مقال:

أوهام في العمل الفلسطيني بقلم: أ. د. محسن محمد صالح

مقالات وأبحاث منقولة

  • الإثنين 26, يوليو 2021 03:30 م
  • أوهام في العمل الفلسطيني   بقلم: أ. د. محسن محمد صالح
ناقشنا في مقالين سابقين خمسة أوهام متعلقة بالعمل الفلسطيني، ونتابع في هذا المقال ثلاثة أوهام أخرى

وهم تحرير فلسطين دون مقاومة مسلحة

ربما لم تكن هذه المقولة لتكون محل نقاش لولا تبني القيادة الفلسطينية والبلدان العربية والإسلامية لمسار التسوية السلمية، ودخول اتفاقية أوسلو حيز التنفيذ أواخر 1993.

ويعود جانب من الوهم إلى أن فلسطين نفسها قد أعيد تعريفها لدى هؤلاء ولدى ما يسمى المجتمع الدولي، فأصبحت مقتصرة على الضفة الغربية وقطاع غزة أو فلسطين المحتلة سنة 1967، أي نحو 23 في المئة من فلسطين التاريخية؛ وأصبح موضوع "التحرير" مقتصراً عليها؛ بينما تمّ تجاهل معظم أرض فلسطين أو فلسطين المحتلة سنة 1948 التي قام عليها الكيان الصهيوني. وبالتالي، أصبح خروج الاحتلال الإسرائيلي من الضفة والقطاع مرتبطاً بمسار التسوية السلمية، وليس بالكفاح المسلح. كما أن ثمة من يراهن على المقاومة السلمية الشعبية، والعمل الديبلوماسي والضغط الدولي، وأدوات التعبئة والتوعية.

غير أنه بشكل عام، فإن مشاريع التحرير ضدّ الاستعمار ارتبطت أساساً بالمقاومة المسلحة، أو بتحويل بقاء المستعمر إلى حالة خسارة واستنزاف مستمر وخصوصاً في أمنه واقتصاده وموارده البشرية، بحيث تصبح التكاليف أعلى من المكاسب المحتملة، وهو ما لا يتم عادة دون مقاومة مسلحة.

وإذا وضعنا تحرير فلسطين في إطارها الصحيح، أي تحريرها كاملة من نهرها إلى بحرها، فإن موضوع التحرير سيتعدّى الضفة والقطاع إلى فلسطين المحتلة 1948، وبالتالي، يعود تعريف الصراع مع العدو إلى أنه "معركة وجود وليس معركة حدود". وهو ما يعني تطوير الإمكانات العسكرية والانتفاضية إلى مستوى مكافئ لمستوى إزالة الكيان، وليس مجرد إعادة تموضعه، أو انسحابه من أجزاء من الأرض.

وقد أثبتت مسيرة "النضال السلمي" في الثلاثين عاماً الماضية أن الكيان الصهيوني، لم ينسحب من فلسطين المحتلة 1967؛ وقام فقط بإعادة تموضعه التكتيكي، فانسحب من قطاع غزة وأبقاه تحت الحصار، بينما احتفظ بهيمنته على الضفة الغربية، باعتبارها أرضاً متنازعاً عليها، واحتفظ بالإدارة الكاملة والمباشرة لنحو 61 في المئة من أرضها، وضاعف وجوده الاستيطاني والتهويدي، وسمح بسلطة فلسطينية وظيفية، تريحه من إدارة السكان ومطاردة المقاومة. أي أنه ثبت بالتجربة المريرة أن إجباره على الانسحاب من الضفة الغربية ورفع الحصار عن غزة، يتطلب مقاومة مسلحة وانتفاضة شاملة، فكيف بتحرير فلسطين كلها؟!

من ناحية ثانية، فإن المشروع الصهيوني ليس مجرد استعمار تقليدي، بل هو استعمار استيطاني إحلالي توسعي عدواني، قائم على مقولات دينية وتاريخية، وتدعمه قوى كبرى ذات مصالح استراتيجية وتتقاطع معه في خلفياتها الدينية والثقافية، وهي تدرك مدى الظلم والمعاناة التي تتسبب بها للشعب الفلسطيني. وبالتالي، فالتعامل مع هكذا احتلال غير مرتبط بنقاشات موضوعية وطرق إقناع، وإنما بـ"انتزاع" الحق انتزاعاً، بعمل جوهره المقاومة المسلحة. أما الأنشطة السياسية والديبلوماسية وحملات الدعاية والتعبئة فهي أنشطة مساندة مهمة، تدعم جوهر العمل (أي المقاومة المسلحة) ولكن لا تحلّ محلَّه، فإذا ذهب الجوهر فإنها تفقد جدواها.

ولذلك، فإن مشروع التحرير ارتبط طوال تاريخه بالمقاومة المسلحة، وهو ما قامت على أساسه الثورة الفلسطينية، وما نصّ عليه الميثاق القومي والميثاق الوطني لمنظمة التحرير الفلسطينية من أن الكفاح المسلح هو الطريق الوحيد لتحرير فلسطين. وحتى عندما جرى تعديله في برنامج النقاط العشر سنة 1974، فقد ظلّ النص على أنّ الكفاح المسلح طريق رئيسي لتحرير فلسطين.

وحتى في الرؤية الإسلامية، فإنّ إنهاء المشروع اليهودي الصهيوني مرتبط بـ"التتبير"، وهو معنى يفهم منه أنّ صراعاً طاحناً سيؤدّي إلى تدمير ما أقاموه وبنوه؛ وهو عمل لا يتم إلا بالمقاومة المسلحة.

* * *

الوهم السابع هو قيادة المشروع الوطني بقيادة متنازلة عن الوطن!!

وهذا من عجائب التاريخ الفلسطيني والتجربة الفلسطينية.

هذه القيادة التي تنازلت "رسميّاً" عن أكثر من ثلاثة أرباع فلسطين في اتفاقيات أوسلو، و"شرعنت" ذلك في اجتماعات "مفبركة" للمجلس الوطني في 1996 و1998؛ أدارت بطريقة بائسة ومفجعة حتى "معركة" إنشاء الدولة الفلسطينية على ما تبقى من فلسطين. ورضيت بأن تكون منزوعة السلاح، ودون جيش، وبتبادل الأراضي. كما يتحدث كثير من قادتها في لقاءاتهم الخاصة، عن التنازل عملياً عن حق العودة في نهاية المطاف، باعتباره متطلباً "إسرائيلياً" أساسياً لإنشاء الدولة.

لم تلتزم هذه القيادة ببرنامج النقاط العشر الذي يتيح لها إنشاء السلطة الوطنية "المقاتلة" على أي جزء يتم تحريره من فلسطين؛ ولم تلتزم بما يسمى "البرنامج المرحلي" ولا بمتطلباته. وأثبتت للعدو أنها قابلة للضغط و"الطرق والسحب"، واستخدم العدو تسويته السلمية معها غطاءً لتهويد ما تبقى من فلسطين. وهي لم تستشر الشعب الفلسطيني في تنازلاتها، كما تجاهلت حق الأمة العربية والإسلامية في أرض فلسطين المقدسة المباركة، وكذلك حق الأجيال القادمة فيها.

إن قيادة فشلت في الحفاظ على أبرز ثوابت القضية، وفشلت (فوق ذلك) حتى في ما تسمّيه برنامجاً مرحلياً، أو في إدارة "التفاوض" على ما تبقى من فلسطين، ورضيت أن تقود كياناً خدماتياً للاحتلال.. هي قيادة غير مؤهلة لقيادة مشروع وطني يهدف للتحرير سواء للضفة والقطاع أم للأرض المحتلة سنة 1948.

*

الوهم الثامن هو "تمظهرات" الدولة قبل نجاح الثورة

لعلّ هناك مجالاً للنقاش عن فوائد إعلان استقلال فلسطين، أو إعلان دولة فلسطين، لإثبات الحق وملء الفراغ المحتمل، وتحقيق الاعتراف الرسمي العربي والدولي. وهو ما فعلته القيادة الفلسطينية سنة 1948 عندما أنشأت حكومة عموم فلسطين وأعلنت الاستقلال؛ كما فعلته القيادة الفلسطينية سنة 1988. غير أن هذا الإجراء يظل عملاً مسانداً للحقائق التي يجب إنشاؤها على الأرض؛ وإلا فسيضيع أو ينزوي في حركة التاريخ، كما حدث في إعلاني 1948 و1988.

أما حالة الإيهام التي نُحذِّر منها هنا، فتتركّز على أن القيادة السياسية المسكونة في الرغبة بالإنجاز، وإقناع الجماهير بحسن أدائها، قد تلجأ إلى مجموعة من الإجراءات المضللة، و"خداع الذات" من خلال التوسع في الشكليات المرتبطة بهيكليات الرئاسة والحكومة والوزارات والسفارات والوفود الخارجية، ومن خلال استنزاف أموال "الثورة" وإمكاناتها وطاقاتها وأوقاتها على أشكال "بيروقراطية" تؤدّي إلى إنتاج طبقة من المنتفعين، وتفسح المجال إلى إفساد المناضلين؛ بينما تَصرِف مسار الثورة عن جوهر مضمونها النضالي.

إنّ جوهر المشروع والنصيب الأكبر لنفقاته يجب أن يصُبَّ في المقاومة المسلحة وفي العمل الانتفاضي، وفي دعم صمود الشعب الفلسطيني على أرضه. وإن الحس والالتزام الثوري وحالة الاستعداد المستمر للتضحية بالنفس والمال يجب أن تكون شرطاً أساسياً ومتطلباً لا محيد عنه لقيادة المشروع، ولكل من يمارس معها العمل السياسي والتعبوي والإعلامي.. وغيره. وهو ما فعلته وتفعله كل القوى الثورية الجادة في مشاريع التحرير. أمّا "التمظهرات" الحالية لسفارات دولة فلسطين ومنظمة التحرير، وللسلطة الفلسطينية وهيكلياتها، ولمشاريع "الرفاه" تحت الاحتلال.. فهي أوهام تصرف المسار الوطني عن جوهر مشروعه التحرري، وتستنزف إمكاناته، بل وتفقده الكثير من المصداقية والاحترام في عيون الدول والشعوب.

▪المصدر: مركز الزيتونة.