حقيقة المسجد الاقصى المبارك دراسة تأصيلية لأوصافه، ورحبته، وحرمه
مدينة القدس
ملخَّصُ البحثِ باللُّغةِ العربيَّةِ
عنوانُ هذا البحثِ هو: "حقيقةُ الـمَسْجدِ الأقصى المباركِ: دراسةٌ تأصيليَّةٌ لأوصافِه، ورَحَبَتِه، وحريـمِه"، ويرصدُ البحثُ عبرَ الاستقراءِ أبرزَ أوصافِ المسجدِ الأقصى التي وردَتْ في مصنَّفاتِ كوكبةٍ منَ العلماءِ، والمؤرِّخينَ، والجغرافيِّينَ، والرَّحَّالةِ، وفي بعضِ الوثائقِ والمراجعِ المعاصرةِ الصَّادرةِ عنْ جهاتٍ إسلاميَّةٍ ذاتِ صلةٍ بإدارةِ شؤونِ المسجدِ الأقصى. ويحلِّلُ البحثُ هذه الأوصافَ ويخلصُ إلى تأكيدِ أنَّ المقصودَ بالمسجدِ الأقصى في جميعِ هذه المصادرِ والمراجعِ هو مِساحةُ المسجدِ الكاملةُ الواقعةُ بينَ أسوارِه الأربعةِ، وتبلغُ نحوَ 144 ألفَ مترٍ مربَّعٍ، وأنَّ الاعتقادَ بأنَّ المسجدَ الأقصى هو الجامعُ القِبْلِيُّ الموجودُ في ساحاتِ الأقصى الجنوبيَّةِ، أو قبَّةُ الصَّخرةِ الواقعةُ في وسطِه، هو اعتقادٌ خاطئٌ.
ويتطرَّقُ البحثُ بالدِّراسةِ التأصيليَّةِ إلى مسألةِ رَحَبَةِ المسجدِ الأقصى، أيْ ساحاتِه المكشوفةِ، ويؤكِّدُ أنَّها جزءٌ أصيلٌ منه، ولها أحكامُه. ثمَّ يدرسُ البحثُ مسألةَ حريمِ المسجدِ الأقصى، أيْ توابعِه وملحقاتِه منَ المباني والمعالمِ والأوقافِ المتَّصلةِ به، أوِ الواقعةِ في محيطِه القريبِ منه، وينتهي إلى تثبيتِ قاعدةٍ عامَّةٍ هيَ أنَّ كلَّ ما كانَ داخلَ أسوارِ المسجدِ الأقصى فهو جزءٌ منه، وكلَّ ما كانَ خارجَها ليسَ جزءًا منه، بل منْ حريمِه الذي له حقوقُ المسجدِ، ولا يجوزُ الاعتداءُ عليها. وطبَّقَ البحثُ هذه القاعدةَ على ثلاثةِ معالمَ مرتبطةٍ بالمسجدِ الأقصى، وتلتبسُ الآراءُ حولَها، هيَ: حائطُ البراقِ الذي بيَّنَ البحثُ أنَّه جزءٌ منَ المسجدِ الأقصى، وتلَّةُ بابِ المغاربةِ والزَّاويةُ الخُتَنِيَّةُ اللَّتانَ بيَّنَ البحثُ أنَّهما ليسَتا جزءًا منَ الأقصى، ولكنَّهما منْ حرمِه.
تمهيد
أعوذُ باللهِ السَّميعِ العليمِ منَ الشَّيطانِ الرَّجيمِ، بسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ، والحمدُ للهِ المتكرِّمِ علينا بآلائِه وفضلِه العميمِ، والصلاةُ والسَّلامُ على النّبيِّ محمَّدٍ، الذي شرَّفَه ربُّه بالإسراءِ إلى الأرضِ التي باركَ فيها للعالمينَ، وعلى آلِهِ وصحبِهِ وحَمَلَةِ لواءِ الإسلامِ والحقِّ منَ الأنبياءِ والمرسلينَ، والعلماءِ الرَّبانيِّينَ، والمجاهدينَ الصَّادقينَ، منْ لَدُن آدمَ عليه السَّلامُ، حتَّى آخرِ مجتهدٍ، ومجاهدٍ، وشهيدٍ في طريقِ تحريرِ المسجدِ الأقصى، وطريقِ الحقِّ إلى يومِ الدِّينِ.
المسجدُ الأقصى المباركُ ليسَ مكانًا للصَّلاةِ وحسْبُ، بلْ هو ميدانُ صراعٍ بينَ الحقِّ والباطلِ منذُ أمدٍ بعيدٍ. ألَا يلاحِظُ النَّاظرُ في سِجِلِّ التَّاريخِ أنَّ هذا المسجدَ العظيمَ هو أكثرُ مسجدٍ على وجهِ المعمورةِ شهدَ على صراعاتٍ كانَ هو في صُلبِها، أو كانَ سببَها الرَّئيسَ، أو أحدَ أبرزِ أسبابِها؟
المسجدُ الأقصى بأبعادِه الدِّينيَّةِ، والتَّاريخيَّةِ، والسِّياسيَّةِ، والأمنيَّةِ، والعلميَّةِ، والثقافيَّةِ، والاجتماعيَّةِ، والعمرانيَّةِ، والقانونيَّةِ، إلخ، قضيَّةٌ عالميَّةٌ بامتيازٍ، وكثيرًا ما كانَ محورَ أحداثٍ شغلَتِ العالمَ بأسرِه، ومنْ تلك الأحداثِ في القرنِ الأخيرِ: ثورةُ البراقِ عامَ 1929، وإحراقُ المسجدِ الأقصى عامَ 1969، وانتفاضةُ الأقصى عامَ 2000، وهبَّةُ بابِ الأسباطِ عامَ 2017، وهبَّةُ بابِ الرَّحمةِ عامَ 2019، ومعركةُ سيفِ القدسِ عامَ 2021، ومعركةُ طوفانِ الأقصى عامَ 2023، وغيرُ ذلك منَ الأحداثِ المهمَّةِ التي حفرَتْ عميقًا في كتابِ التَّاريخِ على مستوى العالمِ، وكرَّسَتْ حضورَ المسجدِ الأقصى في صميمِ التَّفاعلِ السِّياسيِّ، والحضاريِّ، والأمنيِّ.
لقدْ لحقَ بالمسجدِ الأقصى منْ صنوفِ العدوانِ، والتَّشويهِ، والتَّضليلِ، والأخطاءِ، والشُّبهاتِ، والتَّزويرِ، والتَّقصيرِ، والجهلِ ما لم يلحقْ بشقيقيْهِ المسجدِ الحرامِ، والمسجدِ النَّبويِّ الشَّريفِ، ولا بأيِّ مسجدٍ في تاريخِ الإسلامِ؛ وتفاقَمَتْ هذه المخاطرُ معَ وجودٍ احتلالٍ إسرائيليٍّ يجثمُ على صدرِ الـمسجدِ، ويسعى إلى تهويدِه والسَّيطرةِ عليه، واستغلالِ أخطاءِ المسلمينَ في معرفةِ حقيقةِ المسجدِ لفرضِ رؤيتِه عليه؛ وأدَّى كلُّ ذلك إلى تشويشٍ لا يُستهانُ به على حقيقةِ المسجدِ الأقصى، وتغييبِها في أحيانٍ كثيرةٍ، بقصدٍ وبغيرِ قصدٍ، فقُضِمَتْ أجزاءٌ منْ مِساحتِهِ الكاملةِ، وشُوِّهَتْ حدودُهُ الشَّرعيَّةُ. ويمكنُ أنْ نعزوَ هذا التَّشويشَ إلى ثلاثةِ مصادرَ أساسيَّةٍ هيَ: التباسُ العبارةِ التي ساقَها جمعٌ غفيرٌ منَ المؤرِّخينَ، والباحثينَ، والعلماءِ، والإعلاميِّينَ، والسِّياسيِّينَ، في خطاباتِهم وكتاباتِهم عنِ المسجدِ الأقصى، وجهلُ كثيرٍ منَ المسلمينَ وعامَّةِ النَّاسِ بحقيقتِهِ، وتضليلُ الاحتلالِ الصِّهيونيِّ.
وليسَتْ إشكاليَّةُ تحديدِ حدودِ المسجدِ الأقصى بجديدةٍ، بلْ إنَّ الغوصَ في أمَّاتِ المصادرِ، أوصلَني إلى أنَّ بواكيرَ ظهورِها تعودُ إلى القرنِ الخامسِ الهجريِّ؛ فقد ألمحَ إليها الرَّحَّالةُ الفارسيُّ ناصر خُسرو، الذي زارَ القدسَ عامَ 437 هـ، وذكرَ الجامعَ القِبليَّ في الأقصى، ولكنَّه سمَّاه "المسجدَ الأقصى". ويبدو أنَّ إشكاليَّةَ اختزالِ المسجدِ الأقصى بالجامعِ القِبليِّ، قدِ استشرَتْ بينَ المسلمينَ بحلولِ القرنِ السَّابعِ الهجريِّ وما بعدَه، فقدْ عرَّجَتْ عليها بوضوحٍ كوكبةٌ منَ العلماءِ والمؤرِّخينَ الذين عاشوا في القرنِ السَّابعِ، والثَّامنِ، والتَّاسعِ، والعاشرِ للهجرةِ، وانبرَى جمعٌ منَ العلماءِ والمؤرِّخينَ القدامى؛ لتصحيحِ أخطاءِ المسلمينَ في اختزالِ المسجدِ الأقصى بالجامعِ القِبليِّ، ومنهم: الشَّيخُ ابنُ تَيْمِيَّةَ، والمؤرِّخُ ابنُ فضلِ اللهِ العمريُّ، والمؤرِّخُ القَلْقَشَنديُّ، وقاضي القضاةِ مؤرِّخُ القدسِ مجيرُ الدِّينِ العُلَيْميُّ، وكانَ دافعُهم إلى التَّصحيحِ شيوعَ خطأِ اختزالِ المسجدِ الأقصى بالجامعِ القِبليِّ بينَ عامَّةِ المسلمينَ جهلًا.
ومعَ تقدُّمِ الزَّمنِ، اتَّسَعَتْ رقعةُ الخطأِ المتمثِّلِ باختزالِ المسجدِ الأقصى بأحدِ معالمِه، وأُضِيفَ إلى هذا الخطأِ رواجُ تسميةٍ غيرِ صحيحةٍ منَ النَّاحيةِ الشَّرعيَّةِ، أسهمَتْ في مزيدٍ منَ التَّشويشِ والالتباساتِ، هيَ تسميةُ "الحَرمِ القُدْسيِّ الشَّريفِ". والرَّاجحُ أنَّ السَّببَ الرَّئيسَ وراءَ شيوعِ وصفِ المسجدِ الأقصى بـ"الحرمِ" يُعزَى إلى رغبةِ المسلمينَ في تعظيمِه وتبجيلِه أسوةً بشقيقيْهِ الحرميْنِ: المسجدِ الحرامِ في مكَّةَ المكرَّمةِ، والمسجدِ النَّبويِّ الشَّريفِ في المدينةِ المنوَّرةِ. وقد فصَّلَ البحثُ في هذه المسألةِ نسبيًّا؛ بُغيَةَ تقديمِ رأيٍ علميٍّ متوازنٍ يُسهمُ في سدِّ بابِ الفُرقةِ، والمناكفاتِ، والاتهاماتِ بينَ أبناءِ الأمَّةِ الإسلاميَّةِ. ومعَ وجودِ فُسحةٍ لإطلاقِ وصفِ "الحرمِ" على المسجدِ الأقصى في السِّياقِ العُرْفيِّ واللُّغَويِّ؛ فإنَّ ذلك أدَّى إلى توسيعِ رُقعةِ الأخطاءِ المتعلِّقةِ بمعرفةِ حقيقةِ المسجدِ الأقصى في أذهانِ المسلمينَ وغيرِهم، وظهرَتْ شرائحُ عريضةٌ بينَ النَّاسِ، نُخَبِهمْ وعامَّتِهم، يعتقدونَ أنَّ "الحرمَ القدسيَّ الشَّريفَ" شيءٌ، والمسجدَ الأقصى شيءٌ آخرُ، فالأوَّلُ عندَهم ذلك الـمُجمَّعُ العمرانيُّ الكبيرُ بمبانيه كلِّها الواقعةِ داخلَ الأسوارِ، والثَّاني عندَهم هو الجامعُ القِبليُّ فقط، وهذا غَلَطٌ فادحٌ.
كانَ خطأُ اختزالِ المسجدِ الأقصى بالجامعِ القِبليِّ الذي انتشرَ بكثرةٍ في التداولِ الإسلاميِّ محدودَ الخطورةِ؛ لأنَّ أسبابَه الأساسيَّةَ كانَتِ الجهلَ البسيطَ، أوِ الرَّغبةَ في تعظيمِ المسجدِ. ومعَ سقوطِ المسجدِ الأقصى بيدِ الصهاينةِ عامَ 1967 م اختلفَتِ الأمورُ، وتضاعفَتِ الخطورةُ؛ لأنَّ المسجدَ الأقصى أصبحَ بيدِ احتلالٍ يعتاشُ على أخطاءِ المسلمينَ وعامَّةِ الناسِ، ويجنِّدُ كلَّ إمكانيَّاتِه لاختلاقِ الأكاذيبِ والأساطيرِ والمزاعمِ؛ لإثباتِ "حقٍّ" مزعومٍ لليهودِ في المسجدِ الأقصى الذي يزعمُ الاحتلالُ الصِّهيونيُّ أنَّهُ الجامعُ القِبليُّ فقط، وأنَّ ساحاتِ الأقصى ليسَتْ جزءًا منه، بل هيَ ساحاتٌ عامَّةٌ وحقٌّ مشترَكٌ لجميعِ النَّاسِ. وزادَ الطِّينَ بِلَّةً وجودُ أطرافٍ عربيَّةٍ وإسلاميَّةٍ ودوليَّةٍ، تواطأَتْ معَ الاحتلالِ الصِّهيونيِّ، وتبنَّتْ روايتَه ورؤيتَه الفاسدتيْنِ. تجلَّى ذلك بوضوحٍ في ما عُرِفَ بوثيقةِ "صفقةِ القرنِ" التي أعلنَ عنها الرَّئيسُ الأمريكيُّ السَّابقُ دونالد ترمب عامَ 2020، وشكَّلَتْ أرضيَّةً ومرجعيَّةً لاتفاقيَّاتِ أبراهامَ التَّطبيعيَّةِ التي وُقِّعَتْ في العامِ نفسِه، بينَ كِيانِ الاحتلالِ الصِّهيونيِّ وبعضِ الدُّولِ العربيَّةِ، وقدْ تواطأَ الاحتلالُ، والإدارةُ الأمريكيَّةُ، ودولُ التَّطبيعِ على نسفِ حقيقةِ المسجدِ الأقصى؛ إذ جعلوه الجامعَ القِبليَّ فقط، وهو يمثِّلُ ثلاثةً منْ مئةٍ منْ مِساحةِ المسجدِ الأقصى، وزعمُوا أنَّ ساحاتِ الأقصى ليسَتْ جزءًا منه، ويجبُ أنْ تكونَ مشتركةً بينَ أتباعِ جميعِ الشَّرائعِ، ومنها اليهوديَّةُ.
وهكذا اجتمعَتْ على المسجدِ الأقصى سيوفُ الجهلِ، والاحتلالِ، والتَّطبيعِ، والتَّآمرِ، واشتدَّتِ المعركةُ منْ أجلِ تهويدِه، وتقسيمِه، وتقزيمِه، وأدَّى غبارُ المعركةِ الكثيفُ الذي أُثيرَ حولَ المسجدِ الأقصى، إلى إحداثِ تشويشٍ غيرِ مسبوقٍ على حقيقةِ حدودِه ومِساحتِه.
وربَّما كانَ ابنُ فضلِ اللهِ العمريُّ المتوفَّى في منتصفِ القرنِ الثَّامنِ الهجريِّ/منتصفِ القرنِ الرَّابعَ عشرَ الميلاديِّ سبَّاقًا في إيرادِ كلمةِ "حقيقةِ" في سياقِ تثبيتِ الوصفِ الشَّرعيِّ الدَّقيقِ للمسجدِ الأقصى بقولِه: "إنَّما حقيقةُ المسجدِ الأقصى جميعُ ما يحيطُ بهِ السُّورُ" (انظرْ في مصادرِ البحثِ: مسالكُ الأبصارِ في ممالكِ الأمصارِ، ج 3، ص 375). وذهبَ المؤرِّخُ القَلْقَشَنْدِيُّ الذي توفِّيَ بعدَ ابنِ فضلِ اللهِ العمريِّ بنحوِ سبعينَ عامًا إلى مثلِ ما ذهبَ إليهِ الأخيرُ، مورِدًا لفظةَ "الحقيقةِ" في سياقِ التَّعبيرِ عنْ حقيقةِ المسجدِ الأقصى؛ إذْ قالَ: "المسجدُ الأقصى على الحقيقةِ جميعُ ما هو داخلَ السُّورِ" (انظرْ في مصادرِ البحثِ: صبحُ الأعشى في قوانينِ الإنشا، ج 4، ص 101).
وفي زمنِنا المعاصرِ نبَّهَ علماءُ وباحثونَ مسلمونَ، منْ غيابِ حقيقةِ المسجدِ الأقصى أو تغييبِها، عنْ جمهورٍ عريضٍ منَ المسلمينَ، وحذَّروا منْ خطورةِ ذلك، وطالبُوا ببذلِ جهودٍ لإظهارِها، ومنهم الدُّكتورُ نوَّاف هايل التَّكروريُّ الذي قالَ: "تكادُ تكونُ حقيقةُ المسجدِ الأقصى المباركِ غيرَ واضحةٍ في أذهانِ كثيرٍ منَ المسلمينَ، ما حدودُه؟ وعلى ماذا يشتملُ؟ ممَّا يقتضي التَّوضيحَ والتَّنويهَ، وهذا الخللُ في تحديدِ المسجدِ الأقصى ليسَ جديدًا" (انظرْ في مراجعِ البحثِ: ما اختُصَّ به المسجدُ الأقصى عنِ المسجديْنِ منْ فضائلَ وأحكامٍ، ص 256). وذهبَ الباحثُ المختصُّ بشؤونِ القدسِ الأستاذُ زياد ابحيص إلى إدراجِ "إشكاليَّةِ تعريفِ المسجدِ الأقصى المباركِ" ضمنَ أبرزِ إشكاليَّاتِ الموقفِ العربيِّ الإسلاميِّ تُجاهَ القدسِ (انظرُ في مراجعِ البحثِ: الموقفُ العربيُّ الإسلاميُّ تُجاهَ القدسِ، ص 27 - 31).
وقد تقصَّيْتُ إشكاليَّةَ تعريفِ المسجدِ الأقصى خطأً على صعيدِ حدودِه ومِساحتِه؛ فألفَيْتُها متجسِّدَةً في تفرُّعاتِها الآتيةِ التي سأعرِّجُ عليها، وأضيءُ على عملي في دراستِها ومناقشتِها، وبهذا أكونُ قد أوجزْتُ عملي في هذا البحثِ، وأبرزْتُ أهمَّ نتائجِه، وجوانبِ الجِدَّةِ والأهميَّةِ فيه.
أوَّلًا: خطأُ اختزالِ المسجدِ الأقصى ببعضِ معالمِه، وخاصَّةً الجامعَ القِبليَّ، وتصدَّيْتُ لهذا الخطأِ عبرَ استقراءِ المصادرِ، وخاصةً القديمةَ، وعدْتُ إلى سبعةَ عشرَ مصدرًا منْ شتَّى القرونِ، وَصَفَتْ حقيقةَ المسجدِ الأقصى بدقَّةٍ، وأكَّدَتْ أنَّه كلُّ ما دارَ عليه السُّورُ، وأنَّ الجامعَ القِبليَّ، وقبةَ الصَّخرةِ جزءانِ منه. وهذا التَّوسعُ في العودةِ إلى هذه المصادرِ، يُعَدُّ الأشملَ بينَ الدِّراساتِ ذاتِ الصِّلةِ، التي تكتفي بإيرادِ ما قالَه الشَّيخُ ابنُ تَيْمِيَّةَ والمؤرِّخُ مجيرُ الدِّينِ العُلَيْمِيُّ فقط. وانتهى بي البحثُ إلى اقتراحِ تعريفٍ جامعٍ مانعٍ للمسجدِ الأقصى، وسوَّغْتُ عناصرَ هذا التَّعريفِ.
ثانيًا: إشكاليَّةُ إطلاقِ تسميةِ "الحرمِ القدسيِّ الشَّريفِ" على المسجدِ الأقصى؛ إذ نقلْتُ إجماعَ العلماءِ على أنَّ المسجدَ الأقصى ليسَ حرمًا بالمعنى الشَّرعيِّ، ولكنِّي أولَيْتُ هذه المسألةَ التي أثارَتِ الجدلَ بينَ شرائحَ عريضةٍ منَ المسلمينَ، قسطًا منَ الدِّراسةِ والمناقشةِ وإبداءِ الرأيِ، فتعقَّبْتُ بداياتِ ظهورِ وصفِ المسجدِ الأقصى بـ"الحرمِ"، وشيوعِ هذا الوصفِ منذُ أواخرِ العصرِ الأيوبيِّ، واجتهدْتُ في ترجيحِ أسبابِ هذا الشُّيوعِ، وأوردْتُ أنَّ المسلمينَ يُطلقونَ وصفَ "الحرمِ" على المسجدِ الأقصى، ويقصدونَ بالإجمالِ العُرفَ القوليَّ أوِ المعنى اللُّغويَّ، كحرمِ البيتِ وحرمِ الجامعةِ، أو أنَّهم يبتغونَ التَّغليبَ في قولِهم "ثالثُ الحرميْنِ". وارتباطًا بأوصافِ المسجدِ الأقصى تتبَّعْتُ وناقشْتُ وصفَ "المشرَّفةِ" لقُبَّةِ الصَّخرةِ، و"الشَّريفِ" لحائطِ البُراقِ، ورجَّحْتُ جوازَهما معَ رفضِ المبالغاتِ والتَّجاوزاتِ التي لا تمثِّلُ السُّلوكَ الإسلاميَّ الصَّحيحَ تُجاهَ مَعلَميْنِ منْ أهمِّ معالمِ المسجدِ الأقصى. وهذه المقاربةُ التي استحضرَتْ أقوالَ الفقهاءِ، واستعمالاتِ عامَّةِ المسلمينَ، هدفَتْ إلى تثبيتِ حقيقةِ أنَّ المسجدَ الأقصى ليسَ حرمًا بالمعنى الشَّرعيِّ، وأنَّ كلَّ أجزائِه ينطبقُ عليها وصفُ الشَّريفِ، لأنَّها جزءٌ منْ مسجدٍ مباركٍ ومقدَّسٍ، وأنَّ الاختلافَ في الآراءِ في هذه المسألةِ، ليسَ مسوِّغًا لإطلاقِ أحكامِ التَّبديعِ والتَّكفيرِ والتَّجريحِ على المسلمينَ الذين لا أشكُّ في مقصودِهم عمومًا، وهو تبجيلُ المسجدِ الأقصى، وليسَ مسوِّغًا لتبخيسِ مكانةِ الأقصى، وافتعالِ معاركَ في أمَّةٍ يكفيها ما فيها منْ خصوماتٍ أثخَنَتْ في جسدِها. والأحرَى أنْ نلتفتَ إلى استغلالِ الاحتلالِ الصِّهيونيِّ، تسميةَ "الحرمِ القدسيِّ الشَّريفِ"؛ للادِّعاءِ أنَّ الحرمَ يعنيَ المجمَّعَ كاملًا داخلَ السورِ، وأنَّ المسجدَ الأقصى هو الجامعُ القبليُّ فقط، وهكذا أصبحَ "الحرمُ القدسيُّ" غيرَ المسجدِ الأقصى، وهذا باطلٌ ومشبوهُ الغاياتِ. وفي سياقِ الحديثِ عنْ أوصافِ الأقصى وتسمياتِهِ، عرَّجتُ على محاولاتِ الصَّهاينةِ فرضَ التَّعريفِ اليهوديِّ للمُقدَّسِ على المسجدِ الأقصى، عبرَ منعِ لعبِ الأطفالِ فيه، لأنَّ اللَّعبَ في المكانِ المقدَّسِ عندَ اليهودِ حرامٌ، ونقلْتُ أقوالَ علماءِ المسلمينَ الذينَ أباحُوا ذلكَ بضوابطَ، وفتحْتُ أفقًا في هذه المسألةِ، داعيًا إلى دراستِها بشموليَّةٍ فقهيَّةٍ مقاصديَّةٍ، تأخذُ بعينِ الاعتبارِ الحاجةَ إلى عمارةِ المسجدِ الأقصى، في ظلِّ سعيِ الاحتلالِ إلى تفريغِه منَ المسلمينَ.
ثالثًا: شيوعُ مزاعمَ وأخطاءٍ تتلخَّصُ بأنَّ ساحاتِ المسجدِ الأقصى المكشوفةَ، ليسَتْ جزءًا منه، بل هي ساحاتٌ عامَّةٌ. وقد أصَّلْتُ هذه المسألةَ، واستعرضْتُ أقوالَ أعلامٍ منْ فقهاءِ المذاهبِ الأربعةِ في مسألةِ رَحَبَةِ المسجدِ أيْ ساحاتِه، وخَلَصْتُ إلى وجودِ إجماعٍ بينَ الفقهاءِ، على أنَّ ساحةَ المسجدِ المكشوفةَ والمسوَّرةَ بسورِه، هي جزءٌ منه ولها أحكامُه، وطبَّقْتُ ذلك على المسجدِ الأقصى؛ لإثباتِ أنَّ ساحاتِه أو رَحَبَتَه بالاصطلاحِ الشَّرعيِّ جزءٌ منه، ولها أحكامُه. وهذه الخلاصةُ تسهمُ في تصحيحِ أخطاءِ عامَّةِ الناسِ، وتدحضُ مزاعمَ الاحتلالِ الصِّهيونيِّ وحلفائِه منَ العربِ والغربِ، أنَّ ساحاتِ المسجدِ الأقصى المكشوفةَ، ليسَتْ جزءًا منه، بل هي ساحاتٌ عامَّةٌ، يحقُّ لجميعِ النَّاسِ دخولُها، والتعبُّدُ فيها، ومنهم اليهودُ.
رابعًا: غيابُ الدِّراساتِ عنْ حريمِ المسجدِ الأقصى في ما أعلمُه، وأدَّى ذلك إلى تجرُّؤِ الاحتلالِ الصِّهيونيِّ على حريمِ المسجدِ الأقصى، ووجودِ اضطراباتٍ في التَّصريحاتِ الإسلاميَّةِ والدوليَّةِ المتَّصلةِ بهِ. وقدْ حرَّرْتُ هذهِ القضيةَ، مبيِّنًا أنَّ حريمَ المسجدِ الأقصى، هو كلُّ المرافقِ والمعالمِ والمباني والملحقاتِ والتَّوابعِ والأوقافِ المتَّصلةِ به منْ خارجِه، أو المحيطةِ به والموقوفةِ لمنفعتِهِ وحاجاتِه، وحاجاتِ المصلِّينَ فيه. وأوضحْتُ أنَّ حريمَ المسجدِ الأقصى، وإنْ لم يكنْ جزءًا منْ مِساحتِه، بيدَ أنَّ له حقوقَه منْ جهةِ وجوبِ حمايتِهِ، والحفاظِ على نظافتِهِ وصيانتِهِ، وحُرمةِ الاعتداءِ عليه، والانتفاعِ بهِ، وجوازِ الصَّلاةِ فيه إنِ امتلأَ المسجدُ الأقصى، وغيرِ ذلك منْ حقوقٍ. وأحسبُ أنَّ هذا أولُ بحثٍ أصَّلَ مسألةَ حريمِ المسجدِ الأقصى وبيَّنَ حقوقَه.
خامسًا: وجودُ التباساتٍ وشبهاتٍ حامَتْ حولَ بعضِ معالمِ المسجدِ الأقصى، فاشتُبِهَ في أمرِها: هل هيَ منْ ضمنِ حدودِه الشَّرعيَّةِ، أو هي خارجَه ومنْ حريمِه؟ وتناولَ البحثُ بالدِّراسةِ ثلاثةَ معالمَ هيَ أبرزُ ما تعرَّضَ للتَّشويشِ، هيَ: تلَّةُ بابِ المغاربةِ، والزاويةُ الخُتَنِيَّةُ، وحائطُ البراقِ. وكانَ البحثُ في هذه المعالمِ أشبهَ ما يكونُ بمختبرٍ تطبيقيٍّ طبَّقْتُ فيه ما توصلْتُ إليه نظريًّا في مسائلِ أوصافِ المسجدِ الأقصى، وحدودِه، ورَحَبَتِه، وحريمِه، وبيَّنْتُ بالأدلَّةِ والوثائقِ أنَّ حائطَ البراقِ جزءٌ أصيلٌ منَ المسجدِ الأقصى وله أحكامُه، وأنَّ تلَّةَ بابِ المغاربةِ والزَّاويةَ الخُتَنِيَّةَ ليسَتَا جزءًا منه، بل هما منْ حريمِه، ولهما حقوقُه. وعرَّجْتُ في هذا السِّياقِ على اعتداءاتِ الصَّهاينةِ ومزاعمِهم الباطلةِ التي تتعلَّقُ بهذه المعالمِ. وتُشكِّلُ خلاصاتُ البحثِ في هذه المعالمِ، معاييرَ تصلحُ للتَّطبيقِ على جميعِ المعالمِ الموجودةِ داخلَ الأقصى أوِ المتَّصلةِ بهِ، لتحديدِ ما إذا كانَتْ جزءًا منه أو منْ حريمِهِ.
هذه أبرزُ الإشكاليَّاتِ والمساراتِ والنَّتائجِ في هذا العملِ البحثيِّ المتواضعِ، وإذا كانَ لزامًا على كلِّ قادرٍ في الأمَّةِ أنْ يبذلَ جهدًا لرفعِ الظُّلمِ الذي تعدَّدَتْ أشكالُه وغاياتُه عنِ المسجدِ الأقصى، فإنَّ هذا البحثَ هو منْ قَبيلِ نصرةِ المسجدِ الأقصى، وتبديدِ بعضِ الشُّبهاتِ حولَه، وتِبْيانِ حقيقتِهِ وحقِّهِ، وتقديمِ تأصيلٍ شرعيٍّ لأوصافِه، وحدودِه، ورَحَبَتِه، وحريمِه، بما يصحِّحُ بعضَ الأخطاءِ في تعريفِهِ، ويدرأُ عنه بعضَ الشُّبهاتِ، ويرسِّخُ نظرةَ الإسلامِ الصَّحيحةَ والرَّفيعةَ إليه مكانًا ومكانةً. وأحمدُ اللهَ أنْ وفَّقَ لإنجازِه، وشغلَ عقولَنا، وقلوبَنا، وأقلامَنا، وأوقاتَنا بقضيَّةٍ مباركةٍ كقضيَّةِ المسجدِ الأقصى.
وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ
هِشَام يَعْقُوب
رئيسُ قِسْمِ الأبحاثِ والمعلوماتِ
في مؤسَّسةِ القُدْسِ الدوليَّةِ
مدينة القدس
ملخَّصُ البحثِ باللُّغةِ العربيَّةِ
عنوانُ هذا البحثِ هو: "حقيقةُ الـمَسْجدِ الأقصى المباركِ: دراسةٌ تأصيليَّةٌ لأوصافِه، ورَحَبَتِه، وحريـمِه"، ويرصدُ البحثُ عبرَ الاستقراءِ أبرزَ أوصافِ المسجدِ الأقصى التي وردَتْ في مصنَّفاتِ كوكبةٍ منَ العلماءِ، والمؤرِّخينَ، والجغرافيِّينَ، والرَّحَّالةِ، وفي بعضِ الوثائقِ والمراجعِ المعاصرةِ الصَّادرةِ عنْ جهاتٍ إسلاميَّةٍ ذاتِ صلةٍ بإدارةِ شؤونِ المسجدِ الأقصى. ويحلِّلُ البحثُ هذه الأوصافَ ويخلصُ إلى تأكيدِ أنَّ المقصودَ بالمسجدِ الأقصى في جميعِ هذه المصادرِ والمراجعِ هو مِساحةُ المسجدِ الكاملةُ الواقعةُ بينَ أسوارِه الأربعةِ، وتبلغُ نحوَ 144 ألفَ مترٍ مربَّعٍ، وأنَّ الاعتقادَ بأنَّ المسجدَ الأقصى هو الجامعُ القِبْلِيُّ الموجودُ في ساحاتِ الأقصى الجنوبيَّةِ، أو قبَّةُ الصَّخرةِ الواقعةُ في وسطِه، هو اعتقادٌ خاطئٌ.
ويتطرَّقُ البحثُ بالدِّراسةِ التأصيليَّةِ إلى مسألةِ رَحَبَةِ المسجدِ الأقصى، أيْ ساحاتِه المكشوفةِ، ويؤكِّدُ أنَّها جزءٌ أصيلٌ منه، ولها أحكامُه. ثمَّ يدرسُ البحثُ مسألةَ حريمِ المسجدِ الأقصى، أيْ توابعِه وملحقاتِه منَ المباني والمعالمِ والأوقافِ المتَّصلةِ به، أوِ الواقعةِ في محيطِه القريبِ منه، وينتهي إلى تثبيتِ قاعدةٍ عامَّةٍ هيَ أنَّ كلَّ ما كانَ داخلَ أسوارِ المسجدِ الأقصى فهو جزءٌ منه، وكلَّ ما كانَ خارجَها ليسَ جزءًا منه، بل منْ حريمِه الذي له حقوقُ المسجدِ، ولا يجوزُ الاعتداءُ عليها. وطبَّقَ البحثُ هذه القاعدةَ على ثلاثةِ معالمَ مرتبطةٍ بالمسجدِ الأقصى، وتلتبسُ الآراءُ حولَها، هيَ: حائطُ البراقِ الذي بيَّنَ البحثُ أنَّه جزءٌ منَ المسجدِ الأقصى، وتلَّةُ بابِ المغاربةِ والزَّاويةُ الخُتَنِيَّةُ اللَّتانَ بيَّنَ البحثُ أنَّهما ليسَتا جزءًا منَ الأقصى، ولكنَّهما منْ حرمِه.
تمهيد
أعوذُ باللهِ السَّميعِ العليمِ منَ الشَّيطانِ الرَّجيمِ، بسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ، والحمدُ للهِ المتكرِّمِ علينا بآلائِه وفضلِه العميمِ، والصلاةُ والسَّلامُ على النّبيِّ محمَّدٍ، الذي شرَّفَه ربُّه بالإسراءِ إلى الأرضِ التي باركَ فيها للعالمينَ، وعلى آلِهِ وصحبِهِ وحَمَلَةِ لواءِ الإسلامِ والحقِّ منَ الأنبياءِ والمرسلينَ، والعلماءِ الرَّبانيِّينَ، والمجاهدينَ الصَّادقينَ، منْ لَدُن آدمَ عليه السَّلامُ، حتَّى آخرِ مجتهدٍ، ومجاهدٍ، وشهيدٍ في طريقِ تحريرِ المسجدِ الأقصى، وطريقِ الحقِّ إلى يومِ الدِّينِ.
المسجدُ الأقصى المباركُ ليسَ مكانًا للصَّلاةِ وحسْبُ، بلْ هو ميدانُ صراعٍ بينَ الحقِّ والباطلِ منذُ أمدٍ بعيدٍ. ألَا يلاحِظُ النَّاظرُ في سِجِلِّ التَّاريخِ أنَّ هذا المسجدَ العظيمَ هو أكثرُ مسجدٍ على وجهِ المعمورةِ شهدَ على صراعاتٍ كانَ هو في صُلبِها، أو كانَ سببَها الرَّئيسَ، أو أحدَ أبرزِ أسبابِها؟
المسجدُ الأقصى بأبعادِه الدِّينيَّةِ، والتَّاريخيَّةِ، والسِّياسيَّةِ، والأمنيَّةِ، والعلميَّةِ، والثقافيَّةِ، والاجتماعيَّةِ، والعمرانيَّةِ، والقانونيَّةِ، إلخ، قضيَّةٌ عالميَّةٌ بامتيازٍ، وكثيرًا ما كانَ محورَ أحداثٍ شغلَتِ العالمَ بأسرِه، ومنْ تلك الأحداثِ في القرنِ الأخيرِ: ثورةُ البراقِ عامَ 1929، وإحراقُ المسجدِ الأقصى عامَ 1969، وانتفاضةُ الأقصى عامَ 2000، وهبَّةُ بابِ الأسباطِ عامَ 2017، وهبَّةُ بابِ الرَّحمةِ عامَ 2019، ومعركةُ سيفِ القدسِ عامَ 2021، ومعركةُ طوفانِ الأقصى عامَ 2023، وغيرُ ذلك منَ الأحداثِ المهمَّةِ التي حفرَتْ عميقًا في كتابِ التَّاريخِ على مستوى العالمِ، وكرَّسَتْ حضورَ المسجدِ الأقصى في صميمِ التَّفاعلِ السِّياسيِّ، والحضاريِّ، والأمنيِّ.
لقدْ لحقَ بالمسجدِ الأقصى منْ صنوفِ العدوانِ، والتَّشويهِ، والتَّضليلِ، والأخطاءِ، والشُّبهاتِ، والتَّزويرِ، والتَّقصيرِ، والجهلِ ما لم يلحقْ بشقيقيْهِ المسجدِ الحرامِ، والمسجدِ النَّبويِّ الشَّريفِ، ولا بأيِّ مسجدٍ في تاريخِ الإسلامِ؛ وتفاقَمَتْ هذه المخاطرُ معَ وجودٍ احتلالٍ إسرائيليٍّ يجثمُ على صدرِ الـمسجدِ، ويسعى إلى تهويدِه والسَّيطرةِ عليه، واستغلالِ أخطاءِ المسلمينَ في معرفةِ حقيقةِ المسجدِ لفرضِ رؤيتِه عليه؛ وأدَّى كلُّ ذلك إلى تشويشٍ لا يُستهانُ به على حقيقةِ المسجدِ الأقصى، وتغييبِها في أحيانٍ كثيرةٍ، بقصدٍ وبغيرِ قصدٍ، فقُضِمَتْ أجزاءٌ منْ مِساحتِهِ الكاملةِ، وشُوِّهَتْ حدودُهُ الشَّرعيَّةُ. ويمكنُ أنْ نعزوَ هذا التَّشويشَ إلى ثلاثةِ مصادرَ أساسيَّةٍ هيَ: التباسُ العبارةِ التي ساقَها جمعٌ غفيرٌ منَ المؤرِّخينَ، والباحثينَ، والعلماءِ، والإعلاميِّينَ، والسِّياسيِّينَ، في خطاباتِهم وكتاباتِهم عنِ المسجدِ الأقصى، وجهلُ كثيرٍ منَ المسلمينَ وعامَّةِ النَّاسِ بحقيقتِهِ، وتضليلُ الاحتلالِ الصِّهيونيِّ.
وليسَتْ إشكاليَّةُ تحديدِ حدودِ المسجدِ الأقصى بجديدةٍ، بلْ إنَّ الغوصَ في أمَّاتِ المصادرِ، أوصلَني إلى أنَّ بواكيرَ ظهورِها تعودُ إلى القرنِ الخامسِ الهجريِّ؛ فقد ألمحَ إليها الرَّحَّالةُ الفارسيُّ ناصر خُسرو، الذي زارَ القدسَ عامَ 437 هـ، وذكرَ الجامعَ القِبليَّ في الأقصى، ولكنَّه سمَّاه "المسجدَ الأقصى". ويبدو أنَّ إشكاليَّةَ اختزالِ المسجدِ الأقصى بالجامعِ القِبليِّ، قدِ استشرَتْ بينَ المسلمينَ بحلولِ القرنِ السَّابعِ الهجريِّ وما بعدَه، فقدْ عرَّجَتْ عليها بوضوحٍ كوكبةٌ منَ العلماءِ والمؤرِّخينَ الذين عاشوا في القرنِ السَّابعِ، والثَّامنِ، والتَّاسعِ، والعاشرِ للهجرةِ، وانبرَى جمعٌ منَ العلماءِ والمؤرِّخينَ القدامى؛ لتصحيحِ أخطاءِ المسلمينَ في اختزالِ المسجدِ الأقصى بالجامعِ القِبليِّ، ومنهم: الشَّيخُ ابنُ تَيْمِيَّةَ، والمؤرِّخُ ابنُ فضلِ اللهِ العمريُّ، والمؤرِّخُ القَلْقَشَنديُّ، وقاضي القضاةِ مؤرِّخُ القدسِ مجيرُ الدِّينِ العُلَيْميُّ، وكانَ دافعُهم إلى التَّصحيحِ شيوعَ خطأِ اختزالِ المسجدِ الأقصى بالجامعِ القِبليِّ بينَ عامَّةِ المسلمينَ جهلًا.
ومعَ تقدُّمِ الزَّمنِ، اتَّسَعَتْ رقعةُ الخطأِ المتمثِّلِ باختزالِ المسجدِ الأقصى بأحدِ معالمِه، وأُضِيفَ إلى هذا الخطأِ رواجُ تسميةٍ غيرِ صحيحةٍ منَ النَّاحيةِ الشَّرعيَّةِ، أسهمَتْ في مزيدٍ منَ التَّشويشِ والالتباساتِ، هيَ تسميةُ "الحَرمِ القُدْسيِّ الشَّريفِ". والرَّاجحُ أنَّ السَّببَ الرَّئيسَ وراءَ شيوعِ وصفِ المسجدِ الأقصى بـ"الحرمِ" يُعزَى إلى رغبةِ المسلمينَ في تعظيمِه وتبجيلِه أسوةً بشقيقيْهِ الحرميْنِ: المسجدِ الحرامِ في مكَّةَ المكرَّمةِ، والمسجدِ النَّبويِّ الشَّريفِ في المدينةِ المنوَّرةِ. وقد فصَّلَ البحثُ في هذه المسألةِ نسبيًّا؛ بُغيَةَ تقديمِ رأيٍ علميٍّ متوازنٍ يُسهمُ في سدِّ بابِ الفُرقةِ، والمناكفاتِ، والاتهاماتِ بينَ أبناءِ الأمَّةِ الإسلاميَّةِ. ومعَ وجودِ فُسحةٍ لإطلاقِ وصفِ "الحرمِ" على المسجدِ الأقصى في السِّياقِ العُرْفيِّ واللُّغَويِّ؛ فإنَّ ذلك أدَّى إلى توسيعِ رُقعةِ الأخطاءِ المتعلِّقةِ بمعرفةِ حقيقةِ المسجدِ الأقصى في أذهانِ المسلمينَ وغيرِهم، وظهرَتْ شرائحُ عريضةٌ بينَ النَّاسِ، نُخَبِهمْ وعامَّتِهم، يعتقدونَ أنَّ "الحرمَ القدسيَّ الشَّريفَ" شيءٌ، والمسجدَ الأقصى شيءٌ آخرُ، فالأوَّلُ عندَهم ذلك الـمُجمَّعُ العمرانيُّ الكبيرُ بمبانيه كلِّها الواقعةِ داخلَ الأسوارِ، والثَّاني عندَهم هو الجامعُ القِبليُّ فقط، وهذا غَلَطٌ فادحٌ.
كانَ خطأُ اختزالِ المسجدِ الأقصى بالجامعِ القِبليِّ الذي انتشرَ بكثرةٍ في التداولِ الإسلاميِّ محدودَ الخطورةِ؛ لأنَّ أسبابَه الأساسيَّةَ كانَتِ الجهلَ البسيطَ، أوِ الرَّغبةَ في تعظيمِ المسجدِ. ومعَ سقوطِ المسجدِ الأقصى بيدِ الصهاينةِ عامَ 1967 م اختلفَتِ الأمورُ، وتضاعفَتِ الخطورةُ؛ لأنَّ المسجدَ الأقصى أصبحَ بيدِ احتلالٍ يعتاشُ على أخطاءِ المسلمينَ وعامَّةِ الناسِ، ويجنِّدُ كلَّ إمكانيَّاتِه لاختلاقِ الأكاذيبِ والأساطيرِ والمزاعمِ؛ لإثباتِ "حقٍّ" مزعومٍ لليهودِ في المسجدِ الأقصى الذي يزعمُ الاحتلالُ الصِّهيونيُّ أنَّهُ الجامعُ القِبليُّ فقط، وأنَّ ساحاتِ الأقصى ليسَتْ جزءًا منه، بل هيَ ساحاتٌ عامَّةٌ وحقٌّ مشترَكٌ لجميعِ النَّاسِ. وزادَ الطِّينَ بِلَّةً وجودُ أطرافٍ عربيَّةٍ وإسلاميَّةٍ ودوليَّةٍ، تواطأَتْ معَ الاحتلالِ الصِّهيونيِّ، وتبنَّتْ روايتَه ورؤيتَه الفاسدتيْنِ. تجلَّى ذلك بوضوحٍ في ما عُرِفَ بوثيقةِ "صفقةِ القرنِ" التي أعلنَ عنها الرَّئيسُ الأمريكيُّ السَّابقُ دونالد ترمب عامَ 2020، وشكَّلَتْ أرضيَّةً ومرجعيَّةً لاتفاقيَّاتِ أبراهامَ التَّطبيعيَّةِ التي وُقِّعَتْ في العامِ نفسِه، بينَ كِيانِ الاحتلالِ الصِّهيونيِّ وبعضِ الدُّولِ العربيَّةِ، وقدْ تواطأَ الاحتلالُ، والإدارةُ الأمريكيَّةُ، ودولُ التَّطبيعِ على نسفِ حقيقةِ المسجدِ الأقصى؛ إذ جعلوه الجامعَ القِبليَّ فقط، وهو يمثِّلُ ثلاثةً منْ مئةٍ منْ مِساحةِ المسجدِ الأقصى، وزعمُوا أنَّ ساحاتِ الأقصى ليسَتْ جزءًا منه، ويجبُ أنْ تكونَ مشتركةً بينَ أتباعِ جميعِ الشَّرائعِ، ومنها اليهوديَّةُ.
وهكذا اجتمعَتْ على المسجدِ الأقصى سيوفُ الجهلِ، والاحتلالِ، والتَّطبيعِ، والتَّآمرِ، واشتدَّتِ المعركةُ منْ أجلِ تهويدِه، وتقسيمِه، وتقزيمِه، وأدَّى غبارُ المعركةِ الكثيفُ الذي أُثيرَ حولَ المسجدِ الأقصى، إلى إحداثِ تشويشٍ غيرِ مسبوقٍ على حقيقةِ حدودِه ومِساحتِه.
وربَّما كانَ ابنُ فضلِ اللهِ العمريُّ المتوفَّى في منتصفِ القرنِ الثَّامنِ الهجريِّ/منتصفِ القرنِ الرَّابعَ عشرَ الميلاديِّ سبَّاقًا في إيرادِ كلمةِ "حقيقةِ" في سياقِ تثبيتِ الوصفِ الشَّرعيِّ الدَّقيقِ للمسجدِ الأقصى بقولِه: "إنَّما حقيقةُ المسجدِ الأقصى جميعُ ما يحيطُ بهِ السُّورُ" (انظرْ في مصادرِ البحثِ: مسالكُ الأبصارِ في ممالكِ الأمصارِ، ج 3، ص 375). وذهبَ المؤرِّخُ القَلْقَشَنْدِيُّ الذي توفِّيَ بعدَ ابنِ فضلِ اللهِ العمريِّ بنحوِ سبعينَ عامًا إلى مثلِ ما ذهبَ إليهِ الأخيرُ، مورِدًا لفظةَ "الحقيقةِ" في سياقِ التَّعبيرِ عنْ حقيقةِ المسجدِ الأقصى؛ إذْ قالَ: "المسجدُ الأقصى على الحقيقةِ جميعُ ما هو داخلَ السُّورِ" (انظرْ في مصادرِ البحثِ: صبحُ الأعشى في قوانينِ الإنشا، ج 4، ص 101).
وفي زمنِنا المعاصرِ نبَّهَ علماءُ وباحثونَ مسلمونَ، منْ غيابِ حقيقةِ المسجدِ الأقصى أو تغييبِها، عنْ جمهورٍ عريضٍ منَ المسلمينَ، وحذَّروا منْ خطورةِ ذلك، وطالبُوا ببذلِ جهودٍ لإظهارِها، ومنهم الدُّكتورُ نوَّاف هايل التَّكروريُّ الذي قالَ: "تكادُ تكونُ حقيقةُ المسجدِ الأقصى المباركِ غيرَ واضحةٍ في أذهانِ كثيرٍ منَ المسلمينَ، ما حدودُه؟ وعلى ماذا يشتملُ؟ ممَّا يقتضي التَّوضيحَ والتَّنويهَ، وهذا الخللُ في تحديدِ المسجدِ الأقصى ليسَ جديدًا" (انظرْ في مراجعِ البحثِ: ما اختُصَّ به المسجدُ الأقصى عنِ المسجديْنِ منْ فضائلَ وأحكامٍ، ص 256). وذهبَ الباحثُ المختصُّ بشؤونِ القدسِ الأستاذُ زياد ابحيص إلى إدراجِ "إشكاليَّةِ تعريفِ المسجدِ الأقصى المباركِ" ضمنَ أبرزِ إشكاليَّاتِ الموقفِ العربيِّ الإسلاميِّ تُجاهَ القدسِ (انظرُ في مراجعِ البحثِ: الموقفُ العربيُّ الإسلاميُّ تُجاهَ القدسِ، ص 27 - 31).
وقد تقصَّيْتُ إشكاليَّةَ تعريفِ المسجدِ الأقصى خطأً على صعيدِ حدودِه ومِساحتِه؛ فألفَيْتُها متجسِّدَةً في تفرُّعاتِها الآتيةِ التي سأعرِّجُ عليها، وأضيءُ على عملي في دراستِها ومناقشتِها، وبهذا أكونُ قد أوجزْتُ عملي في هذا البحثِ، وأبرزْتُ أهمَّ نتائجِه، وجوانبِ الجِدَّةِ والأهميَّةِ فيه.
أوَّلًا: خطأُ اختزالِ المسجدِ الأقصى ببعضِ معالمِه، وخاصَّةً الجامعَ القِبليَّ، وتصدَّيْتُ لهذا الخطأِ عبرَ استقراءِ المصادرِ، وخاصةً القديمةَ، وعدْتُ إلى سبعةَ عشرَ مصدرًا منْ شتَّى القرونِ، وَصَفَتْ حقيقةَ المسجدِ الأقصى بدقَّةٍ، وأكَّدَتْ أنَّه كلُّ ما دارَ عليه السُّورُ، وأنَّ الجامعَ القِبليَّ، وقبةَ الصَّخرةِ جزءانِ منه. وهذا التَّوسعُ في العودةِ إلى هذه المصادرِ، يُعَدُّ الأشملَ بينَ الدِّراساتِ ذاتِ الصِّلةِ، التي تكتفي بإيرادِ ما قالَه الشَّيخُ ابنُ تَيْمِيَّةَ والمؤرِّخُ مجيرُ الدِّينِ العُلَيْمِيُّ فقط. وانتهى بي البحثُ إلى اقتراحِ تعريفٍ جامعٍ مانعٍ للمسجدِ الأقصى، وسوَّغْتُ عناصرَ هذا التَّعريفِ.
ثانيًا: إشكاليَّةُ إطلاقِ تسميةِ "الحرمِ القدسيِّ الشَّريفِ" على المسجدِ الأقصى؛ إذ نقلْتُ إجماعَ العلماءِ على أنَّ المسجدَ الأقصى ليسَ حرمًا بالمعنى الشَّرعيِّ، ولكنِّي أولَيْتُ هذه المسألةَ التي أثارَتِ الجدلَ بينَ شرائحَ عريضةٍ منَ المسلمينَ، قسطًا منَ الدِّراسةِ والمناقشةِ وإبداءِ الرأيِ، فتعقَّبْتُ بداياتِ ظهورِ وصفِ المسجدِ الأقصى بـ"الحرمِ"، وشيوعِ هذا الوصفِ منذُ أواخرِ العصرِ الأيوبيِّ، واجتهدْتُ في ترجيحِ أسبابِ هذا الشُّيوعِ، وأوردْتُ أنَّ المسلمينَ يُطلقونَ وصفَ "الحرمِ" على المسجدِ الأقصى، ويقصدونَ بالإجمالِ العُرفَ القوليَّ أوِ المعنى اللُّغويَّ، كحرمِ البيتِ وحرمِ الجامعةِ، أو أنَّهم يبتغونَ التَّغليبَ في قولِهم "ثالثُ الحرميْنِ". وارتباطًا بأوصافِ المسجدِ الأقصى تتبَّعْتُ وناقشْتُ وصفَ "المشرَّفةِ" لقُبَّةِ الصَّخرةِ، و"الشَّريفِ" لحائطِ البُراقِ، ورجَّحْتُ جوازَهما معَ رفضِ المبالغاتِ والتَّجاوزاتِ التي لا تمثِّلُ السُّلوكَ الإسلاميَّ الصَّحيحَ تُجاهَ مَعلَميْنِ منْ أهمِّ معالمِ المسجدِ الأقصى. وهذه المقاربةُ التي استحضرَتْ أقوالَ الفقهاءِ، واستعمالاتِ عامَّةِ المسلمينَ، هدفَتْ إلى تثبيتِ حقيقةِ أنَّ المسجدَ الأقصى ليسَ حرمًا بالمعنى الشَّرعيِّ، وأنَّ كلَّ أجزائِه ينطبقُ عليها وصفُ الشَّريفِ، لأنَّها جزءٌ منْ مسجدٍ مباركٍ ومقدَّسٍ، وأنَّ الاختلافَ في الآراءِ في هذه المسألةِ، ليسَ مسوِّغًا لإطلاقِ أحكامِ التَّبديعِ والتَّكفيرِ والتَّجريحِ على المسلمينَ الذين لا أشكُّ في مقصودِهم عمومًا، وهو تبجيلُ المسجدِ الأقصى، وليسَ مسوِّغًا لتبخيسِ مكانةِ الأقصى، وافتعالِ معاركَ في أمَّةٍ يكفيها ما فيها منْ خصوماتٍ أثخَنَتْ في جسدِها. والأحرَى أنْ نلتفتَ إلى استغلالِ الاحتلالِ الصِّهيونيِّ، تسميةَ "الحرمِ القدسيِّ الشَّريفِ"؛ للادِّعاءِ أنَّ الحرمَ يعنيَ المجمَّعَ كاملًا داخلَ السورِ، وأنَّ المسجدَ الأقصى هو الجامعُ القبليُّ فقط، وهكذا أصبحَ "الحرمُ القدسيُّ" غيرَ المسجدِ الأقصى، وهذا باطلٌ ومشبوهُ الغاياتِ. وفي سياقِ الحديثِ عنْ أوصافِ الأقصى وتسمياتِهِ، عرَّجتُ على محاولاتِ الصَّهاينةِ فرضَ التَّعريفِ اليهوديِّ للمُقدَّسِ على المسجدِ الأقصى، عبرَ منعِ لعبِ الأطفالِ فيه، لأنَّ اللَّعبَ في المكانِ المقدَّسِ عندَ اليهودِ حرامٌ، ونقلْتُ أقوالَ علماءِ المسلمينَ الذينَ أباحُوا ذلكَ بضوابطَ، وفتحْتُ أفقًا في هذه المسألةِ، داعيًا إلى دراستِها بشموليَّةٍ فقهيَّةٍ مقاصديَّةٍ، تأخذُ بعينِ الاعتبارِ الحاجةَ إلى عمارةِ المسجدِ الأقصى، في ظلِّ سعيِ الاحتلالِ إلى تفريغِه منَ المسلمينَ.
ثالثًا: شيوعُ مزاعمَ وأخطاءٍ تتلخَّصُ بأنَّ ساحاتِ المسجدِ الأقصى المكشوفةَ، ليسَتْ جزءًا منه، بل هي ساحاتٌ عامَّةٌ. وقد أصَّلْتُ هذه المسألةَ، واستعرضْتُ أقوالَ أعلامٍ منْ فقهاءِ المذاهبِ الأربعةِ في مسألةِ رَحَبَةِ المسجدِ أيْ ساحاتِه، وخَلَصْتُ إلى وجودِ إجماعٍ بينَ الفقهاءِ، على أنَّ ساحةَ المسجدِ المكشوفةَ والمسوَّرةَ بسورِه، هي جزءٌ منه ولها أحكامُه، وطبَّقْتُ ذلك على المسجدِ الأقصى؛ لإثباتِ أنَّ ساحاتِه أو رَحَبَتَه بالاصطلاحِ الشَّرعيِّ جزءٌ منه، ولها أحكامُه. وهذه الخلاصةُ تسهمُ في تصحيحِ أخطاءِ عامَّةِ الناسِ، وتدحضُ مزاعمَ الاحتلالِ الصِّهيونيِّ وحلفائِه منَ العربِ والغربِ، أنَّ ساحاتِ المسجدِ الأقصى المكشوفةَ، ليسَتْ جزءًا منه، بل هي ساحاتٌ عامَّةٌ، يحقُّ لجميعِ النَّاسِ دخولُها، والتعبُّدُ فيها، ومنهم اليهودُ.
رابعًا: غيابُ الدِّراساتِ عنْ حريمِ المسجدِ الأقصى في ما أعلمُه، وأدَّى ذلك إلى تجرُّؤِ الاحتلالِ الصِّهيونيِّ على حريمِ المسجدِ الأقصى، ووجودِ اضطراباتٍ في التَّصريحاتِ الإسلاميَّةِ والدوليَّةِ المتَّصلةِ بهِ. وقدْ حرَّرْتُ هذهِ القضيةَ، مبيِّنًا أنَّ حريمَ المسجدِ الأقصى، هو كلُّ المرافقِ والمعالمِ والمباني والملحقاتِ والتَّوابعِ والأوقافِ المتَّصلةِ به منْ خارجِه، أو المحيطةِ به والموقوفةِ لمنفعتِهِ وحاجاتِه، وحاجاتِ المصلِّينَ فيه. وأوضحْتُ أنَّ حريمَ المسجدِ الأقصى، وإنْ لم يكنْ جزءًا منْ مِساحتِه، بيدَ أنَّ له حقوقَه منْ جهةِ وجوبِ حمايتِهِ، والحفاظِ على نظافتِهِ وصيانتِهِ، وحُرمةِ الاعتداءِ عليه، والانتفاعِ بهِ، وجوازِ الصَّلاةِ فيه إنِ امتلأَ المسجدُ الأقصى، وغيرِ ذلك منْ حقوقٍ. وأحسبُ أنَّ هذا أولُ بحثٍ أصَّلَ مسألةَ حريمِ المسجدِ الأقصى وبيَّنَ حقوقَه.
خامسًا: وجودُ التباساتٍ وشبهاتٍ حامَتْ حولَ بعضِ معالمِ المسجدِ الأقصى، فاشتُبِهَ في أمرِها: هل هيَ منْ ضمنِ حدودِه الشَّرعيَّةِ، أو هي خارجَه ومنْ حريمِه؟ وتناولَ البحثُ بالدِّراسةِ ثلاثةَ معالمَ هيَ أبرزُ ما تعرَّضَ للتَّشويشِ، هيَ: تلَّةُ بابِ المغاربةِ، والزاويةُ الخُتَنِيَّةُ، وحائطُ البراقِ. وكانَ البحثُ في هذه المعالمِ أشبهَ ما يكونُ بمختبرٍ تطبيقيٍّ طبَّقْتُ فيه ما توصلْتُ إليه نظريًّا في مسائلِ أوصافِ المسجدِ الأقصى، وحدودِه، ورَحَبَتِه، وحريمِه، وبيَّنْتُ بالأدلَّةِ والوثائقِ أنَّ حائطَ البراقِ جزءٌ أصيلٌ منَ المسجدِ الأقصى وله أحكامُه، وأنَّ تلَّةَ بابِ المغاربةِ والزَّاويةَ الخُتَنِيَّةَ ليسَتَا جزءًا منه، بل هما منْ حريمِه، ولهما حقوقُه. وعرَّجْتُ في هذا السِّياقِ على اعتداءاتِ الصَّهاينةِ ومزاعمِهم الباطلةِ التي تتعلَّقُ بهذه المعالمِ. وتُشكِّلُ خلاصاتُ البحثِ في هذه المعالمِ، معاييرَ تصلحُ للتَّطبيقِ على جميعِ المعالمِ الموجودةِ داخلَ الأقصى أوِ المتَّصلةِ بهِ، لتحديدِ ما إذا كانَتْ جزءًا منه أو منْ حريمِهِ.
هذه أبرزُ الإشكاليَّاتِ والمساراتِ والنَّتائجِ في هذا العملِ البحثيِّ المتواضعِ، وإذا كانَ لزامًا على كلِّ قادرٍ في الأمَّةِ أنْ يبذلَ جهدًا لرفعِ الظُّلمِ الذي تعدَّدَتْ أشكالُه وغاياتُه عنِ المسجدِ الأقصى، فإنَّ هذا البحثَ هو منْ قَبيلِ نصرةِ المسجدِ الأقصى، وتبديدِ بعضِ الشُّبهاتِ حولَه، وتِبْيانِ حقيقتِهِ وحقِّهِ، وتقديمِ تأصيلٍ شرعيٍّ لأوصافِه، وحدودِه، ورَحَبَتِه، وحريمِه، بما يصحِّحُ بعضَ الأخطاءِ في تعريفِهِ، ويدرأُ عنه بعضَ الشُّبهاتِ، ويرسِّخُ نظرةَ الإسلامِ الصَّحيحةَ والرَّفيعةَ إليه مكانًا ومكانةً. وأحمدُ اللهَ أنْ وفَّقَ لإنجازِه، وشغلَ عقولَنا، وقلوبَنا، وأقلامَنا، وأوقاتَنا بقضيَّةٍ مباركةٍ كقضيَّةِ المسجدِ الأقصى.
وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ
هِشَام يَعْقُوب
رئيسُ قِسْمِ الأبحاثِ والمعلوماتِ
في مؤسَّسةِ القُدْسِ الدوليَّةِ