الأقصى في ذكرى إحراقه.. نصف قرن على محاولات الإحلال الديني والعزل

  • الجمعة 22, أغسطس 2025 10:25 ص
  • الأقصى في ذكرى إحراقه.. نصف قرن على محاولات الإحلال الديني والعزل
لا تزال ألسنة اللهب مستعرة في المسجد الأقصى منذ أحرق في 21 أغسطس 1969، إذ مثلت الحادثة بداية فصول جديدة من الاعتداءات والسعي الحثيث لطمس الهوية الإسلامية للمسجد. وتكشف تقارير أن الحريق الجسيم طال واجهات المسجد الأقصى وسقفه وسجاده وزخارفه النادرة، ودمر المصاحف والأثاث، وخسفت عشرات النوافذ الخشبية والجصية الملونة، كما تضررت أجزاء من محراب زكريا ومسجد عمر، والمهمة العمرانية للمكان، ما استلزم سنوات طويلة لإعادة الترميم الوجيهي للمسجد.
الأقصى في ذكرى إحراقه.. نصف قرن على محاولات الإحلال الديني والعزل الجغرافي
المركز الفلسطيني للإعلام
لا تزال ألسنة اللهب مستعرة في المسجد الأقصى منذ أحرق في 21 أغسطس 1969، إذ مثلت الحادثة بداية فصول جديدة من الاعتداءات والسعي الحثيث لطمس الهوية الإسلامية للمسجد. وتكشف تقارير أن الحريق الجسيم طال واجهات المسجد الأقصى وسقفه وسجاده وزخارفه النادرة، ودمر المصاحف والأثاث، وخسفت عشرات النوافذ الخشبية والجصية الملونة، كما تضررت أجزاء من محراب زكريا ومسجد عمر، والمهمة العمرانية للمكان، ما استلزم سنوات طويلة لإعادة الترميم الوجيهي للمسجد.
ولأكثر من نصف قرن، يتعرّض الأقصى لسياسة إسرائيلية ممنهجة تستهدف تقسيمه زمانياً ومكانياً، من خلال تكثيف الاقتحامات اليومية للمستوطنين بحماية شرطة الاحتلال، وفرض قيود مشددة على دخول المصلين الفلسطينيين، إضافة إلى محاولات علنية لتمرير مشروع “الهيكل المزعوم” على أنقاضه.
وخلال السنوات الأخيرة، خصوصاً منذ عام 2021، شهد المسجد تصعيداً غير مسبوق بالإجراءات التوراتية التي يسعى المستوطنون لفرضها بالقوة، تحت حماية قوات الاحتلال. فقد بدأ المستوطنون بمحاولات أداء “السجود الملحمي” (السجود الكامل على الأرض) داخل باحات الأقصى، في خطوة تحمل دلالة دينية توراتية تعتبره “افتتاحاً رمزياً لبناء الهيكل”.
كما كثّف ما يسمى “جماعات الهيكل” محاولات ذبح القرابين الحيوانية في محيط المسجد خلال الأعياد اليهودية، ولا سيما عيد “الفصح”، وسط مساعٍ لإدخال هذه الطقوس إلى داخل الحرم القدسي نفسه. إلى جانب ذلك، جرى رفع الأعلام الإسرائيلية وترديد النشيد التوراتي في باحات الأقصى خلال مسيرات المستوطنين، في انتهاك صارخ للوضع التاريخي والقانوني للمكان، بينما شرعت شرطة الاحتلال في توسيع “التقسيم الزماني” عبر تخصيص أوقات أطول لاقتحامات المستوطنين على حساب أوقات وجود المصلين المسلمين.
وتتكامل هذه الممارسات مع سياسة استيطانية أشمل تحاصر المسجد من الخارج. ففي محيط القدس تواصل حكومة الاحتلال الدفع بمشروع E1 الذي يحمل رؤية استيطانية استراتيجية تهدف إلى ربط مستوطنة معاليه أدوميم بشرقي القدس المحتلة عبر أكثر من 3400 وحدة استيطانية جديدة على حساب 12 كم2 من الأراضي الفلسطينية، في خطوة يعتبرها مراقبون محاولة لإطباق السيطرة الإسرائيلية على القدس وعزلها نهائياً عن امتدادها الفلسطيني في الضفة الغربية، ما يعني تفريغ الحديث عن عاصمة فلسطينية في شرقي من مضمونه، كما يفترضها حل الدولتين الذي لم يتبقى شيئاً من أثره.
من نزع الهوية إلى فرض السيطرة
وفي تقريره البحثي المعنون “المنطقة الشرقية بالمسجد الأقصى المبارك في مشروع الحركة الصهيونية”، يُسلّط الدكتور عبد الله معروف الضوء على تطور النظرة الصهيونية إلى المسجد الأقصى، التي تروم تدريجياً نزع هويته الإسلامية وفرض هيمنة دينية وسياسية عليه.
وينطلق معروف من أن الاحتلال الإسرائيلي بعد العام 1967، تحاشى ملامسة الحساسية الدينية العميقة المرتبطة بالأقصى، فاتّبع نهجاً تدريجياً يقيم من خلاله أمر واقع جديد: من المنع الصريح والدخول الفردي المحدود، إلى مشروع تقسيم زماني ومكاني يسبق مخطط السيطرة الكامل.
ويلفت الخبير في شؤون القدس، إلى أن التطور الأهم يتركّز في المنطقة الشرقية للمسجد، في محيط باب الرحمة تحديداً، حيث تُظهر هذه البقعة مؤهلات استراتيجية ودينية تُرجح استخدامها كمدخل رمزي للتحكم في المسجد، على خلفية أهميتها في التصورات التوراتية المتعلقة بـ”المسيح المنتظر” (المشيح).
وفي هذا السياق، يقول معروف إن الباب ومحيطه يعتبر نقطة ارتكاز لدى جماعات متطرفة صهيونية تُعرف بـ”جماعات المعبد”، التي تطالب بهدم الهوية الإسلامية وإحياء الطقوس اليهودية في هذه المنطقة.
ويشير إلى أن الاحتلال ينظر إلى المنطقة الشرقية باعتبارها حلاً بديلاً في حال تعذّر فرض سيطرته في المناطق الأخرى، مثل الجناح الجنوبي الغربي من الأقصى.
ويبين أن هذه المنطقة خضعت لانتهاكات متكررة – من إغلاق باب الرحمة في 2003 إلى محاولات استهداف مقبرة باب الرحمة، التي تمثل عقبة دينية لليهود حسب العقيدة التوراتية – إلا أن الهبّات المقدسية المتعاقبة (هبّة باب الأسباط 2017، وهبّة باب الرحمة 2019، واقتحام 28 رمضان 2021) أثبتت أن الحاضنة الشعبية المقدسية تمثل درعاً حاسماً لكل المحاولات الصهيونية لتفريغ المنطقة الشرقية من أهلها.
ويرى معروف أن المشروع الصهيوني في الأقصى—من محاولة حصر الدخول بالتقيّد الديني إلى تنفيذ طقوس رمزية، وصولاً إلى التقسيم المكاني والزماني—محكوم عليه بالفشل ما لم يُطبَق تطهير عرقي شامل. وهو ما يستبعده الآن، نظراً لصمود المقدسيين وقوّتهم الشعبية الراسخة.
إحلال ديني كامل
ويؤكد الباحث في شؤون القدس زياد بحيص أن سلطات الاحتلال تجاوزت التقسيم الزماني والمكاني في المسجد الأقصى نحو إحلال ديني كامل، وهي رؤية صهيونية لا تكتفي بإخضاع الأقصى للسيطرة، بل تسعى إلى إزالة المسجد ذاته وإقامة “الهيكل” مكانه.
ويضيف في حديث سابق نشره موقع فلسطين أون لاين، هذا المشروع رغم بعده الزمني وصعوبته، يتقدم بخطوات مدروسة تقوم على تحويل الأقصى من مقدس إسلامي خالص إلى مقدس مشترك، عبر ثلاث مسارات: التقسيم الزماني، والمكاني، والتأسيس المعنوي للهيكل من خلال الطقوس التوراتية.
ويردف بحيص، على الأرض، تمكن الاحتلال من فرض هوية دينية يهودية موازية لهوية الأقصى الإسلامية، ما يعني الانتقال من عتبات التهويد إلى مراحل أكثر تقدمًا منه.
وفي إطار الربط بين الديني والسياسي، يوضح بحيص أن المسجد الأقصى أصبح عنوانا رمزيا لمرحلة “الحسم” التي أعلن عنها الوزير الصهيوني المتطرف بتسلئيل سموتريتش في عام 2017، وهي السنة نفسها التي دشن فيها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب نقل سفارة بلاده إلى القدس المحتلة.
تلك المرحلة شهدت سلسلة من المواجهات، بدأت بهبة باب الأسباط، مرورا بهبة باب الرحمة، ومعركة سيف القدس، والاعتكاف، وصولا إلى “طوفان الأقصى”. وفقا لبحيص، فإن تغيير هوية المقدس يمهد لتغيير هوية الأرض والسيادة والسياسة، لأن المسجد الأقصى يشكل عقدة الهوية الأكثر حساسية، مما يجعله في قلب معركة الوجود الفلسطيني.
قوس التهويد
ويمتد المشروع الصهيوني بحسب بحيص إلى جغرافيا أوسع من القدس، متخذا من الخليل نموذجا متقدما للإحلال الديني. فما يجري في المسجد الإبراهيمي، وتوسيع الاستيطان جنوب الضفة الغربية المحتلة باتجاه القدس، يعكس محاولة لصياغة ما يسميه “قوسا تهويديا” يربط بين مدن مركزية في الرواية التوراتية: الخليل، بيت لحم، والقدس.
الهدف من ذلك ليس فقط السيطرة الجغرافية، بل تغيير الهوية الرمزية للمكان وتحويله إلى جزء من “الجغرافيا المقدسة اليهودية”، تمهيدا لنقل مركز الثقل من الساحل إلى الداخل الفلسطيني. أما على مستوى السياسات المؤسسية، فيؤكد بحيص أن المشروع الصهيوني تجاه المسجد الأقصى لم يعد مجرد فعل لجماعات متطرفة، بل بات سياسة رسمية للدولة العميقة في “إسرائيل”.
ويتبنى هذا المشروع حزب الليكود، كما تتبناه الصهيونية الدينية، ويمضي فيه الشاباك والشرطة والجيش والمحاكم، وكل ذلك بتناغم مع منظمات “الهيكل” التي تمثل رأس الحربة في تنفيذ الاقتحامات وفرض الطقوس.
طقوس توراتية ثابتة
ويشير الباحث المقدسي، إلى أن جيش الاحتلال بات يتعامل مع المسجد الأقصى كجزء من عقيدته التعبوية، حيث ترفع رايات “الهيكل” على الدبابات، وتطبع رموز “المسيح المخلص” على الملابس العسكرية، في مشهد يعكس التداخل الكامل بين التوراة والدولة.
وفي هذا السياق، أشار بحيص إلى أن الاحتلال يسعى لفرض “طقوس دينية ثابتة” في مواعيد محددة ضمن الأعياد اليهودية، كوسيلة لتثبيت هوية توراتية للمكان.
ومنذ اقتحام عيد الأضحى عام 2019، بدأ الاحتلال عمليا بترسيخ هذه الطقوس، بما يوازي التأسيس لـ”سيادة رمزية قانونية” وإن لم تكن مشروعة بالمعنى الدولي. هنا يشدد بحيص على أن الاحتلال، رغم احتكاره للقوة، يظل مفتقدا للشرعية، والسيادة الحقيقية تتطلب الاعتراف الدولي والشعبي، وهو ما يفتقده الكيان الصهيوني في الأقصى، لذا فإن الاعتراف بأي سيادة صهيونية على المسجد يعد خيانة لمبدأ المقاومة.