مصطفى أبو الكاس… الممرض الذي بتر قدم جاره بيديه لينقذه من تحت الأنقاض
الرسالة نت- خاص
بالأمس، قصف الاحتلال مجمعًا سكنيًا في حي الشجاعية، مخلفًا كارثة إنسانية عجزت الأقلام عن وصفها، ومشهدًا تجاوز كل حدود الألم. ومع نهاية النهار، كانت وزارة الصحة قد أعلنت ارتقاء خمسين شهيدًا، معظمهم من الأطفال، في مجزرة جديدة تُضاف إلى سجل المجازر اليومية التي يرتكبها الاحتلال على مرأى ومسمع من عالم لم يحرّك ساكنًا منذ عام ونصف.
ومن بين ركام هذه المجزرة، خرجت حكاية أخرى من الوجع، خطّها الممرّض مصطفى أبو الكاس، ابن حي الشجاعية، والعامل في مستشفى الشفاء. كان مصطفى في مناوبته حين وصله خبر استهداف المنطقة التي يسكن فيها، فترك كل شيء وركض نحو موقع القصف، مرتجفًا من هول ما يرى.
تحدث مصطفى إلى موقع "الرسالة نت"، وروى تفاصيل التجربة الأقسى في حياته. قال إنه كان يركض مع طواقم الدفاع المدني ووزارة الصحة بين الركام، يحاولون انتشال الأجساد التي مزّقها القصف تحت العمارات المنهارة، وسط ضعف الإمكانيات، وعجز الطواقم عن الوصول إلى كثير من الجرحى المحاصرين تحت الردم.
الممرّض مصطفى أبو الكاس، لم يكن في تلك اللحظة ممرّضًا، بل كان ابن الشجاعية، ابن الحي الذي نُسف عن آخره، والركض هو كل ما استطاع فعله حين سمع بالاستهداف.
كان مصطفى قد أنهى مناوبته في مستشفى الشفاء، وكان في طريقه لتفقّد منزله المهجور منذ نزوح عائلته عنه. في الأثناء، كان يتحدث على الهاتف مع صديقه، حين دوّى الانفجار.
سقط الهاتف من يده، وسقط قلبه معه. "الشجاعية"، قالها في داخله، ثم ركض كما لم يركض في حياته، خوفًا على أهله، على والده، على أعمامه وأقاربه، الذين كان يعلم أنهم ما زالوا في الحي. وحين وصل، لم يرَ حيًّا… بل ركامًا، دخانًا، صراخًا، ووجوهًا شاحبة تبحث عن أبنائها تحت الأنقاض.
البيت الذي أصابه القصف لم يكن بيته، بل منزل جاره وصديقه شريف أبو عمشة، لكن بداخله كان أكثر من 80 شخصًا: من عائلة شريف، من أقاربه، من جيرانه… من أبناء الحي.
ووسط ما يشبه القيامة، رأى مصطفى مشهدًا لن ينساه ما دام حيًا: "طفلان صغيران، أبناء شريف، طُيّرا من قوة الانفجار إلى سطح منزل آخر، كانا واقفين، مغطيين بالغبار، لم يُصابا بأي جرح واضح، لكن الصدمة سكنت عيونهما؛ جامدين، لا يتكلمان، لا يتحركان، فقط يحدّقان في العدم، وكأنهما شاهدا نهاية العالم".
وبينما كانت طواقم الدفاع المدني تحفر بين الأنقاض بأدوات بدائية، بدأ الناس ينادون مصطفى: "مصطفى! تعال! مؤمن لسا حي!" مؤمن، شقيق شريف، كان ما يزال يتنفس، لكنه عالق تحت بلاطة خرسانية، ينزف من رأسه وقدمه… والنزيف لا ينتظر.
هنا، وُضع مصطفى أمام القرار الأصعب في حياته. جاءه صوت أحد الرجال الواقفين إلى جانبه: "إما أن تُبتر قدم مؤمن الآن، بأي وسيلة، أو سيموت."
لم يكن هناك وقت. لم تكن هناك غرفة عمليات. لم تكن هناك أدوات طبية. كل ما توفر: شفرة حلاقة صغيرة، ومطوى من جيب أحد الشبان.
"أنا ممرّض، مش جرّاح، بس لقيت حالي لازم أقرّر، لازم أتصرف"، هكذا قال مصطفى.
وبدأ بيديه المرتجفتين ببتر قدم مؤمن، وهو شبه واعٍ، يشدّ على رقبة مصطفى، يئنّ بصوت خافت، لا يصرخ، فقط يتألّم بصمت، كأنه لا يريد أن يُزعج أحدًا بوجعه.
بدأ مصطفى يشقّ الجلد واللحم، يقاوم النزيف، يقاوم الصدمة، يقاوم نفسه: "كل مرة كنت أقطع في اللحم، كأن قلبي بينزف، كل قطرة دم كانت مني أنا، مش بس من مؤمن…" قال مصطفى، وعيناه تلمعان بدمعة ما زالت عالقة في زوايا الروح.
وجاءت اللحظة الأصعب، لحظة كسر العظم، يصفها مصطفى: "كأنها سكينة دخلت في قلبي، سمعت صوت العظمة وهي تتكسر، بس قلبي هو اللي انكسر، مش رجله."
أنهى مصطفى ما لا يتخيله عقل. حمل مؤمن وهو ينزف، وما زال حيًا، وركض به نحو سيارة الإسعاف. لكنه ترك خلفه جزءًا من روحه هناك، في زقاق الشجاعية، في عين مؤمن، في يده التي شدّت عليه، في صوته الذي لا يفارقه.
"من وقتها، وأنا نايم جسدي، صاحي عقلي، وجه مؤمن قدامي، صوته، أنينه، إيده، قلبه، قلبي. أنا قطعت رجله، بس وجعي أنا ما في حدا يقطعه عني"، هكذا ختم مصطفى شهادته، وفي صوته وجع وطن كامل، بلا قدم.
الرسالة نت- خاص
بالأمس، قصف الاحتلال مجمعًا سكنيًا في حي الشجاعية، مخلفًا كارثة إنسانية عجزت الأقلام عن وصفها، ومشهدًا تجاوز كل حدود الألم. ومع نهاية النهار، كانت وزارة الصحة قد أعلنت ارتقاء خمسين شهيدًا، معظمهم من الأطفال، في مجزرة جديدة تُضاف إلى سجل المجازر اليومية التي يرتكبها الاحتلال على مرأى ومسمع من عالم لم يحرّك ساكنًا منذ عام ونصف.
ومن بين ركام هذه المجزرة، خرجت حكاية أخرى من الوجع، خطّها الممرّض مصطفى أبو الكاس، ابن حي الشجاعية، والعامل في مستشفى الشفاء. كان مصطفى في مناوبته حين وصله خبر استهداف المنطقة التي يسكن فيها، فترك كل شيء وركض نحو موقع القصف، مرتجفًا من هول ما يرى.
تحدث مصطفى إلى موقع "الرسالة نت"، وروى تفاصيل التجربة الأقسى في حياته. قال إنه كان يركض مع طواقم الدفاع المدني ووزارة الصحة بين الركام، يحاولون انتشال الأجساد التي مزّقها القصف تحت العمارات المنهارة، وسط ضعف الإمكانيات، وعجز الطواقم عن الوصول إلى كثير من الجرحى المحاصرين تحت الردم.
الممرّض مصطفى أبو الكاس، لم يكن في تلك اللحظة ممرّضًا، بل كان ابن الشجاعية، ابن الحي الذي نُسف عن آخره، والركض هو كل ما استطاع فعله حين سمع بالاستهداف.
كان مصطفى قد أنهى مناوبته في مستشفى الشفاء، وكان في طريقه لتفقّد منزله المهجور منذ نزوح عائلته عنه. في الأثناء، كان يتحدث على الهاتف مع صديقه، حين دوّى الانفجار.
سقط الهاتف من يده، وسقط قلبه معه. "الشجاعية"، قالها في داخله، ثم ركض كما لم يركض في حياته، خوفًا على أهله، على والده، على أعمامه وأقاربه، الذين كان يعلم أنهم ما زالوا في الحي. وحين وصل، لم يرَ حيًّا… بل ركامًا، دخانًا، صراخًا، ووجوهًا شاحبة تبحث عن أبنائها تحت الأنقاض.
البيت الذي أصابه القصف لم يكن بيته، بل منزل جاره وصديقه شريف أبو عمشة، لكن بداخله كان أكثر من 80 شخصًا: من عائلة شريف، من أقاربه، من جيرانه… من أبناء الحي.
ووسط ما يشبه القيامة، رأى مصطفى مشهدًا لن ينساه ما دام حيًا: "طفلان صغيران، أبناء شريف، طُيّرا من قوة الانفجار إلى سطح منزل آخر، كانا واقفين، مغطيين بالغبار، لم يُصابا بأي جرح واضح، لكن الصدمة سكنت عيونهما؛ جامدين، لا يتكلمان، لا يتحركان، فقط يحدّقان في العدم، وكأنهما شاهدا نهاية العالم".
وبينما كانت طواقم الدفاع المدني تحفر بين الأنقاض بأدوات بدائية، بدأ الناس ينادون مصطفى: "مصطفى! تعال! مؤمن لسا حي!" مؤمن، شقيق شريف، كان ما يزال يتنفس، لكنه عالق تحت بلاطة خرسانية، ينزف من رأسه وقدمه… والنزيف لا ينتظر.
هنا، وُضع مصطفى أمام القرار الأصعب في حياته. جاءه صوت أحد الرجال الواقفين إلى جانبه: "إما أن تُبتر قدم مؤمن الآن، بأي وسيلة، أو سيموت."
لم يكن هناك وقت. لم تكن هناك غرفة عمليات. لم تكن هناك أدوات طبية. كل ما توفر: شفرة حلاقة صغيرة، ومطوى من جيب أحد الشبان.
"أنا ممرّض، مش جرّاح، بس لقيت حالي لازم أقرّر، لازم أتصرف"، هكذا قال مصطفى.
وبدأ بيديه المرتجفتين ببتر قدم مؤمن، وهو شبه واعٍ، يشدّ على رقبة مصطفى، يئنّ بصوت خافت، لا يصرخ، فقط يتألّم بصمت، كأنه لا يريد أن يُزعج أحدًا بوجعه.
بدأ مصطفى يشقّ الجلد واللحم، يقاوم النزيف، يقاوم الصدمة، يقاوم نفسه: "كل مرة كنت أقطع في اللحم، كأن قلبي بينزف، كل قطرة دم كانت مني أنا، مش بس من مؤمن…" قال مصطفى، وعيناه تلمعان بدمعة ما زالت عالقة في زوايا الروح.
وجاءت اللحظة الأصعب، لحظة كسر العظم، يصفها مصطفى: "كأنها سكينة دخلت في قلبي، سمعت صوت العظمة وهي تتكسر، بس قلبي هو اللي انكسر، مش رجله."
أنهى مصطفى ما لا يتخيله عقل. حمل مؤمن وهو ينزف، وما زال حيًا، وركض به نحو سيارة الإسعاف. لكنه ترك خلفه جزءًا من روحه هناك، في زقاق الشجاعية، في عين مؤمن، في يده التي شدّت عليه، في صوته الذي لا يفارقه.
"من وقتها، وأنا نايم جسدي، صاحي عقلي، وجه مؤمن قدامي، صوته، أنينه، إيده، قلبه، قلبي. أنا قطعت رجله، بس وجعي أنا ما في حدا يقطعه عني"، هكذا ختم مصطفى شهادته، وفي صوته وجع وطن كامل، بلا قدم.