غزة وسباق الاحتلال مع الفشل: ما وراء عربات جدعون وتصريحات ترامب
بقلم: إبراهيم المدهون
في اللحظة التي تتكثف فيها العمليات العسكرية الإسرائيلية على مدينة غزة وشمالها، يظهر بوضوح أن الاحتلال يخوض سباقًا محمومًا مع الزمن. لم يعد الأمر متعلقًا بخطة منظمة أو مراحلية، بل بمحاولة يائسة لاستثمار ما تبقى من الوقت قبل أن يفرض عليه وقف الحرب. التصعيد الأخير لا يعكس قوة إسرائيلية بقدر ما يكشف عن قلق استراتيجي عميق. فكل يوم إضافي يسمح به المناخ الدولي، تحاول إسرائيل أن تملأه بالنار والدمار، على أمل تحقيق أي إنجاز يسوق داخليًا على أنه "نصر"، في حين أن جوهر الواقع يقول إن هذه الحرب الطويلة أوشكت على الوصول إلى لحظة اعتراف صريح بالفشل.
في مطلع مايو أيار الماضي، أعلن المجلس الوزاري الأمني المصغر الكابينت عن إطلاق خطة عسكرية جديدة أطلق عليها اسم "عربات جدعون"، وهي في جوهرها عملية عسكرية تهدف إلى كسر صمود المقاومة، واستنزاف قدراتها، ومحاولة الضغط عليها سياسيًا وأمنيًا للوصول إلى اتفاق تبادل أسرى بشروط الاحتلال. العملية كانت تستند إلى ثلاث مراحل وعدة أدوات ضغط متزامنة، منها تشديد الحصار، توسيع التدمير، تكثيف القصف، واستخدام الورقة الإنسانية. لكن بعد مرور أكثر من ستة أسابيع، لم تحقق هذه العملية شيئًا يُذكر من أهدافها المعلنة.
بدلًا من أن تقلب موازين المعركة، تكشف "عربات جدعون" أن الاحتلال لا يمتلك إلا التكرار. يعيد الدخول من نفس المحاور، ويجهد قواته في نفس النقاط، ويتلقى الخسائر تلو الأخرى، دون أن يستطيع كسر البنية الصلبة للمقاومة أو الوصول إلى قياداتها العسكرية الفاعلة. وهذا ما يجعلنا نقرأ تكثيف العمليات في هذه الأيام تحديدًا، ليس بوصفه مرحلة جديدة من الخطة، بل محاولة لإخراج المشهد الختامي بشكل لا يبدو فيه الاحتلال مهزومًا تمامًا.
هذا التصعيد الإسرائيلي يأتي أيضًا في ظل تزايد المؤشرات على تآكل الغطاء الدولي للحرب. فقد خرج الرئيس الأميركي دونالد ترامب، الحليف الأبرز لإسرائيل، بتصريح مباشر يقول فيه: "على إسرائيل أن تنهى الحرب، لقد قتلت ما يكفي". وهذا التصريح ليس عابرًا، فهو يعكس بداية تشكل رأي عام دولي أكثر حرجًا من استمرار العدوان، ويرسل إشارات واضحة للقيادة الإسرائيلية بأن هامش المناورة يضيق، وأن مرحلة ما بعد الحرب باتت قريبة، وأنهم لا يمكنهم البقاء في هذا المستنقع بلا أفق.
الاحتلال يعرف أن ما تبقى من الوقت ليس كثيرًا، ولهذا يحاول استخدام كل ما لديه من أوراق دفعة واحدة، دون انتظار. تكثيف العمليات في غزة، واستدعاء عشرات آلاف جنود الاحتياط، وتوسيع رقعة الدمار في قلب المدينة، كلها تعكس هذا الارتباك، وهذه الحاجة العاجلة إلى خلق صورة "نصر موهوم" قبل أن تغلق الأبواب أمامه. لكن الواقع يقول إن المقاومة لا تزال تقف، لا بل تتطور وتباغت وتؤلم. العمليات النوعية الأخيرة، من تدمير آليات متقدمة، إلى استهداف نقاط التجمعات، تثبت أن المقاومة لم تستنزف، وأنها ما زالت تمسك بأعصاب المعركة.
في المقابل، يتواصل المشهد الإنساني بالغ الخطورة في الجنوب، مع دعوات إسرائيلية جديدة للإخلاء باتجاه المواصي على الساحل، وهي منطقة شديدة الازدحام، خالية من مقومات الحياة. هذا الضغط البشري المكثف ليس مجرد ضرورة ميدانية، بل تكتيك محسوب يمكن أن يُستثمر لاحقًا في سياق مشروع تهجيري صامت. فإسرائيل لم تتخلَّ بعد عن فكرة التهجير القسري، وإن لم تعلنها صراحة الآن، وهي تنتظر اللحظة المناسبة لتطرحها كحل مفروض "لأزمة إنسانية" افتعلتها بنفسها.
كل ما سبق يؤكد أننا أمام أيام شديدة الخطورة. الاحتلال يحاول أن يحسم شيئًا ما قبل أن تفرض عليه نهاية الحرب من الخارج أو من الداخل. إذا فشلت محاولته الأخيرة في القضاء على البنية العسكرية للمقاومة، وإذا تواصلت عمليات المقاومة النوعية، وازداد الضغط الدولي كما تشير التطورات فإن الاحتلال سيتجه نحو قبول صفقة تبادل بشروط متوازنة، أو الدخول في مرحلة سياسية جديدة قد تكون أشد مرارة من الهزيمة العسكرية.
المقاومة اليوم لا تدافع فقط، بل تعيد كتابة شروط المواجهة. صامدة رغم الجوع، قوية رغم الخراب، ومصممة على ألا تمنح الاحتلال نهاية مريحة لحرب بدأها بوحشية، ولن ينهيها إلا بانكسار. المعركة الآن ليست على الأرض فقط، بل على الوعي والرواية والنتائج. وكل يوم تقاتل فيه غزة، تسقط وهم الاحتلال بأن القوة وحدها تصنع النصر.
بقلم: إبراهيم المدهون
في اللحظة التي تتكثف فيها العمليات العسكرية الإسرائيلية على مدينة غزة وشمالها، يظهر بوضوح أن الاحتلال يخوض سباقًا محمومًا مع الزمن. لم يعد الأمر متعلقًا بخطة منظمة أو مراحلية، بل بمحاولة يائسة لاستثمار ما تبقى من الوقت قبل أن يفرض عليه وقف الحرب. التصعيد الأخير لا يعكس قوة إسرائيلية بقدر ما يكشف عن قلق استراتيجي عميق. فكل يوم إضافي يسمح به المناخ الدولي، تحاول إسرائيل أن تملأه بالنار والدمار، على أمل تحقيق أي إنجاز يسوق داخليًا على أنه "نصر"، في حين أن جوهر الواقع يقول إن هذه الحرب الطويلة أوشكت على الوصول إلى لحظة اعتراف صريح بالفشل.
في مطلع مايو أيار الماضي، أعلن المجلس الوزاري الأمني المصغر الكابينت عن إطلاق خطة عسكرية جديدة أطلق عليها اسم "عربات جدعون"، وهي في جوهرها عملية عسكرية تهدف إلى كسر صمود المقاومة، واستنزاف قدراتها، ومحاولة الضغط عليها سياسيًا وأمنيًا للوصول إلى اتفاق تبادل أسرى بشروط الاحتلال. العملية كانت تستند إلى ثلاث مراحل وعدة أدوات ضغط متزامنة، منها تشديد الحصار، توسيع التدمير، تكثيف القصف، واستخدام الورقة الإنسانية. لكن بعد مرور أكثر من ستة أسابيع، لم تحقق هذه العملية شيئًا يُذكر من أهدافها المعلنة.
بدلًا من أن تقلب موازين المعركة، تكشف "عربات جدعون" أن الاحتلال لا يمتلك إلا التكرار. يعيد الدخول من نفس المحاور، ويجهد قواته في نفس النقاط، ويتلقى الخسائر تلو الأخرى، دون أن يستطيع كسر البنية الصلبة للمقاومة أو الوصول إلى قياداتها العسكرية الفاعلة. وهذا ما يجعلنا نقرأ تكثيف العمليات في هذه الأيام تحديدًا، ليس بوصفه مرحلة جديدة من الخطة، بل محاولة لإخراج المشهد الختامي بشكل لا يبدو فيه الاحتلال مهزومًا تمامًا.
هذا التصعيد الإسرائيلي يأتي أيضًا في ظل تزايد المؤشرات على تآكل الغطاء الدولي للحرب. فقد خرج الرئيس الأميركي دونالد ترامب، الحليف الأبرز لإسرائيل، بتصريح مباشر يقول فيه: "على إسرائيل أن تنهى الحرب، لقد قتلت ما يكفي". وهذا التصريح ليس عابرًا، فهو يعكس بداية تشكل رأي عام دولي أكثر حرجًا من استمرار العدوان، ويرسل إشارات واضحة للقيادة الإسرائيلية بأن هامش المناورة يضيق، وأن مرحلة ما بعد الحرب باتت قريبة، وأنهم لا يمكنهم البقاء في هذا المستنقع بلا أفق.
الاحتلال يعرف أن ما تبقى من الوقت ليس كثيرًا، ولهذا يحاول استخدام كل ما لديه من أوراق دفعة واحدة، دون انتظار. تكثيف العمليات في غزة، واستدعاء عشرات آلاف جنود الاحتياط، وتوسيع رقعة الدمار في قلب المدينة، كلها تعكس هذا الارتباك، وهذه الحاجة العاجلة إلى خلق صورة "نصر موهوم" قبل أن تغلق الأبواب أمامه. لكن الواقع يقول إن المقاومة لا تزال تقف، لا بل تتطور وتباغت وتؤلم. العمليات النوعية الأخيرة، من تدمير آليات متقدمة، إلى استهداف نقاط التجمعات، تثبت أن المقاومة لم تستنزف، وأنها ما زالت تمسك بأعصاب المعركة.
في المقابل، يتواصل المشهد الإنساني بالغ الخطورة في الجنوب، مع دعوات إسرائيلية جديدة للإخلاء باتجاه المواصي على الساحل، وهي منطقة شديدة الازدحام، خالية من مقومات الحياة. هذا الضغط البشري المكثف ليس مجرد ضرورة ميدانية، بل تكتيك محسوب يمكن أن يُستثمر لاحقًا في سياق مشروع تهجيري صامت. فإسرائيل لم تتخلَّ بعد عن فكرة التهجير القسري، وإن لم تعلنها صراحة الآن، وهي تنتظر اللحظة المناسبة لتطرحها كحل مفروض "لأزمة إنسانية" افتعلتها بنفسها.
كل ما سبق يؤكد أننا أمام أيام شديدة الخطورة. الاحتلال يحاول أن يحسم شيئًا ما قبل أن تفرض عليه نهاية الحرب من الخارج أو من الداخل. إذا فشلت محاولته الأخيرة في القضاء على البنية العسكرية للمقاومة، وإذا تواصلت عمليات المقاومة النوعية، وازداد الضغط الدولي كما تشير التطورات فإن الاحتلال سيتجه نحو قبول صفقة تبادل بشروط متوازنة، أو الدخول في مرحلة سياسية جديدة قد تكون أشد مرارة من الهزيمة العسكرية.
المقاومة اليوم لا تدافع فقط، بل تعيد كتابة شروط المواجهة. صامدة رغم الجوع، قوية رغم الخراب، ومصممة على ألا تمنح الاحتلال نهاية مريحة لحرب بدأها بوحشية، ولن ينهيها إلا بانكسار. المعركة الآن ليست على الأرض فقط، بل على الوعي والرواية والنتائج. وكل يوم تقاتل فيه غزة، تسقط وهم الاحتلال بأن القوة وحدها تصنع النصر.