القهر عندما يرون جيشاً بكامل زينته على أمتار منهم يغدو ويروح إلى مستودع طعامه ويأخذ منه، وخلفه آلاف الشاحنات الميتة التي ملّت انتظار إذن هذه الجيوش التي تنتظر هي الإذنَ من الجيش الذي يقتل كل شيء حيّ.
7. أقدام الأطفال تصطفّ في طوابير طويلة منذ منتصف الليل، يحاولون أن يجعلوا من صفوفهم لعبة جميلة يتصارعون فيها بلؤم الصغار المحبوب.
8. والرجال يطوفون في كل مكان بحثاً عن رزق يسوقه الله إليهم من أي مكان، ولم يعودوا يلتفتون إلى السلامة في هذه الرحلة المكرورة القاسية.
9. ما يكسر أفئدة الرجال أنهم يرون أمهاتهم وبناتهم وزوجاتهم وأخواتهم وأطفالهم يسقطون على الأرض من رهق الانتظار وانعدام القوة من أثر الجوع والمسغبة.
10. ونعلم أنّ ثمّة نساء كثيرات يرفضن الخروج ويفضّلن التعفف الشديد حتى لا تراق كرامتُهنّ أثناء التدافع،
11. ونساء أخريات يقتحمن الصفوف لأنهن غير قادرات على الوقوف أو يعلمن أن الموت أدنى من الوصول للقمة.
12. اليوم لا يجتمع الأهل على مائدة، بل يتفرق الأهل إلى كل طابور بحثاً عن لقمةٍ لجنين يتخلّق أو مرضع يجف لبنها أو كبير مهزول أو مريض مهدود أو طفل عاجز عن فهم ما يجري.
13. بعضهم صار يدرّس مادة الجوع جعلوا لأنفسهم نظاماً أن يأكلوا وجبة "البقاء" كل ثلاثة أيام لئلا تعتاد أجسادهم اللقمة اليومية، وعقدوا نية الصيام لينالوا أجر الصائمين السائحين.
14. هذا الجوع إذا كسر كرامة النفوس فإنها قد تتجه إلى الاكتئاب الشديد وامتلائها بالخيبة والحقد، وإما سيطهّرها من الحاجة إلى الخلق، والفرار إلى الخالق وبذل كل ما تبقى في سبيله عن قناعة كاملة ورضا مستقر لا شك فيه، وأهل الثغر أدمنوا الكرامة وفاضوا بها.
15. ليس الجوع ترفاً يا ناس، ليس الجوع خبراً يا ناس، ليس الجوع بياناً يا ناس، إنه عذاب للبدن والعين والأذن والروح وعذاب للكرامة يا أهل الكرامة !
16. إننا إذا متنا فلن نموت من الجوع، بل سنموت من القهر الذي يجعلنا كالحيوانات حتى نبقى!
17. قال لي جائع: ما كنتُ أتمنى الحياة منذ بدأت الحرب إلا اليوم فإنني أرجو أن أعيش لأنتقم، وأعيش لأحكي قصة أمّة يقتحمها الفراغ من رأسها الباردة حتى أخمص قدميها الحافيتين!
د. أسامة الأشقر
1. الوجوه منطفئة شاحبة، والأجساد ذاوية هزيلة، ولو كشف أحدهم بدنَه للعيان لرأيت قضبان السجن العتيق تنحت هيكله البارز الذي يكسوه الجلد اليابس المتقشّر . الجميع هنا بلا استثناء يجوع حقّاً،
2. ارفعوا أيّ حجر هناك فستجدون تحته أنيناً قويّاً يقتحم أذنيك، ولا يتوقف عن الصراخ والعويل.
3. الناس تبحث عن ربع رغيف، فلْيكُنْ يابساً مفتوتاً فإننا سنَنْقَعه بماء البحر الملح، فيكون تحسيناً لمذاقه، وشراباً قليل الملوحة، ولْيكُنْ متعفناً فإننا سنكْحَت العفن عنه، ونقمّره بأشعة الشمس التي تلفح وجوهنا السمراء، فكلّ شيء مأكول هنا، وما دامت الخيول الهزيلة الباقية والحمير الصابرة تأكله فهو صالح للأكل، حتى لو غطاّه العفن، والتمّت عليه عيون الفئران المذعورة التي هاجر أكثرها عبر دبول الأرض.
4. هذه الكاميرات تلتقط مشاهد حشود الجائعين عن بُعد، ولو رآها الناس لغطّوا وجوههم بتلك الأواني التي يحملونها من فرط حزنهم واستحيائهم، لأنه أهل كرامة وشمَم وأنَفة وعزّة.
5. حشود من الجياع لا تبتسم إلا بعد كيل طعام في أوعيتها الصغيرة التي يوضع فيها قَدرٌ متساوٍ من ظلم التوزيع ليسع الجميع.
6. الجوع الآن وحشٌ يكسر قلوب الناس وينهش كرامتهم، ويزداد القهر عندما يرون جيشاً بكامل زينته على أمتار منهم يغدو ويروح إلى مستودع طعامه ويأخذ منه، وخلفه آلاف الشاحنات الميتة التي ملّت انتظار إذن هذه الجيوش التي تنتظر هي الإذنَ من الجيش الذي يقتل كل شيء حيّ.
7. أقدام الأطفال تصطفّ في طوابير طويلة منذ منتصف الليل، يحاولون أن يجعلوا من صفوفهم لعبة جميلة يتصارعون فيها بلؤم الصغار المحبوب.
8. والرجال يطوفون في كل مكان بحثاً عن رزق يسوقه الله إليهم من أي مكان، ولم يعودوا يلتفتون إلى السلامة في هذه الرحلة المكرورة القاسية.
9. ما يكسر أفئدة الرجال أنهم يرون أمهاتهم وبناتهم وزوجاتهم وأخواتهم وأطفالهم يسقطون على الأرض من رهق الانتظار وانعدام القوة من أثر الجوع والمسغبة.
10. ونعلم أنّ ثمّة نساء كثيرات يرفضن الخروج ويفضّلن التعفف الشديد حتى لا تراق كرامتُهنّ أثناء التدافع،
11. ونساء أخريات يقتحمن الصفوف لأنهن غير قادرات على الوقوف أو يعلمن أن الموت أدنى من الوصول للقمة.
12. اليوم لا يجتمع الأهل على مائدة، بل يتفرق الأهل إلى كل طابور بحثاً عن لقمةٍ لجنين يتخلّق أو مرضع يجف لبنها أو كبير مهزول أو مريض مهدود أو طفل عاجز عن فهم ما يجري.
13. بعضهم صار يدرّس مادة الجوع جعلوا لأنفسهم نظاماً أن يأكلوا وجبة "البقاء" كل ثلاثة أيام لئلا تعتاد أجسادهم اللقمة اليومية، وعقدوا نية الصيام لينالوا أجر الصائمين السائحين.
14. هذا الجوع إذا كسر كرامة النفوس فإنها قد تتجه إلى الاكتئاب الشديد وامتلائها بالخيبة والحقد، وإما سيطهّرها من الحاجة إلى الخلق، والفرار إلى الخالق وبذل كل ما تبقى في سبيله عن قناعة كاملة ورضا مستقر لا شك فيه، وأهل الثغر أدمنوا الكرامة وفاضوا بها.
15. ليس الجوع ترفاً يا ناس، ليس الجوع خبراً يا ناس، ليس الجوع بياناً يا ناس، إنه عذاب للبدن والعين والأذن والروح وعذاب للكرامة يا أهل الكرامة !
16. إننا إذا متنا فلن نموت من الجوع، بل سنموت من القهر الذي يجعلنا كالحيوانات حتى نبقى!
17. قال لي جائع: ما كنتُ أتمنى الحياة منذ بدأت الحرب إلا اليوم فإنني أرجو أن أعيش لأنتقم، وأعيش لأحكي قصة أمّة يقتحمها الفراغ من رأسها الباردة حتى أخمص قدميها الحافيتين!