دَوَّامةُ الانْتِقَامِ (قصّة للفتيان) أ. زياد غزال فريحات

زياد غزال فريحات

  • الجمعة 21, يناير 2022 12:24 ص
  • دَوَّامةُ الانْتِقَامِ     (قصّة للفتيان)     أ. زياد غزال فريحات
في جزيرة وسط البحر, كانت مجموعة من المها تعيش حياة آمنة مطمئنة, فلا تخشى الافتراس من وحش يرتبص بها, ولا قحطاً تعاني منه المجاعة والعنت، وقد حباها الله ميزة ليست لغيرها؛ وهي تضاعف قوتها عشرة أضعاف في فصل الشتاء، واستغلت قوتها في بناء البيوت والسدود حتى تحتفظ بمياه الأمطار؛ مما وقاها من القحط والجفاف، واستغلت قوتها أيضاً في بناء سور ضخم حول جزيرة؛ لصد أمواج البحر العاتية, والأعاصير التي تكثر حول الجزيرة.
بسم الله الرحمن الرحيم

دَوَّامةُ الانْتِقَامِ
    (قصّة للفتيان)    
زياد غزال فريحات
في جزيرة وسط البحر, كانت مجموعة من المها تعيش حياة آمنة مطمئنة, فلا تخشى الافتراس من وحش يرتبص بها, ولا قحطاً تعاني منه المجاعة والعنت، وقد حباها الله ميزة ليست لغيرها؛ وهي تضاعف قوتها عشرة أضعاف في فصل الشتاء، واستغلت قوتها في بناء البيوت والسدود حتى تحتفظ بمياه الأمطار؛ مما وقاها من القحط والجفاف، واستغلت قوتها أيضاً في بناء سور ضخم حول جزيرة؛ لصد أمواج البحر العاتية, والأعاصير التي تكثر حول الجزيرة.
عاشت المها في الجزيرة ولم ترَ في حياتها سوى نوعها, ولم تتعامل مع غير نوعها؛ لأن الجزيرة لا يسكنها سوى المها.
على بعد عشرات الكيلومترات من جزيرة المها, جزيرة آخرى يسكنها النعام الذي احترف الجمال وعشقه، وتعامل مع البراكين الموجودة في جزيرته بخبرة وحنكة وذكاء، ومن تجميله للجزيرة أن جعل من جزيرته المليئة بالأشجار المتشابكة متنزهات للترويح عن النفس, ومن الورود المتناثرة والمبعثرة حديقة جميلة، أما البراكين فقد وجدت في جزيرة النعام براكينٌ تثور كلّ ثلاثة سنوات، وقد حبا الله النعام بنعمة ليست لغيرها وهي تضاعف قوتها عشرة أضعاف فصل الربيع، وقد استغلت قوتها لتزيين الجزيرة وتجميلها, وعمل مجرى للبركان يصل للبحر لتصب فيها الحمم حتى لا تحرق الجزيرة، وقد احترفوا صناعة الجمال والتعامل مع البراكين إلا أن النعام يعيش وحده على الجزيرة، فهو لم يرَ غير نوعه ولم يعاشر أنواعاً أخرى تختلف عنه.
وعلى بعد عدّة أميال من الجزيرتين جزيرة ثالثة يقطنها الكنغر الذي احترف الزراعة واستصلاح الأراضي وتخزين الطعام, وادخاره لوقت الحاجة، وقد أعطاه الله – تعالى -  خاصية لم يعطها لأحدٍ غيره وهي تضاعف قوته إلى عشرة أضعاف في فصل الصيف، إلا أنه - مثل المها والنعام - عاش في جزيرته مع نوعه فقط فلم يتعامل مع غير نوعه كما أنه لم يرَ أنواعاً أخرى.
وفي ليلة ظلماء من ليالي فصل الخريف ضرب إعصار الجزر الثلاث، ولم تشهده الجزر في تاريخها, ولم تستطع الأسوار الشاهقة في جزيرة المها أن تقف في وجهه, أو أن تصد عتوّ أمواجه ورياحه وبدأ الإعصار يقتلع كل شيء يقف أمامه, ويرمي به إلى البحر، كل شيء: النعام والمها والكنغر كلهم في وسط البحر تتقاذفهم الأمواج بقسوة.
هدأ الإعصار وتلاشى تدريجياً, وعلى رمال ناعمة لجزيرة لم يعرفوها من قبل, ولا يعلمون في أي اتجاه هي, فتحت عائلة المها عيونها على ذلك، سارت عائلة المها تستكشف الجزيرة فوجدت في منتصف الجزيرة أشجاراً كثيرة متشابكة مما جعل المشي بينها شاقاً ولكنها استمرت في المسير حتى وصلت إلى بركان في وسط الجزيرة ومضت في طريقها إلى الجهة الآخرى من الساحل, تفاجئت بعائلة الكنغر جالسة تتأمل المصير الذي صارت إليه، أخذ ينظر كل منهم إلى الأخر بارتياب، فكل واحد منهم لم يعتد رؤية غير نوعه، ألقى الكنغر التحية وسأل المها عن الجزيرة ومن يعيش فيها فأخذ المها يسرد قصة الإعصار الذي قذف به وبعائلته على هذه الجزيرة، وتجاذب الجميع أحاديث الإعصار وكيف نجوا من الغرق بفضل الله.
بدأ الليل يسدل ستوره على الجزيرة وخيم ظلام موحش، دب الخوف في قلوب الجميع, وفي وسط سكون الليل المخيف صراخ يتصاعد يطلب النجدة.
ـ النجدة أنجدونا ...... أنجدونا .... النجدة ......
قال الكنغر الأب:
 إنه صوت مجموعة وليس صراخ فرد .
المها الأب :ـ إن مصدره من جهة الأشجار المتشابكة عند البركان .... إنهم في وسط الجزيرة.
الكنغر الأب: وماذا علينا أن نفعل ... ربما أن هناك وحش بل وحوش تفترس تلك المجموعة.
المها الأب : أخشى أن يأتوا إلينا في الصباح أو قبل الصباح.
وخيم رعب شديد على الجميع، رعب أجبرهم على القعود والصمت والتفكير فيما هو قادم.
هذه الليلة هي أشد الليالي التي عاشوها في حياتهم؛ فقد اعتادوا عيش الأمن والاطمئنان، وهذا الخوف من المجهول دفعهم فطرياً إلى اللجوء إلى الله - عز وجل - بقلوب  لا يخالطها شك، ورسّخ في قلوبهم أن لا منجا لهم إلا الله خالق كل شيء، وانهمكت عقولهم وألسنتهم بذكر الله تعالى.
 قال الكنغر بصوت ينساب معه اليقين :
- أتعلم أيها المها أن ما حدث الليلة هو أقسى ما لاقيته في حياتي، ولكنها أيضاً أكثر ليلة أحس بها بالقرب من الله تعالى، هذا القرب هون علينا كثيراً من قسوة الليلة وأزال كثيراً من ظلام ليلها في قلوبنا.
قال المها معتبراً بما قال الكنغر:
- أترى لو أن قلوبنا لم تنشغل بذكر الله ودعائه ماذا حصل بها؟! لا بدّ أنها سوف تتشقق أو تتمزق.
وجاء الصباح مبعداً وحشة الظلام, وكاشفاً لما ستره الليل، صوت يقترب شيئاً فشيئاً نحو المها والكنغر, ويتصاعد الخوف من المجهول القادم, ومع ازدياد وتيرة الصوت المتجه نحوهم, ظهرت عائلة من النعام على وجهها وريشها بقع من الدماء, مما جعل منظرها مخيفاً، ظن الآخرون أنها تلك الوحوش التي افترست ضحاياها بالأمس، تراجع الكنغر والمها إلى الوراء والفزع ظاهرٌ عليهم، والنعام يطوف ببصره عليهم، والخوف يأكل قلبه؛ فهو لم يرَ في حياته غير نوعه،  وها هو يرى نوعين لم يرَهما من قبل ولا يدري أهم أعداء أم أصدقاء؟
 ولما رأى النعام الجميع يرجعون إلى الوراء بخطى حذرة, أدرك أن من أمامه ليسوا أعداءً, أو على الأقل ليس في نيتهم الاعتداء عليه. تقدم خطوات وألقى التحية، رد الآخرون بأصوات مرتجفة، عندها ازداد النعام طمأنينة، فأخذ يقص عليهم قصة مجيئه إلى الجزيرة، وما حصل ليلة أمس عندما علق هو وعائلته بالأشجار المتشابكة ما تسبب لهم ببعض الجروح. ثم روى الجميع للنعام أحداث وصولهم إلى الجزيرة.
جلس الجميع معاً وهم أنواع مختلفة لم يعتد كل منهم أن يرى أو يتعامل إلا مع أبناء نوعه، جلسوا معاً أياماً ثم انتشروا في أرجاء الجزيرة.
اختار المها منطقة الساحل واتخذها مستقراً لهم حيث كانوا يستوطنون الساحل في جزيرته السابقة، واستقر النعام في وسط الجزيرة حيث الغابة الواسعة ذات الأشجار المتشابكة التي يليها البركان، وسكن الكنغر في الأراضي الخصبة وما حولها، وهي أرض تحتاج إلى إصلاح، وقد احترف الكنغر الزراعة في جزيرته السابقة واستصلاح الأراضي وتخزين الطعام.
ومضت الأيام ومضى معها فصل الخريف وجاء فصل الشتاء وتصاعدت قوة المها إلى عشرة أضعاف، سارع المها إلى بناء البيوت لهم وحدهم والأسوار حول الشاطئ الذي يسكنوه فقط, والسدود في مناطق سكناهم، وازداد انهماكهم في البناء فطلبوا من الكنغر والنعام أن يحضروا لهم الطعام والماء أثناء العمل فوافقوا بشرط أن يبنوا لهم بيوتاً كبيوتهم وأسواراً كأسوارهم، فوافق المها، وانهمك الكنغر والنعام مع عائلتيهما في خدمتهم, ولما انتهى المها من البناء طالب الكنغر والنعام المها بالوفاء بعهدهم، ولكن المها رفضت، فغضب الكنغر والنعام، ولكن ليس باليد حيلة فهم لا يستطيعون أن يفعلوا شيئاً أمام قوة المها، فولّوا مغادرين إلى أماكنهم، صاحت المها قائلة : لا تنسوا أن تأتوا غداً لخدمتنا, صعق الكنغر والنعام من هذا الطلب فالبناء قد انتهى، صاح المها وغرور القوة يملأ قلبه:
- إن لم تأتوا غداً وتفعلوا ما كنتم تفعلوه بالأمس أتينا بكم مجبرين.
ازدادت دهشة النعام والكنغر ومضوا في طريقهم .
قال النعام الأب : إنهم يريدون أن نكون خدماً لهم .. بل عبيداً.
الكنغر الأب : وماذا عسانا أن نفعل أمام قوتهم؟ 
النعام الأب: نرفض طبعاً .. وهل هناك خيار سوى الرفض.
وجاء اليوم التالي وانتظرت المها النعام والكنغر ليأتوا لخدمتهم ولكن لم يأتِ أحد, فذهبت المها إلى منطقة النعام أولاً وطالبوهم بالمجيء معهم للخدمة فرفض النعام رفضا قاطعاً، ولما رأى المها رفض النعام بهذه الحدة صنعوا من فروع النباتات حبالاً وأوثقوا النعام بها، وصنعوا من أغصان الأشجار قيوداً وجروا بها النعام إلى منطقة الكنغر وطلبوا منهم المجيء معهم ليقوموا بخدمتهم وإلا أصابهم المصير الذي يشاهدونه أمامهم.
قال الكنغر في نفسه : سوف أصبر حتى يأتي الصيف وعندها سأضع حداً لعدوانهم وظلمهم. ذهب الكنغر معهم دون مقاومة، وخدمت عائلة الكنغر المها، وفي النهار مارس الكنغر الزراعة إلى منتصف الليل ثم نام وهو في غاية التعب، وفي كل يوم يمضي ينتظر الصيف كي يضع حداً للذل والمهانة.
أما عائلة النعام فبقيت رافضة، فقام المها بربطهم بالأشجار وقيدوهم بأرجلهم وحرموهم الطعام والماء إلا قليلاً يبقيهم على قيد الحياة، وفي كل يوم يمضي يتراكم الحقد في قلب النعام وينشغل فكره بشتى أنواع العذاب التي سيذيقها للمها عندما يحل الربيع.
ومضت الأيام ومضى معها فصل الشتاء وجاء فصل الربيع وتصاعدت قوة النعام الى عشرة أضعاف ورجعت قوة المها إلى حجمها الحقيقي، عندها مزق النعام قيوده واتجه فوراً إلى المها ووقف فوق أسوارهم صارخاً ..
النعام: أيها المهاااااا ... يا أهل الظلم والعدوان ... اليوم ستذقون ما ذقناه بالأمس ...اليوم ستشربون الكأس الذي شربناه.
سَخِرَ المها من قول النعام لأنهم لم يعلموا بتضاعف قوته وقال لهم المها الاب:
- يبدو أن العقاب الذي ذقتموه ليس كافياً لذا سترون الآن.
وهجم المها على النعام، ولكن النعام اليوم ليس كالنعام في الأمس، والمها اليوم ليس كالأمس، فوجىء المها بقوة النعام، وأدركوا أن لا مجال للمقاومة، رغم أنهم لم يستسلموا، ولكن النعام بقوته أخضعهم مجبرين، وجاء بنفس الحبال التي ربطوه بها ولكن بأشد قسوة، وبالقيود التي قيدوه بها وقيدهم بها، ولكن زاد عليهم قيداً آخر جعله في رقابهم إمعاناً في إذلالهم.
حضر الكنغر الأب وعائلة النعام تجر عائلة المها، صاح الكنغر بالنعام:
- قف .. هل تظن أن هذا سيدوم لك. الحياة متداولة ليس لأحد فيها ثبات على قوة أو جاه إلا الله، فالغابة الخضراء قد تصبح أرضاً جرداء والأرض الجرداء قد تصبح واحةً خضراء. اتركهم .
النعام الأب :ـ أتركهم ؟!! ... انظر ... انظر إلى الدماء التي على أيادينا  وأقدامنا ما زالت تسيل لم تجف، بقوتي التي لا تقاوم سوف أخضعهم.
الكنغر الأب : القوة لله جميعاً، يعطيها من يشاء وينزعها ممن يشاء، لا يوجد أحد قوي بذاته إنما القوة نعمة من الله .
لم يلتفت النعام إلى كلام الكنغر لأن غرور القوة أصم أذنيه، جرّ النعام عائلة المها وربطهم حيث ربطوه وقيدهم حيث قيدوه.
استغل النعام قوته بتزيين الغابة حيث يسكن, وجعل من الأشجار المتشابكة متنزهاً جميلاً، وجعل من الأزهار المتناثرة المبعثرة حديقة جميلة, ولكن لا يدخلهما إلا النعام وحده، وأخذ يعمل مجرى للبركان يصل إلى البحر، ولكنه جعل مساره من وسط منطقة المها تخريباً لما بنوه، أما الكنغر فبدأ يجني ما زرعه في الشتاء يأكل قسماً ويخزن قسماً، علم النعام بوفرة الطعام عند الكنغر فجاء إليه وخاطبه قائلاً :
النعام الأب : أيها الكنغر خذ من حصادك ما يكفيك وأحضر لنا الباقي.
قال الكنغر الأب وفي ذهنه قوة النعام وما لاقى من عذاب:
- موافق ولكن بشرط إن يحول مسار البركان عن منطقة المها ويصبح المتنزه والحديقة للجميع.
 النعام الأب : أما المتنزه فلكم أن تدخلوه متى شئتم كضيوف ولا حق لكم فيه، أما المها فلا نقبل شيئاً في شأنهم.
الكنغر الأب: لا تجعل غرور قوتك يعميك عن رؤية المستقبل. فأنت اليوم قوي وغدا ضعيف والمها اليوم ضعفاء وغداً أقوياء، ستقعون في دوامه من العذاب والخراب.
النعام الأب: المها من بدأ والبادئ أظلم.
الكنغر الأب: لا حلّ لكم إلا أن تعيشوا معاً ... إنكم فوق عيشكم في شقاء بسبب استقواء بعضكم على بعض أنتم تغضبون ربكم. تغضبون الله.
ذهب النعام وكلمات الكنغر لا تفارق ذهنه, أخذ يفكر بما بعد الربيع ويقول في نفسه:
- ماذا ستفعل المها عندما يأتي الشتاء من المؤكد أنها ستستقوي علينا وتذيقنا العذاب والشقاء الذي يذقونه الآن، أخشى إن عفونا عنهم أن يفهموا هذا ضعفاً منا وبالتالي سيزدادون ظلماً ... لا حلّ إلا إن يدفعوا ثمن ما فعلوه بنا، هذا سيردعهم.
وأخذ النعام يزداد هماً وغماً عندما يفكر بمصيره ومصير عائلته في فصل الشتاء وتزداد فيه قوة المها، وبعد أيام ذهب النعام الأب إلى المها وهم مقيدون وقام بفك زوجة المها وأبنائه قائلاً: 
  اذهبوا وعيشوا حياتكم كما تشاؤون.
أجابته زوجة المها:
 -: وكيف نعيش كما نشاء ورب الأسرة يلاقي العذاب والشقاء 
النعام الأب : هذا جزاء ما فعله بنا وهو من بدأ .
الزوجة: ألم يأمرك الله بالعفو ... ألا تقبل أن تفوز برضا الله وتعفو عنه.
صرخ المها الأب في زوجته: لا تطلبي منه العطف ... غداً يأتي الشتاء، وسأجعله هو من يطلب العطف والرحمة ولن أعطيه إلا العذاب والإذلال. 
زوجة المها: ولكن ماذا بعد الشتاء، سيأتي الربيع ونعود كما كنا.
المها الأب: اذهبي الى البيت، إنك تزيدين عذابي بهذا الكلام ..... اذهبي ..... 
زوجة المها :  ولكن ......
صرخ المها بزوجته :
  - اذهبي وإياك الكلام في هذا الموضوع .
ومضت الأيام ومضى معها فصل الربيع وجاء فصل الصيف وتصاعدت قوة الكنغر لتصل إلى عشرة أضعافها قال الكنغر في نفسه: إن الجميع لا يعلمون بقوتي فلا بد أن يعلموا ذلك بلا ظلم أو اعتداء على أحد.
سارع الكنغر إلى المها وفك قيده ثم ذهب إلى مجرى البركان وقام بهدمه شيئاً فشيئاً وجعله تلةً كبيرة من الحجارة الضخمة والجميع ينظر إليه، أدرك الجميع أن قوة الكنغر تضاعفت في فصل الصيف،  وظنوا أنه سينتقم منهم بما فعلوه به،  وقف الكنغر فوق التلة وقال :
الكنغر الأب : أيها الأخوة الكرام !
- استبشر الجميع خيراً عند سماع كلمة أخوة وأحسوا أن الكنغر يريد بهم خيراً -  لقد كنت  فيكم بالأمس مستضعفاً وها أنا اليوم أقواكم جميعاً، ولم أصبح كذلك بجهد مني إنما هو فضل الله ونعمة أنعمها علي.
النعام الأب: ما أنت فاعل بنا .... هل ستنتقم ؟!
الكنغر الأب: أستطيع أن أفعل بكم أشدّ مما فعلتموه بي، ولكني لن أفعل، سأعفو عنكم سأعفو لأن الله أمرني بالعفو, وينهاني عن الظلم، وإنّ رضا الله عندي أحبُّ إلي من رضا نفسي التي تأمرني بالانتقام.
زوجة المها: نريد أن نعيش معاً بسلام ؟
الكنغر الأب: سوف نعيش بسلام بإذن الله، فأنا أدرك أن قوتي لن تدوم وأن ضعفكم لن يدوم, فإن انتقمت وجئتم أنتم وانتقمتم فسنعيش في دوامة من العذاب والعدوان.
ذهب الكنغر الأب الى عائلة النعام وقال لهم: ماذا تقولون في ما سمعتم أيها النعام؟
النعام الأب: هذا كلام رائع .. ولكن ما هي الضمانة على عدم استقواء بعضنا على بعض ؟!
الكنغر الأب: هي أن تأمنوا إن لا حلّ لكم إلا أن تعيشوا معاً بلا استقواء بعضكم على بعض ... وأنت أيها المها ... أسمعنا قولك.
نظر المها الأب نظرة حقد وهو ما يزال يشعر بألم القيود على رقبته وعلى يديه، وما زال يحس بألم الجوع والعطش والبرد ينهش في بدنه وقال: 
- عندما يأتي الشتاء سأسمعكم كلامي.
انصرف المها غاضباً وانصرف الجميع والخيبة تملؤهم من طي  صفحة الماضي. 
استغل الكنغر قوته في استصلاح الأراضي للزراعة وزرع الأراضي الخصبة بالأشجار المثمرة والنباتات، أما المها فكان كل يوم يقف على تلة الصخور التي كانت مجرى للبركان بالأمس ليتذكر الماضي وما فيه من عذاب وإذلال, وينتظر الشتاء لتزداد قوته ويذيق النعام أقسى مما ذاق. 
ومضى فصل الصيف وجاء فصل الخريف، حيث لا يستقوي أحد على الآخر، وأخذت أيام الخريف تمضي وفي كل يوم منها يصعد المها كعادته على تلة الصخور وهو ينتظر الشتاء ويجتر آلام الأمس، وعندما أراد النزول تزحلق وأخذ يتدحرج من فوق الصخور ثم ارتطم بالأرض وفقد الوعي، وإذا بصخرة تتدحرج وتستقر على رجليه، غربت الشمس ودخل الليل ولم يعد إلى بيته، قلقت المها على أبيهم، فذهبوا إلى الصخور فهو المكان الذي اعتاد أن يذهب إليه, فوجدوه مغمى عليه، فحاولوا إبعاد الصخرة عن رجليه فلم يستطيعوا، فاستغاثوا بعائلة الكنغر فلبّوا الاستغاثة على الفور وحاولوا إزالة الصخرة ولكنهم لم يستطيعوا، قال الكنغر:
 - لا بد أن نرسل إلى النعام ليساعدونا .
أبدت زوجة المها شكوكاً حول النعام بما حصل لزوجها، فأجابها الكنغر: 
- إنني أعرف النعام جيداً فهو ليس غداراً  فلو فعل هذا لأعلنه للجميع ولكن غداً يستيقظ أبوكم وتظهر الحقيقة.
جاءت عائلة النعام وتعاون الجميع لإزالة الصخرة والمها فاقد الوعي ثم حملوه  إلى بيته، قام الكنغر بتجبير أرجل المها وقال:
-  إنه يحتاج إلى أشهر عديدة ليستطيع الوقوف لشدة الكسور وكثرتها في رجليه.
استفاق المها من غيبوبته ونظر إلى من حوله ببطء ثم وقع بصره على الجبائر التي لفت أرجله، تأمل أرجله لحظات ثم أغمض عينيه والدموع تسيل منها بصمت.
مضى فصل الخريف وجاء فصل الشتاء وتضاعفت قوة المها ولكن المها الأب لم يستطع الوقوف رغم تضاعف قوته لأن الجبائر ما زالت والكسور لم تجبر بعد، استغلت عائلة المها قوتها في بناء سور حول الجزيرة كلها، وبيوت شاهقة جميلة لجميع العائلات والكنغر يبعث للجميع ما يحتاجونه مما ادخره من طعام.
ومضى فصل الشتاء وجاء فصل الربيع، وتضاعفت قوة النعام فاستغل قوته بتزيين الغابة فأقام المتنزهات والحدائق للجميع, وأقام للبركان مجرى يصل الى البحر، لا يمر من أرض أحد.
وجاء فصل الصيف وتضاعفت قوة الكنغر، فاستغل قوته في استصلاح مزيد من الأراضي للزراعة، وزرع المزيد من الأراضي الخصبة، وفي منتصف الصيف شفي المها وأصبح قادراً على المشي وأخذ يطوف الجزيرة، ويرى كم هي جميلة، ورأى السور ومجرى البركان، فأحسَّ بالأمان والاطمئنان، ورأى الأراضي المزروعة الكثيرة ووفرة الطعام، وأكثر ما لفت نظره اهتمام الجميع بتسبيح خالقهم وحمده على نعمه، ولولا أنه يعيش في الجزيرة لظن أنها جزيرة أخرى، فازداد قناعة أن الخير في عيشهم معاً متآلفين، والشقاء والدمار في عيشهم متناحرين، يستقوي بعضهم على البعض الآخر، وفي أثناء سيره التقى بعائلة النعام فبادره النعام بالتحية على الفور وهنأه على شفاء الله له، فرد المها التحية ومضى في طريقه ناداه النعام الأب قائلا :
- أيها المها ... أما زال في قلبك شيء علينا ؟
وقف المها ونظر إلى النعام ولم يجب، ثم مضى في طريقه ببطء.
صاح النعام ليسمع صوته :
- إن بقي في قلبك شيء فاعلم أن قلوبنا خالية من أي كره أو حقد ضدك. 
 مضى المها في طريقه ولم يلتفت، علم الكنغر الأب بشفاء المها، فهرع إلى بيته ولم يجده، فأخبر زوجته وأبنائه أنه يرغب بعمل مأدبة في بيتهم من أشهى الطعام الذي أدخره يدعو عليها الجميع بمناسبة شفاء المها، فرحت عائلة المها فرحاً كبيراً بما قاله الكنغر وأثناء ذلك وصل المها الاب، فتلقاه الكنغر بالأحضان, وحمد الله تعالى الذي أكرمه بالشفاء وأخبر الكنغر المها بما عزم عليه بشأن المأدبة، وقال له:
- أريد أن أدعو عليها الجميع ... الجميع ! ..
هزّ المها رأسه موافقاً، وقال :
- نعم، الجميع ... الجميع .
فرح الكنغر بموافقة المها واستبشر أن الغابة مقبلة على طي صفحة الماضي وفتح صفحة جديدة لا يستقوي فيها أحد على أحد، وأن منهج الله هو الذي سيسود لا منهج القوي على الضعيف، فالانتقام والاعتداء شغلهم عن تسبيح الله عز وجل وحمده.
قام الكنغر بعمل المأدبة على شاطئ البحر المحاذي لمنطقة المها في ليلة جميلة، ألقى القمر فيها ظله على البحر والأمواج تداعب الشاطئ بحنان و الرياح تصافح الأشجار ليصنعا من حفيفها أنشودة المستقبل، أكل الجميع  والفرح والسرور يغمرهم .
قام الكنغر وقال:- أيها الإخوة الكرام لقد عاش الجميع في الماضي لا يتعامل إلا مع أفراد نوعه وأما اليوم فنحن أنواع مختلفة, وهذه سنة الله في الحياة، فالله هو الذي خلقنا مختلفين وسنبقى مختلفين، فالأشجار مختلفة والأزهار متنوعة والأسماك متفاوتة، ونحن أيضاً أنواع مختلفة .. قدرنا أن نعيش مختلفين. 
قام النعام وقال: - لقد أنعم الله علينا بنعمة ليست للآخر، وهي تضاعف القوة في فصل معين، فإذا تعاون الجميع أصبحت هذه النعم مصدراً للراحة والطمأنينة وإرضاء الله عزّ وجلّ، وإن تنازعنا انقلبت نقماً تذيـقـنا العذاب والشقاء والدمار وما هو أكبر من ذلك كله وهو غضب الله عز وجل.
وقف المها مخاطباً الجميع:
-  عندما جاء الشتاء وتضاعفت قوتي وأرجلي تعاني الكسور ولم استطع الوقوف ... تذكرت كلام الكنغر الذي لم أفهمه في وقته، وهو أن القوة لله جميعاً يعطيها من يشاء ويسلبها ممن يشاء.
 اقترب الكنغر من المها ووضع يده على كتفه ، قال:
- لقد خُلقنا لإرضاء الله وعلينا أن نتعهد معاً أن نسير على منهجه مسبحين بحمده، وإن تنازعنا في أمر لجئنا إلى ما يرضى الله فنكون حيث يرضى الله ....
رد الجميع ... نكون حيث يرضى الله ....
نكون حيث يرضى الله ....
نكون حيث يرضى الله ...
النهاية