“إسرائيل” إذ تحاول إعادة تشكيل المنطقة جيوسياسياً
أسامة أبو ارشيد
كما هو الحال في قطاع غزّة، لا ينبغي قراءة التصعيد الإسرائيلي الراهن على الجبهة الشمالية مع لبنان إلّا ضمن سياق محاولات الدولة العبرية إعادة تشكيل المنطقة برمّتها جيوسياسياً. بمعنى أنّ حصر حدود القراءة والتحليل بسعي إسرائيل إلى إعادة تشكيل بيئتها الجيوسياسية المباشرة فحسب لن يكون أمراً دقيقاً، وسيقود إلى استنتاجاتٍ ومقارباتٍ خاطئةٍ في التعامل معه. وللأسف، يبدو أنّ أطرافاً إقليمية عربية إمّا أنّها لا تستوعب حقيقة ما يجري، وهذا مُستبعَد، أو أنّها تتجاهله مُتعمّدةً، سواء نتيجة ما تراه ضعفاً بنيوياً في إمكاناتها، أم لأنّ ذلك يخدم بعض حساباتها الضيّقة المنطلقة من اعتبارات أيديولوجية أو سياسية، ككراهة تيّارات “الإسلام السياسي”، وما يندرج تحت لافتة “قوى الممانعة” في المنطقة. ما يثير الانتباه هنا أنّ تلك الدول العربية تبدو غير مكترثة بالاعتراف بأنّ نصراً إسرائيلياً مدوّياً في معركتها مع المقاومتَين الفلسطينية واللبنانية، وأذرع المحور الإيراني في المنطقة، سينصّبها (إسرائيل) سيّداً مطلقاً فيها، وأنّهم لن يُعطوا فيها أكثر من دور التابع الهامشي الذي يُحدَّد دورُه ونفوذُه بناءً على ما يُراد منه (ويتاح له) إسرائيلياً وأميركياً.
استشرفت بواكير مخطّطات بعض القوى الغربية الكُبرى لإنشاء كيان يهودي صهيوني في فلسطين دولةً وظيفيةً، تكون بمثابة قاعدة عسكرية مُتقدّمة يناط بها الحفاظ على تَمَزُّقُ المنطقة العربية وبقائها منهكةً ومستنزفةً. وبغضّ النظر عن النفوذ الهائل الذي راكمته إسرائيل في مدى العقود الماضية في الدول الراعية لها، وتحديداً في الولايات المتّحدة وبريطانيا وفرنسا وألمانيا، فإنّها تبقى كياناً غير قابلٍ للحياة والاستمرار من دون الحَبْل السُّرِّيِّ مع أوروبا وأميركا. صحيحٌ أنّ القدرات العسكرية والاستخباراتية والتكنولوجية والاقتصادية الإسرائيلية الراهنة هائلةٌ، لكن إسرائيل تبقى جزيرةً معزولةً في محيطٍ معادٍ لها لم يقبل يوماً هضمها وتطبيعها. تدرك الدولة العبرية ذلك، كما يدركه رعاتها الأوروبيون والأميركيون، ومن ثمَّ فقد عملوا دائماً على تعزيز قدراتها وضمان أمنها ووجودها، وتطويع بيئتها الجيوسياسية، سواء أكان ذلك عبر القوّة الصلبة، كما في المسِّ بقدرات خصومها عسكرياً أو تدميرها، كمصر والعراق وإيران، أم عبر القوّة الناعمة، كاتفاقات الغَرَر الموسومة، زوراً وبهتاناً، باتفاقات سلام، التي تهدف بالدرجة الأولى إلى تحييد أطرافها العربية من معادلة الصراع.
تمثّلت آخر جولات المحاولات الأميركية تطبيع إسرائيل في المنطقة، وجعلها مركزها، في إغواء مزيد من الدول العربية للقفز في قطار الإذعان (السلام!) لتلحق بمن سبق، بدءاً بمصر، فمنظّمة التحرير الفلسطينية، فالأردن. ثمَّ انفرط العقد لينضمّ ركّابٌ جددٌ عام 2020، عبر ما عرف بـ”اتفاقات أبراهام”، فكانت الإمارات أولاً، ثمَّ البحرين، فالمغرب، فالسودان. ومع تأكيد العقيدتَين الاستراتيجية والدفاعية الأميركيتَين الصادرتَين عام 2022 أنّ الصين هي “الخصم الجيوسياسي الأبرز للولايات المتّحدة”، وأنّ منطقة المحيطَين الهادئ والهندي هي المنطقة الأكثر أهمّية جيوسياسياً عالمياً، سعت واشنطن إلى طمأنة “حلفائها” من العرب في منطقة الشرق الأوسط بأنّها لن تتركهم “نهباً” لإيران ووكلائها في الإقليم. وهكذا، كان أن سعت إدارة جو بايدن إلى تجديد جهود إدارة سلفها دونالد ترامب في “اتفاقات أبراهام”، وحُدّدت السعودية لتكون بمثابة “الجائزة الكبرى” إن نجحت جهود استلحاقها بمن سبقها من ركّاب قطار التطبيع، أو الغَرَرِ أو الإذعان أو السلام، سمّه ما شئت. حينها كانت الذريعة الأميركية أنّ إسرائيل تمثّل بيضة القبّان عسكرياً للتصدي للنفوذ الإيراني المتنامي في المنطقة. ثمَّ أضيف بُعد اقتصادي في الحسابات الأميركية، وتمَّ التوافق عليه في قمّة العشرين، المعقودة في شهر سبتمبر/ أيلول 2023، في العاصمة الهندية نيودلهي، تمثّل في السعي لإنشاء ممرّ اقتصادي، بدءاً من الهند، مروراً ببعض دول “الشرق الأوسط”، ووصولاً إلى أوروبا، بهدف منافسة خطوط التوريد الصينية، وقطع الطريق على المشروع الصيني الاقتصادي العالمي الضخم المعروف بـ”مبادرة الحزام والطريق”. المهمّ هنا، أنّ القضية والحقوق الفلسطينية همّشت كلياً في تلك المخطّطات.
إلّا أنّ شنَّ حركة حماس عملية طوفان الأقصى في 7 أكتوبر (2023)، قلب المعادلات والموازين رأساً على عقب. فجأةً بدت إسرائيل، القوّة العسكرية الإقليمية الكبرى، هشَّة ومتداعية، وبدأت تثار شكوك حول موثوقيتها وقدرتها في معادلة إيران ومحورها في الإقليم واحتوائه. هنا تدخّلت الولايات المتّحدة، من ناحية لردع أيّ قوىً إقليمية قد تفكّر في استغلال فرصة ترنّح إسرائيل، ومن ناحية ثانية لإعادة ترميم قوّة الردع الإسرائيلية، وصورتها القوية المُتخيَّلة عند حلفائها العرب، دع عنك إفساح المجال أمامها للاستفراد بقطاع غزّة في حرب إبادة وحشية تشنّها من دون هوادة منذ قرابة العام. لكنّ هدف “الردع” الأميركي لم يأت أُكُلَه كاملاً، فقد دخل حزب الله اللبناني والحوثيون في اليمن وبعض الفصائل الشيعية في العراق (وكلّهم جزء من المحور الإيراني) في خطّ إسناد غزّة، وهو وإن كان دون مستوى “وحدة الساحات”، إلّا أنّه نجح في مشاغلة إسرائيل والولايات المتّحدة وحلفائها، بما في ذلك في البحر الأحمر.
عند هذه النقطة، بدأنا نشهد تبايناً أميركياً إسرائيلياً في الحسابات. بدأت واشنطن تروّج فكرةَ أن تستغلّ إسرائيل ما عدّته (واشنطن) نجاحاً لها في “ترميم الردع”، وتعزيز ما راكمته في مدى أشهر بدعم أميركي وغربي، والقبول باتفاق وقف إطلاق نارٍ في قطاع غزّة وتبادل الأسرى، في مقابل تطبيع مع السعودية، ووضع ترتيبات “اليوم التالي” في القطاع، تستثني “حماس” وقوى المقاومة الفلسطينية الأخرى. إلّا أنّ حكومة بنيامين نتنياهو رفضت النصائح الأميركية كلّها، واستمرّت في عدوانها، إلّا أن الخلافات مع إدارة بايدن لا تُفسِد، لاستمرار تزويدها بالسلاح ولأشكال الدعم المطلق كلّها، قضيةً. ما يهمنا هنا، هو ألّا تباين ولا خلافَ بين واشنطن وتلّ أبيب بشّأن مسألة إعادة تشكيل البيئة الجيوسياسية في المنطقة بما يخدم مصالحهما، إلّا أنّ إدارة بايدن ترى أنّ كثيراً من ذلك تحقّق عبر “ردع” إيران، التي ضبطت نفسها ذاتياً، وعبر استعداد مزيد من العرب للالتحاق بالمركزية الإسرائيلية في المنطقة، وللعمل معها على هزيمة أعدائها. في حين يصرّ نتنياهو على أنّ فرصة القضاء على “حماس” وحزب الله، أو على الأقلّ تقويض قدراتهما، فرصةٌ لا تُعوَّض، وستكون لها تداعيات على مساعي تقليم أظافر إيران في الإقليم.
عودة إلى بعض الأطراف الرسمية العربية، التي تتغاضى عن خطورة ما تخطّط له أميركياً وإسرائيلياً في المنطقة، وتصر على أن تتعامى عن أنّ نجاح واشنطن وتلّ أبيب في تحقيق ما يسعيان إليه لن يجعل منهم حلفاء، وإنّما تابعين أذلّاء، فهم أحبّوا أم كرهوا يُنظَر إليهم أنّهم في خندق المهزومين لا المنتصرين. ينطبق الأمر نفسه على بعض القوى والتيّارات السياسية والفكرية والشعبية، التي لا يكتفي بعضها بإظهار الشماتة بالضربات التي تلقّاها حزب الله إسرائيلياً جرّاء جرائمه في سورية، بل إنّ بعضهم لا يُخفِي تمنّياته بأن تنتصر إسرائيل، وكأنّ هذه الأخيرة حمل وديع لم يُجرم ماضياً، ولا يُجرم حاضراً، ولن يُجرم مستقبلاً بحقهم وحقّ العرب جميعاً! من العار أنّ العرب لا يملكون مشروعاً خاصّاً بهم، ومن ثمَّ تبتزّهم أطراف عدّة، إمّا بذريعة البعبع الإيراني، أو الإسرائيلي، أو التركي.
على الرغم من أنّ الولايات المتّحدة وإسرائيل يلقيان بثقلهما كلّه لإعادة تشكيل المنطقة جيوسياسياً، لتصفية أيّ عناصر رافضة للارتهان والهزيمة فيها، إلا أنّ نجاح هذه المساعي أمر آخر، بل إنّ تاريخ المنطقة ينبئنا بأنّ فشلها هو الأرجح.
أسامة أبو ارشيد
كما هو الحال في قطاع غزّة، لا ينبغي قراءة التصعيد الإسرائيلي الراهن على الجبهة الشمالية مع لبنان إلّا ضمن سياق محاولات الدولة العبرية إعادة تشكيل المنطقة برمّتها جيوسياسياً. بمعنى أنّ حصر حدود القراءة والتحليل بسعي إسرائيل إلى إعادة تشكيل بيئتها الجيوسياسية المباشرة فحسب لن يكون أمراً دقيقاً، وسيقود إلى استنتاجاتٍ ومقارباتٍ خاطئةٍ في التعامل معه. وللأسف، يبدو أنّ أطرافاً إقليمية عربية إمّا أنّها لا تستوعب حقيقة ما يجري، وهذا مُستبعَد، أو أنّها تتجاهله مُتعمّدةً، سواء نتيجة ما تراه ضعفاً بنيوياً في إمكاناتها، أم لأنّ ذلك يخدم بعض حساباتها الضيّقة المنطلقة من اعتبارات أيديولوجية أو سياسية، ككراهة تيّارات “الإسلام السياسي”، وما يندرج تحت لافتة “قوى الممانعة” في المنطقة. ما يثير الانتباه هنا أنّ تلك الدول العربية تبدو غير مكترثة بالاعتراف بأنّ نصراً إسرائيلياً مدوّياً في معركتها مع المقاومتَين الفلسطينية واللبنانية، وأذرع المحور الإيراني في المنطقة، سينصّبها (إسرائيل) سيّداً مطلقاً فيها، وأنّهم لن يُعطوا فيها أكثر من دور التابع الهامشي الذي يُحدَّد دورُه ونفوذُه بناءً على ما يُراد منه (ويتاح له) إسرائيلياً وأميركياً.
استشرفت بواكير مخطّطات بعض القوى الغربية الكُبرى لإنشاء كيان يهودي صهيوني في فلسطين دولةً وظيفيةً، تكون بمثابة قاعدة عسكرية مُتقدّمة يناط بها الحفاظ على تَمَزُّقُ المنطقة العربية وبقائها منهكةً ومستنزفةً. وبغضّ النظر عن النفوذ الهائل الذي راكمته إسرائيل في مدى العقود الماضية في الدول الراعية لها، وتحديداً في الولايات المتّحدة وبريطانيا وفرنسا وألمانيا، فإنّها تبقى كياناً غير قابلٍ للحياة والاستمرار من دون الحَبْل السُّرِّيِّ مع أوروبا وأميركا. صحيحٌ أنّ القدرات العسكرية والاستخباراتية والتكنولوجية والاقتصادية الإسرائيلية الراهنة هائلةٌ، لكن إسرائيل تبقى جزيرةً معزولةً في محيطٍ معادٍ لها لم يقبل يوماً هضمها وتطبيعها. تدرك الدولة العبرية ذلك، كما يدركه رعاتها الأوروبيون والأميركيون، ومن ثمَّ فقد عملوا دائماً على تعزيز قدراتها وضمان أمنها ووجودها، وتطويع بيئتها الجيوسياسية، سواء أكان ذلك عبر القوّة الصلبة، كما في المسِّ بقدرات خصومها عسكرياً أو تدميرها، كمصر والعراق وإيران، أم عبر القوّة الناعمة، كاتفاقات الغَرَر الموسومة، زوراً وبهتاناً، باتفاقات سلام، التي تهدف بالدرجة الأولى إلى تحييد أطرافها العربية من معادلة الصراع.
تمثّلت آخر جولات المحاولات الأميركية تطبيع إسرائيل في المنطقة، وجعلها مركزها، في إغواء مزيد من الدول العربية للقفز في قطار الإذعان (السلام!) لتلحق بمن سبق، بدءاً بمصر، فمنظّمة التحرير الفلسطينية، فالأردن. ثمَّ انفرط العقد لينضمّ ركّابٌ جددٌ عام 2020، عبر ما عرف بـ”اتفاقات أبراهام”، فكانت الإمارات أولاً، ثمَّ البحرين، فالمغرب، فالسودان. ومع تأكيد العقيدتَين الاستراتيجية والدفاعية الأميركيتَين الصادرتَين عام 2022 أنّ الصين هي “الخصم الجيوسياسي الأبرز للولايات المتّحدة”، وأنّ منطقة المحيطَين الهادئ والهندي هي المنطقة الأكثر أهمّية جيوسياسياً عالمياً، سعت واشنطن إلى طمأنة “حلفائها” من العرب في منطقة الشرق الأوسط بأنّها لن تتركهم “نهباً” لإيران ووكلائها في الإقليم. وهكذا، كان أن سعت إدارة جو بايدن إلى تجديد جهود إدارة سلفها دونالد ترامب في “اتفاقات أبراهام”، وحُدّدت السعودية لتكون بمثابة “الجائزة الكبرى” إن نجحت جهود استلحاقها بمن سبقها من ركّاب قطار التطبيع، أو الغَرَرِ أو الإذعان أو السلام، سمّه ما شئت. حينها كانت الذريعة الأميركية أنّ إسرائيل تمثّل بيضة القبّان عسكرياً للتصدي للنفوذ الإيراني المتنامي في المنطقة. ثمَّ أضيف بُعد اقتصادي في الحسابات الأميركية، وتمَّ التوافق عليه في قمّة العشرين، المعقودة في شهر سبتمبر/ أيلول 2023، في العاصمة الهندية نيودلهي، تمثّل في السعي لإنشاء ممرّ اقتصادي، بدءاً من الهند، مروراً ببعض دول “الشرق الأوسط”، ووصولاً إلى أوروبا، بهدف منافسة خطوط التوريد الصينية، وقطع الطريق على المشروع الصيني الاقتصادي العالمي الضخم المعروف بـ”مبادرة الحزام والطريق”. المهمّ هنا، أنّ القضية والحقوق الفلسطينية همّشت كلياً في تلك المخطّطات.
إلّا أنّ شنَّ حركة حماس عملية طوفان الأقصى في 7 أكتوبر (2023)، قلب المعادلات والموازين رأساً على عقب. فجأةً بدت إسرائيل، القوّة العسكرية الإقليمية الكبرى، هشَّة ومتداعية، وبدأت تثار شكوك حول موثوقيتها وقدرتها في معادلة إيران ومحورها في الإقليم واحتوائه. هنا تدخّلت الولايات المتّحدة، من ناحية لردع أيّ قوىً إقليمية قد تفكّر في استغلال فرصة ترنّح إسرائيل، ومن ناحية ثانية لإعادة ترميم قوّة الردع الإسرائيلية، وصورتها القوية المُتخيَّلة عند حلفائها العرب، دع عنك إفساح المجال أمامها للاستفراد بقطاع غزّة في حرب إبادة وحشية تشنّها من دون هوادة منذ قرابة العام. لكنّ هدف “الردع” الأميركي لم يأت أُكُلَه كاملاً، فقد دخل حزب الله اللبناني والحوثيون في اليمن وبعض الفصائل الشيعية في العراق (وكلّهم جزء من المحور الإيراني) في خطّ إسناد غزّة، وهو وإن كان دون مستوى “وحدة الساحات”، إلّا أنّه نجح في مشاغلة إسرائيل والولايات المتّحدة وحلفائها، بما في ذلك في البحر الأحمر.
عند هذه النقطة، بدأنا نشهد تبايناً أميركياً إسرائيلياً في الحسابات. بدأت واشنطن تروّج فكرةَ أن تستغلّ إسرائيل ما عدّته (واشنطن) نجاحاً لها في “ترميم الردع”، وتعزيز ما راكمته في مدى أشهر بدعم أميركي وغربي، والقبول باتفاق وقف إطلاق نارٍ في قطاع غزّة وتبادل الأسرى، في مقابل تطبيع مع السعودية، ووضع ترتيبات “اليوم التالي” في القطاع، تستثني “حماس” وقوى المقاومة الفلسطينية الأخرى. إلّا أنّ حكومة بنيامين نتنياهو رفضت النصائح الأميركية كلّها، واستمرّت في عدوانها، إلّا أن الخلافات مع إدارة بايدن لا تُفسِد، لاستمرار تزويدها بالسلاح ولأشكال الدعم المطلق كلّها، قضيةً. ما يهمنا هنا، هو ألّا تباين ولا خلافَ بين واشنطن وتلّ أبيب بشّأن مسألة إعادة تشكيل البيئة الجيوسياسية في المنطقة بما يخدم مصالحهما، إلّا أنّ إدارة بايدن ترى أنّ كثيراً من ذلك تحقّق عبر “ردع” إيران، التي ضبطت نفسها ذاتياً، وعبر استعداد مزيد من العرب للالتحاق بالمركزية الإسرائيلية في المنطقة، وللعمل معها على هزيمة أعدائها. في حين يصرّ نتنياهو على أنّ فرصة القضاء على “حماس” وحزب الله، أو على الأقلّ تقويض قدراتهما، فرصةٌ لا تُعوَّض، وستكون لها تداعيات على مساعي تقليم أظافر إيران في الإقليم.
عودة إلى بعض الأطراف الرسمية العربية، التي تتغاضى عن خطورة ما تخطّط له أميركياً وإسرائيلياً في المنطقة، وتصر على أن تتعامى عن أنّ نجاح واشنطن وتلّ أبيب في تحقيق ما يسعيان إليه لن يجعل منهم حلفاء، وإنّما تابعين أذلّاء، فهم أحبّوا أم كرهوا يُنظَر إليهم أنّهم في خندق المهزومين لا المنتصرين. ينطبق الأمر نفسه على بعض القوى والتيّارات السياسية والفكرية والشعبية، التي لا يكتفي بعضها بإظهار الشماتة بالضربات التي تلقّاها حزب الله إسرائيلياً جرّاء جرائمه في سورية، بل إنّ بعضهم لا يُخفِي تمنّياته بأن تنتصر إسرائيل، وكأنّ هذه الأخيرة حمل وديع لم يُجرم ماضياً، ولا يُجرم حاضراً، ولن يُجرم مستقبلاً بحقهم وحقّ العرب جميعاً! من العار أنّ العرب لا يملكون مشروعاً خاصّاً بهم، ومن ثمَّ تبتزّهم أطراف عدّة، إمّا بذريعة البعبع الإيراني، أو الإسرائيلي، أو التركي.
على الرغم من أنّ الولايات المتّحدة وإسرائيل يلقيان بثقلهما كلّه لإعادة تشكيل المنطقة جيوسياسياً، لتصفية أيّ عناصر رافضة للارتهان والهزيمة فيها، إلا أنّ نجاح هذه المساعي أمر آخر، بل إنّ تاريخ المنطقة ينبئنا بأنّ فشلها هو الأرجح.