أزهار حسنين.. عادت من الموت بعد 3 أيام
غزة - آية صمامة - صفا
"أنتِ ماما؟!" تساؤلٌ خرج بصوتٍ مرتجفٍ من طفلتِها نُور، التي كانت تركض في ساحة مستشفى "المعمدانيّ" بمدينة غزَّة، تبحث بلهفةٍ عن والدتها، التي يخبرها قلبها أنها لم تمت، بعد أن ظنَّ الجميع أنها استُشهدت في قصفٍ إسرائيليٍّ قبل ثلاثة أيام.
بخطواتٍ مُتردّدةٍ، اقتربت نور من والدتِها، وعيناها تفيضان بالدُّموع، وكأنها لا تُصدّق ما تراهُ، ثم كرّرت السؤال بصوتٍ مذعورٍ، تنتظرُ الإجابة: "أنتِ ماما؟!".
لم تستطع أزهار الإجابة، فقد كان وجهها مُغطّى بالدّماء، وجسدُها منهكًا من الإصابة. هزّت رأسها بصعوبةٍ، فألقَت طفلتُها بنفسها في حضنِها، تَبكي بحرقةٍ، وكأنّها تُحاول تعويض الأيّام التي ظنّت أنها فقدتها فيها للأبد.
لكن فرحة اللقاء لم تدُم طويلًا؛ فسرعان ما فقدت أزهار وعيها، وسقطت أرضًا. "كان لقائي بأطفالي وزوجي معجزةً، لم أستطع نُطق أيّ كلمةٍ حينها، لكنّ حضنهم كان كل ما أحتاجه في تلك اللحظة"، تقول أزهار.
لقاء الصدمة
بصوتٍ يغمره رهبة الموقف، تروي أزهار حسنين (36 عامًا) أخصائية الدعم النفسيّ في وحدة الصحة النفسيّة بمستشفى "المعمدانيّ"، لوكالة "صفا"، تفاصيل يوم إصابتِها في الرابع من ديسمبر/ كانون الأول 2023، الذي وافق يوم ميلادها، وتحوّل إلى ذكرى مؤلمة.
وتقول: "كان من المفترض في ذلك اليوم أن يأتي شقيقي ليصطحبني وأولادي وزوجي إلى جنوبي قطاع غزَّة بعد احتفالنا بيوم ميلادي، لكن بشكل مفاجئ تعرّضت مدرسة صلاح الدين التي لجأنا إليها لقصفٍ عنيفٍ؛ فاستِشهد شقيقي وابنه، وأُصبت أنا".
تعرّضت أزهار لإصابةٍ خطرةٍ في وجهها، أدّت إلى انفصال الفك العلوي عن السفلي، مع فتحةٍ تمتدّ من أذنِها اليُسرى إلى سقف الحلق، ممّا أثّر بشكلٍ كبيرٍ على ملامح وجهِها، كما أُصيبت في قَدمِها وفقدَت العصب السّابع.
بعد الإصابة، لم يظهر عليها أيّ نبضٍ، وفقدت الوعي تمامًا، ما جعل الجميع يعتقدون أنّها استُشهِدت؛ فغطّوها ببطانيّةٍ ووضعوها بجانب جُثمان شقيقها وابنه، ثم خرجوا من المكان على أمل النَّجاة من القصف.
بين الحياة والموت
في اليوم الثالث من إصابتِها، استفاقَت أزهار وسط ألمِها، لتَجد نفسها مُستلقيةً بجوار جُثماني أخيها وابنِه، تُحاصرُها الدِّماء وأصوات الرصاص والصواريخ. لم تُفكّر في جِراحِها، بل في شقيقها الذي يجبُ أن يُكرّم بالدّفن.
وحين كانت عينا أزهار تبحثان عن بصيص أمل، جاء أشخاص يبحثون بين الرُّكام عن أحبّائهم وذَويهم؛ فما كان منها إلا أن رفعت يدها المُرتجِفة، وأشارت إليهم، وضربت بخفّةٍ على صدرِها، وكأنها تستجمع آخر ما تبقّى من قوّتها، وقالت بصوتٍ خافتٍ: "أنا مش مُهمّة، المُهمّ أخُوي احملوه وادفِنوه، إكرام الميِّت دفنه".
حرِصت أزهار على التأكد من دفن شقيقها في المكان الذي طلبه بجوار والده، قبل أن تواصل سيرها مشيًا على الأقدام، ملفوفةً ببطانيّةٍ بعدما احترقت ملابسها، حتى وصلت قسّم الاستقبال بمستشفى "المعمدانيّ"، والتقت هناك بطفلتها نور، قبل أن تفقد وعيها تمامًا.
استفاقة في العراء
في التاسع عشر من ديسمبر/ كانون الأول 2023، استفاقت أزهار من غيبوبتها التي استمرت أسبوعين، لكن لم تكنّ في غرفة العناية المركزة، بل وسط الشارع، حيثُ وجدت نفسها هناك دون أن تعي ما يدور حوّلها
في ذلك اليوم، كان مستشفى المعمدانيّ يعيش أصعب أوقاته، إذ اقتحمه جيش الاحتلال، واعتقل الأطباء والنساء والأطفال.
تقول أزهار: "اضطُر أطفالي على عجلٍ إلى حملي وإخراجي من غرفة العناية المركزة، وأنا ما زلت غائبة عن الوعي، وعند خروجنا أوقفنا جنود الاحتلال، فاحتجزوا زوجي وابني، ثم أمرونا بالمغادرة".
بقيت أزهار يومًا كاملًا في العراء، واستفاقت من غيبوتها وهي لا تعلم إلى أين تذهب، ولا كيف تتعامل مع الألم الجسديّ والنفسيّ الذي فاجأها لحظة استفاقتها.
اجتمعت أزهار مع عائلتها بعد إفراج قوات الاحتلال عن زوجها وابنها، ونزحت مرة أخرى إلى "معهد الأمل للأيتام"، حيثُ مكثت هناك لمدة شهرين، استكملت خلالهما علاجها في مستشفى الشفاء، قبل أن تعُود إلى مستشفى المعمدانيّ حيث يعمل زوجها، لكنّ مع الاجتياح البريّ لحيِّ الزيتون، اضطُرت للخروج مجددًا.
إصابة أزهار هذه لم تكن الأولى، إذ سبقتها إصابة طفيفة يوم السابع عشر من أكتوبر/ تشرين الثاني 2023، حين ارتكبت طائرات الاحتلال مجزرة بشعة في مستشفى المعمداني راح ضحيتها نحو 500 شهيد.
وتضيف "كان مشهدًا مُروَعًا. مشيتُ بين الأشلاء والدّماء، ورأيت عيونًا على الأرض، والرجال والنساء يصرخون".
رسالة النجاة
ورغم ما مرّت به، لم تتوقف أزهار عن حمل رسالتها، فبعد أن استعادت قوّتها الجسديّة والنفسيّة، وتنفيذًا لوصية شقيقها الشهيد، عادت إلى مستشفى المعمدانيّ، ليس كمريضةٍ، بل كداعمٍ نفسيٍّ، تُقدّم يد العون للذين فقدوا أحبّاءهم.
وتُقول: "أنا هنا لأمدّ يدي للجميع، لعلّي أكون أديت المهمة التي كلفني الله بها بأمان وسلام".
لم تكن كلمات أزهار مجرد تعبيرٍ عن الألم، بل شهادةٌ حيّة خرجت من قلبٍ ذاق الفقد وعاد للحياة. تُدرك أن جُرحها هو جُرح وطن، وأن الألم الذي تعيشه جزءٌ من معاناة شعب بأكمله.
وبإيمانٍ راسخ، تقول: "أعلم أن الفقد موجع، لكنّنا لم نختر هذه المحنة، بل اختارنا الله لنكون أقوى. كنت بين الشهداء، ظننت أنني رحلت معهم، لكن الله أحياني لأحمل رسالة: نحن لا نسقط، بل نقف رغم الألم".
غزة - آية صمامة - صفا
"أنتِ ماما؟!" تساؤلٌ خرج بصوتٍ مرتجفٍ من طفلتِها نُور، التي كانت تركض في ساحة مستشفى "المعمدانيّ" بمدينة غزَّة، تبحث بلهفةٍ عن والدتها، التي يخبرها قلبها أنها لم تمت، بعد أن ظنَّ الجميع أنها استُشهدت في قصفٍ إسرائيليٍّ قبل ثلاثة أيام.
بخطواتٍ مُتردّدةٍ، اقتربت نور من والدتِها، وعيناها تفيضان بالدُّموع، وكأنها لا تُصدّق ما تراهُ، ثم كرّرت السؤال بصوتٍ مذعورٍ، تنتظرُ الإجابة: "أنتِ ماما؟!".
لم تستطع أزهار الإجابة، فقد كان وجهها مُغطّى بالدّماء، وجسدُها منهكًا من الإصابة. هزّت رأسها بصعوبةٍ، فألقَت طفلتُها بنفسها في حضنِها، تَبكي بحرقةٍ، وكأنّها تُحاول تعويض الأيّام التي ظنّت أنها فقدتها فيها للأبد.
لكن فرحة اللقاء لم تدُم طويلًا؛ فسرعان ما فقدت أزهار وعيها، وسقطت أرضًا. "كان لقائي بأطفالي وزوجي معجزةً، لم أستطع نُطق أيّ كلمةٍ حينها، لكنّ حضنهم كان كل ما أحتاجه في تلك اللحظة"، تقول أزهار.
لقاء الصدمة
بصوتٍ يغمره رهبة الموقف، تروي أزهار حسنين (36 عامًا) أخصائية الدعم النفسيّ في وحدة الصحة النفسيّة بمستشفى "المعمدانيّ"، لوكالة "صفا"، تفاصيل يوم إصابتِها في الرابع من ديسمبر/ كانون الأول 2023، الذي وافق يوم ميلادها، وتحوّل إلى ذكرى مؤلمة.
وتقول: "كان من المفترض في ذلك اليوم أن يأتي شقيقي ليصطحبني وأولادي وزوجي إلى جنوبي قطاع غزَّة بعد احتفالنا بيوم ميلادي، لكن بشكل مفاجئ تعرّضت مدرسة صلاح الدين التي لجأنا إليها لقصفٍ عنيفٍ؛ فاستِشهد شقيقي وابنه، وأُصبت أنا".
تعرّضت أزهار لإصابةٍ خطرةٍ في وجهها، أدّت إلى انفصال الفك العلوي عن السفلي، مع فتحةٍ تمتدّ من أذنِها اليُسرى إلى سقف الحلق، ممّا أثّر بشكلٍ كبيرٍ على ملامح وجهِها، كما أُصيبت في قَدمِها وفقدَت العصب السّابع.
بعد الإصابة، لم يظهر عليها أيّ نبضٍ، وفقدت الوعي تمامًا، ما جعل الجميع يعتقدون أنّها استُشهِدت؛ فغطّوها ببطانيّةٍ ووضعوها بجانب جُثمان شقيقها وابنه، ثم خرجوا من المكان على أمل النَّجاة من القصف.
بين الحياة والموت
في اليوم الثالث من إصابتِها، استفاقَت أزهار وسط ألمِها، لتَجد نفسها مُستلقيةً بجوار جُثماني أخيها وابنِه، تُحاصرُها الدِّماء وأصوات الرصاص والصواريخ. لم تُفكّر في جِراحِها، بل في شقيقها الذي يجبُ أن يُكرّم بالدّفن.
وحين كانت عينا أزهار تبحثان عن بصيص أمل، جاء أشخاص يبحثون بين الرُّكام عن أحبّائهم وذَويهم؛ فما كان منها إلا أن رفعت يدها المُرتجِفة، وأشارت إليهم، وضربت بخفّةٍ على صدرِها، وكأنها تستجمع آخر ما تبقّى من قوّتها، وقالت بصوتٍ خافتٍ: "أنا مش مُهمّة، المُهمّ أخُوي احملوه وادفِنوه، إكرام الميِّت دفنه".
حرِصت أزهار على التأكد من دفن شقيقها في المكان الذي طلبه بجوار والده، قبل أن تواصل سيرها مشيًا على الأقدام، ملفوفةً ببطانيّةٍ بعدما احترقت ملابسها، حتى وصلت قسّم الاستقبال بمستشفى "المعمدانيّ"، والتقت هناك بطفلتها نور، قبل أن تفقد وعيها تمامًا.
استفاقة في العراء
في التاسع عشر من ديسمبر/ كانون الأول 2023، استفاقت أزهار من غيبوبتها التي استمرت أسبوعين، لكن لم تكنّ في غرفة العناية المركزة، بل وسط الشارع، حيثُ وجدت نفسها هناك دون أن تعي ما يدور حوّلها
في ذلك اليوم، كان مستشفى المعمدانيّ يعيش أصعب أوقاته، إذ اقتحمه جيش الاحتلال، واعتقل الأطباء والنساء والأطفال.
تقول أزهار: "اضطُر أطفالي على عجلٍ إلى حملي وإخراجي من غرفة العناية المركزة، وأنا ما زلت غائبة عن الوعي، وعند خروجنا أوقفنا جنود الاحتلال، فاحتجزوا زوجي وابني، ثم أمرونا بالمغادرة".
بقيت أزهار يومًا كاملًا في العراء، واستفاقت من غيبوتها وهي لا تعلم إلى أين تذهب، ولا كيف تتعامل مع الألم الجسديّ والنفسيّ الذي فاجأها لحظة استفاقتها.
اجتمعت أزهار مع عائلتها بعد إفراج قوات الاحتلال عن زوجها وابنها، ونزحت مرة أخرى إلى "معهد الأمل للأيتام"، حيثُ مكثت هناك لمدة شهرين، استكملت خلالهما علاجها في مستشفى الشفاء، قبل أن تعُود إلى مستشفى المعمدانيّ حيث يعمل زوجها، لكنّ مع الاجتياح البريّ لحيِّ الزيتون، اضطُرت للخروج مجددًا.
إصابة أزهار هذه لم تكن الأولى، إذ سبقتها إصابة طفيفة يوم السابع عشر من أكتوبر/ تشرين الثاني 2023، حين ارتكبت طائرات الاحتلال مجزرة بشعة في مستشفى المعمداني راح ضحيتها نحو 500 شهيد.
وتضيف "كان مشهدًا مُروَعًا. مشيتُ بين الأشلاء والدّماء، ورأيت عيونًا على الأرض، والرجال والنساء يصرخون".
رسالة النجاة
ورغم ما مرّت به، لم تتوقف أزهار عن حمل رسالتها، فبعد أن استعادت قوّتها الجسديّة والنفسيّة، وتنفيذًا لوصية شقيقها الشهيد، عادت إلى مستشفى المعمدانيّ، ليس كمريضةٍ، بل كداعمٍ نفسيٍّ، تُقدّم يد العون للذين فقدوا أحبّاءهم.
وتُقول: "أنا هنا لأمدّ يدي للجميع، لعلّي أكون أديت المهمة التي كلفني الله بها بأمان وسلام".
لم تكن كلمات أزهار مجرد تعبيرٍ عن الألم، بل شهادةٌ حيّة خرجت من قلبٍ ذاق الفقد وعاد للحياة. تُدرك أن جُرحها هو جُرح وطن، وأن الألم الذي تعيشه جزءٌ من معاناة شعب بأكمله.
وبإيمانٍ راسخ، تقول: "أعلم أن الفقد موجع، لكنّنا لم نختر هذه المحنة، بل اختارنا الله لنكون أقوى. كنت بين الشهداء، ظننت أنني رحلت معهم، لكن الله أحياني لأحمل رسالة: نحن لا نسقط، بل نقف رغم الألم".