الطبيب الشهيد عبد الله أبو التين.. فكّ اللغز وأدهش الفلسطينيين

  • الأربعاء 19, أكتوبر 2022 01:39 م
  • الطبيب الشهيد عبد الله أبو التين.. فكّ اللغز وأدهش الفلسطينيين
ممتشقًا سلاحه، يستبدل ثوب الطب الأبيض بلثامه الأسود، ملبيًا "حي على الجهاد"، وكالبرق ينطلق لميدان المواجهة، يوجع المحتل، ويمضي ليله مرابطًا مع المقاومين في مخيم جنين، لا يعرفه سوى قلة قليلة منهم، فقد عمل بسرية كبيرة، ودعمهم معنويًا وماديًا بشهادة رفاقه بالميدان.
الطبيب الشهيد عبد الله أبو التين.. فكّ اللغز وأدهش الفلسطينيين برحيله
جنين – وكالة سند للأنباء - علا مرشود
ممتشقًا سلاحه، يستبدل ثوب الطب الأبيض بلثامه الأسود، ملبيًا "حي على الجهاد"، وكالبرق ينطلق لميدان المواجهة، يوجع المحتل، ويمضي ليله مرابطًا مع المقاومين في مخيم جنين، لا يعرفه سوى قلة قليلة منهم، فقد عمل بسرية كبيرة، ودعمهم معنويًا وماديًا بشهادة رفاقه بالميدان.
تفاصيل تكشفت بعد أن ارتقى الطبيب عبد الله أبو التين من جنين شمال الضفة الغربية، برصاص قناص إسرائيلي، استهدفه وهو مشتبك مع قوات الاحتلال التي اقتحمت مخيم جنين يوم الجمعة 14 تشرين الأول/ أكتوبر.
وشهيدنا، وحيد أمه، التي لا تزال حتى اليوم تعيش صدمة الفراق، وأب لطفلين ودعهما في آخر لحظاته عندما سأله طفله "زين":"بابا وين رايح" فيجيبه "رايح أطخ عالجيش"، وزوج لفتاة سكن قلبها وكان كل شيء لها.
بصوت مرتعش من شدة الحزن تبدأ والدة الشهيد حديثها لمراسلة "وكالة سند للأنباء": "كان يعتني بي كالملكة، كان يسميني أم جبل، لكن الجبل انهار"، تحمد الله على شهادته مضيفةً: "بكل فخر توجني عبد الله كالملكة بالدنيا والآخرة".
وكان خبر التحاق "عبد الله" في صفوف المقاومة مفاجئًا لأمه، كما كان مفاجئًا وصادمًا لزملائه الذين كشفوا اللثام عن وجهه في المستشفى لحظة وصوله مصابًا.
إلا أن مقاومة الاحتلال لم تكن الحقيقة الوحيدة التي أخفاها "عبد الله" عن عائلته وكل من يعرفه، بل إن استشهاده كشف أمورًا كثيرة، من ضمنها كفالته لأطفال أيتام في مدينة نابلس، كان قد دوّن أسمائهم لزوجته قبل استشهاده.
كما كان الطبيب المشتبك، طبيب الفقراء، فكان زملاءه يمازحوه بالقول: "ضربت سمعة الطب لما تقوم به من علاج المرضى والفقراء مجانًا".
أما الأم الثكلى، فكانت دائمة السؤال لوحيدها عن سبب خروجه ليلًا، وهو يبرر لها بضرورة توجهه للمستشفى لوجود جرحى.
وتسرد لنا: "كنت أقول له: كل الأطباء ينامون في منازلهم مع أطفالهم وعائلتهم لماذا أنت؟ فيجيبني: لأن هذا من أجل الوطن وأنا لست كغيري".
تشرد بذهنها قليلًا ثم تتابع: "اكتشفت بعد استشهاده أنه كان يسهر في الليل مع المقاومين والمطاردين في المخيم، ويشتبك مع الاحتلال خلال الاقتحامات".
وبصوت منكسر وحزين تعدد أنصار كميل زوجة الشهيد "عبدالله" مناقبه وتحدثنا عن حبهما وتعلقها به، وهي التي وعدته أن تلازمه حتى الممات، وتصف ما يختلج قلبها من حزن بالقول: "أشعر بأن الدنيا مظلمة وقلبي مليء بالسواد، الفقد صعب جدًا، لا يوجد أصعب من أن تفقد المرأة زوجها وشريك حياتها".
ولا تنسى "أنصار" علاقة "عبدالله" بأطفاله وحبه الشديد لهما مردفةً: "كان كالطفل الصغير عندما يلعب مع أطفاله، يشتري لهم السيارة ويلعب بها قبلهم، وإذا حبوا يحبو معهم (..) يُشاركهم أبسط التفاصيل حتى يرى الضحكة على ملامحهم".
عاشت "أنصار" منذ طفولتها حياة منغصة بظلم وقهر الاحتلال، فهي ابنة الأسير المحرر أبو العوض كميل الذي أمضى في سجون الاحتلال 23 عاماً، وقد وُلدت خلال وجود والدها في السجن، حيث كان يقبع آنذاك في سجن النقب، وسميت بهذا الاسم نسبة إلى معتقل "أنصار".
تفاصيل يوم الشهادة..
عن يوم استشهاد زوجها تروي لمراسلة "وكالة سند للأنباء": "في كل جمعة ينام عبدالله حتى الظهر، لأنه يوم عطلة، إلا في الجمعة الأخيرة التي ارتقى فيها، فعلى الرغم من أنه لم يمض على نومه سوى لحظات قليلة إلا أنه استيقظ وهمّ بالخروج".
حاولت "أنصار" في البداية منعه من الخروج، لأن المخيم مليء بجيش الاحتلال والأوضاع تزداد سوءًا، لكنّ "عبدالله" رفض البقاء في المنزل، تُكمل: "على غير العادة لم أعانده، وتركته يفعل ما يُحبّ، ودعته وكللته بدعوات التوفيق والرعاية".
وفي لحظاته الأخير بمنزله، سأله طفله "زين": "بابا وين رايح؟" فأجابه "عبد الله" بابتسامة خفيفة: "رايح أطخ عالجيش حبيبي"، ولوّح بيده ثم خرج وعاد محملًا على الأكتاف.
عن ذلك تخبرنا "أنصار": "سمعت من الأقارب يتناقلون خبر إصابة عبدالله من النافذة ثم سمعت حماتي تصرخ، عرفت حينها أنني أصبحت وحدي في هذا العالم، حتى نسيت أن لي أبناء (..) شيء ما جعلني أشعر أنه ذهب ولن يعود، من هول الصدمة خارت قواي وعندما دُق الباب فتحته زاحفة".
الطريق إلى المستشفى لا يحتاج سوى دقائق معدودة، لكنّه في حسابات "أنصار" كان بمقدار "عمرها كُله" كما تقول.
دخلت زوجة الشهيد إلى الغرفة التي كان الأطباء يحاولون إسعافه فيها، رأت إصابته البليغة حيث دخلت الرصاصة من عينه وخرجت من خلف رأسه، تيقنت حينها أن "الوداع قد حلّ ولا مفر منه".
لم تتمكن "أنصار" من حبس دموعها أثناء الحديث عن تلك اللحظات التي لا يسعها شعور من قسوتها، تمالكت نفسها قليلًا ثم وصفته: "يده كالحرير، رائحته مسك، كان يُحبّ العطِر، لكن رائحته عند الشهادة أجمل من كل روائح العطور التي اشتراها في حياته".
رحل "عبد الله"، تاركًا ذكرى جميلة لا ينساها كل من عرفه بخفة ظله وروحه الجميلة، وتعامله الراقي مع كل زملائه الأطباء الذي ارتبط بهم بعلاقات وطيدة جدًا، جعلهم يلتفون حوله حتى في آخر لحظاته في المستشفى.
وعن وداع زملائه له، تتحدث زوجته عن المشهد: "كان الأطباء يملؤون الغرفة، اجتمع كل الطاقم وكانوا يبكون، ومذهولين".
أما زميله الطبيب وسام بكر فيقول: "عبدالله كان مثالًا للإنسان الفلسطيني الحقيقي، الإنسان الذي له مهنة وله منصب مرموق ولكنه ثائر يحمل البندقية ويعمل في النهار ويقاتل في الليل".