مَشاعِرُ الْعَظَمَةِ

زياد غزال فريحات

  • الجمعة 24, يونيو 2022 04:45 ص
  • مَشاعِرُ الْعَظَمَةِ
قصة
بسم الله الرحمن الرحيم
قصة
مَشاعِرُ الْعَظَمَةِ
زياد غزال فريحات
كان صلاح الدين في العشرينات من عمره، وقد فرض احترامه على كل من حوله، مهندس له مكتبه الخاص وقد أقامه بمساعدة والده، يلقي خطبة الجمعة في مسجد كبير في المنطقة والحق أنه خطيب مفوه، وشاءت الظروف أن يكون بينه وبين المقاول عدنان علاقة عمل، فانجذب له عدنان شيئاً فشيئاً، وفي كل يوم جمعة يتصل عدنان ويطلب منه أن يذهب معه لحضور الخطبة... 

ومع الأيام أخذ عدنان يشعر شيئاً فشيئاً أن المهندس يرى نفسه شيئًا كبيرًا، وأنه صاحب قدرات ضخمة، ولا شيء يمكن أن يقف في وجه، وكل ذلك لم يزعج عدنان بل الذي أزعجه وآلمه هو ادراكه أن المهندس يشعر من صميم قلبه أن الأخرين صغار وضعاف ويغمرهم العجز، في تلك اللحظة قرر عدنان الابتعاد شيئاً فشيئاً عن صديقه الذي أحبه فعلاً بلا عتاب، رغم أن المهندس رجل صالح لكنه لايعي أن مشاعر العظمة والإكبار والتبجيل والانبهار لديه محصورة في ذاته، وقد قرّر في لحظات الابتعاد بسلام...
تعرض والد المهندس لحادث سير، فقام عدنان بزيارته في المستشفى والتقى بأعمام صلاح وسمع منهم وهم تملؤهم مشاعر الإكبار والاعجاب عن حياة أخيهم الكبير، والشخص الوحيد الذي يخلو من تلك المشاعر هو المهندس، وفي أثناء ذلك عرض برنامج على قناة فضائية عن الصين وانجازاتها العظيمة، فأذهل الجميع مما سمع إلا المهندس، حيث لم تقطر من قلبه نقطة من مشاعر العظمة والاعجاب والإكبار مما رأى... 
أضحى عدنان يبتعد عن صديقه شيئًا فشيئًا، وتحولت العلاقة بينهما إلى علاقة عمل فقط، وفي تلك الفترة تقدم المهندس لفتاة وعقد قرانه عليها وأخذ ينتظر الزفاف لوقت  ترتيب أوضاعه، وخطيبته جميلة جدًا، وصاحبة ذكاء وفطنة، لكنها ليست متدينة بالقدر الكافي، رغم أن أهلها من أهل المساجد والالتزام، ورغم أن الفتاة بما فيها من مزايا تبهر أي رجل إلا أنه لم يشعر بأي شيء من ذلك، وأخذ يزورها كل أسبوعين مرة بمدة لا تزيد عن ساعتين، وأغلب الساعتين يجلس معهما أحد من أهلها، وبعد خمسة أشهر من الخطبة وبعد أن تعلق المهندس بخطيبته وبدأ يشعر بحبها، اتصلت به خطيبته وطلبت منه أن تراه خارج البيت مع أن أهلها لا يسمحون بذلك لكنه رفض فقالت له :
* يجب أن نلتقي فالمسألة حياة أو موت... 
- عندي بعض الأعمال سآتي للبيت عندكم بعد ساعتين.
وبعد نصف ساعة فقط تفاجأ المهندس بخطيبته في وسط مكتبه وتصادف وجود عدنان بهر عدنان بجمالها وقوامها، وقال لها: 
* مرحبًا أنت خطيبة المهندس ؟
ثم نظر إليهما وقال لهما : 
* يجب أن أذهب... المكان هنا ضيق، الغرفة صغيرة 
فقال له المهندس بحزم :
* يجب أن تبقى إنني أريدك في أمر هام. 
خرج عدنان وجلس في المساحة الصغيرة أمام غرفة المكتب، طلبت الخطيبة الخروج لأن الحديث في الخارج سيكون أفضل، لكن المهندس رفض بشدة لأنه يعلم أن أهلها يزعجهم ذلك، فاضطرت الخطيبة أن تصارحه داخل المكتب،  
وبعد مقدمة في غاية الأدب أخبرته أنها أجبرت على القبول به، وأنها على علاقة بشاب آخر، وقد تقدم لخطبتها ولكن أهلها رفضوا؛ لأنه شاب غير ملتزم فهو لا يصلي وهو غير ملتزم بدينه حقيقةً، والمهندس يعيش أقسى لحظات حياته وهو صامت تتفجر الصدمات في أعماقه، ولكنه يظهر أمامها بغير المكترث بشيء، وطلبت منه أن يطلقها ويتركها تعيش حياتها كما تحب، وختمت قولها :
* صدقني يا صلاح عندما أجبروني أهلي على القبول بك، قد قررت أن أصارحك كما فعلت اليوم ولكني كنت خائفة أن تكون رجل يستطيع أن يجذبني إليه، ويجعلني أحبه، لكن الحمد لله كنت رجلاً يمكن نسيانه بسهوله، أكثر شيء أدهشني هو أني ألمحت لك بكل الوسائل والطرق أني بعيدة عنك ولكنك لم تشعر بذلك على الإطلاق ...

وخلعت خاتم الخطوبة ووضعته على المكتب وغادرت، نظر إليها عدنان الذي سمع كل كلمة رغمًا عنه لضيق  المكان، ورغم أن عدنان الذي يعرف العيب الكبير لصديقه، بأنه لا يشعر دون وعي بمشاعر العظمة إلا بنفسه إلا أنه يعلم أيضًا أن صديقه رجل صالح ومتدين حقيقة، وهو الآن يحترق وما حدث معه فوق طاقته، وأثقل من تحمله، غادر عدنان إلى بيته دون رؤية المهندس وهو يشعر بعظم مصاب صديقه، لقد ضربته هذه الفتاة بمقتله بمشاعر العظمة لذاته وقدراته ومستقبله وطموحاته... 

مضى المهندس إلى بيته ولم يخرج منه إطلاقًا رافضًا رؤية أحد، وبعد أسبوعين دخل عدنان على صديقه المتماسك رغم جراحه وكسور خاطره، وتحدث عدنان وصديقه لا يتكلم، وختم عدنان زيارته بوضع فيلم وثائقي عن الكون في جهاز الحاسوب وغادر، وأخذ المهندس يشاهد الكون العظيم في لحظة فارقة من حياته وعواطفه، وبقي يشاهد وقلبه يشعر لأول مرة في حياته بمشاعر العظمة لشيء غير ذاته، إنها مشاعر العظمة لله عز وجل وختم الفيلم  بأيات كريمة ابتدأت بآية الكرسي ولما وصل  مسامعه قول الله تعالى (وسع كرسيه السموات والأرض) أحس بصغر ذاته لأول مرة في حياته، وأخذ يستمع إلى الأيات ومشاعر العظمة تجاه الله تكبر، ومشاعر الإحساس بصغر ذاته وعجزه تتوالد...

( إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ  فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ )

(كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ  وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَام)

 (وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ)
( لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ)

(تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ وَالْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الأَرْضِ أَلا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ)
عند هذه الأية بكى من إحساسه بعظمة الله، هذا ما قاله لعدنان فيما بعد ...
*  بكيت إحساسا بعظمة الله... وهي لأول مرة في حياتي أشعر أن لا حدود لعظمة الله... لقد كنت أؤمن بذلك ولكني لم أكن أشعر بالحد الأدنى منه،... شعرت بأن الله كبير بلا إنتهاء، وأن غيره جل جلاله صغير وشعرت بأن الله لا يمكن مقاومته، لقد أحسست بكل عواطفي أني عاجز عجزًا كاملاً أمام عظمة الله على الإحساس بعظمة الله... 
 لقد كرر لعدنان كثيراً قوله:
*- إن الله خلق للبشر مشاعر يحسون بها عظمة الأشياء ولكن تلك المشاعر عندما تحس بعظمة الله تعطيك قوة غريبة، ووضوح بحجم الأشياء فلا ترى شيئاً أكبر من حجمه... 
ومضت الأيام وكبر معها إحساس المهندس بعظمة الله عز وجل وأصبح يررد في خطبه: 
* إن الأمة بحاجة ماسة ليكبر إحساسها بعظمة الله حتى لا تهزم نفسيًا حتى لا تكبر مهابة الأعداء في قلبها، حتى تستطيع أن تقاوم قوى الأعداء، لإنها مع إحساسها بغظمة الله ستشعر بصغر الجبارين، وضعفهم فتسير وتتجاوزهم.
  كم هو سلاح عظيم الإحساس بعظمة الله !
* النهاية *
زياد غزال فريحات