مجزرة النسيان

  • الجمعة 12, أبريل 2024 08:53 ص
  • مجزرة النسيان
بعد انتهاء المذبحة، وإنجاز الإبادة، يأتي الوقت لإخفاء الجريمة، وغسل الأيدي من الدم، وإخفاء وجوه القتلة بأطنان من مساحيق التجميل.
مجزرة النسيان
د. عماد عبد اللطيف
بعد انتهاء المذبحة، وإنجاز الإبادة، يأتي الوقت لإخفاء الجريمة، وغسل الأيدي من الدم، وإخفاء وجوه القتلة بأطنان من مساحيق التجميل.
هذه هي السياسة التي اتّبعها الغرب على مدار القرون الماضية في التعامل مع مذابحه المستمرّة في أرجاء العالم، منذ تفوَّق في صناعة أدوات القتل الجماعي.
لقد قتل الاستعمار الغربي مئات الملايين من البشر الأبرياء العزل في شتّى أرجاء العالم، أباد فيها شعوبًا كاملة في الأميركتَين وآسيا وأفريقيا. ومع ذلك تمكَّن من أن يروّج كذبة أنه حامل لواء الإنسانية والإخاء والعدل والمساواة.
احتل بالحديد والدم معظم دول العالم، ورسّخ صورة أنه المدافع الأكبر عن الحرية والتحرير. مارس استبدادًا متوحشًا، ودعم المستبدين الفاسدين في أنحاء العالم، ثم احتكر الحديث باسم الديمقراطية وحقوق الأقليات والمستضعفين.
على مدار قرن من الزمان، سارت إسرائيل على خطى الغرب الدموي، فارتكبت المذابح المروّعة، ثم شوّهت الحقائق لتبدو في صورة حمل وديع محاط بذئاب متوحّشين. احتلت أرض شعب كامل بعد قتله، وتشتيته، ثم روّجت الكذبة السخيفة بأن اليهود شعب بلا أرض يعمِّرون أرضًا بلا شعب.
وخلال الأشهر الست الماضية ارتكبتْ واحدة من أفظع الجرائم ضد الإنسانية، والإبادات الجماعية، ويقينًا ستسعى إلى تجميل وجهها، وتشويه إدراك العالم للمذبحة، وفرض النسيان عليها. وسوف يعاونها في ذلك أساتذة تلاعب بارعون، ومتخصصون في تزييف الوعي، بمشاركة جيش الصحف والقنوات العالمية التي يملكونها، وكتيبة هوليود التي يسيطرون عليها، وكتائب شخصيات عامة سياسية وأدبية وفنية ترتبط مصالحهم بها.
يتطلب الوعي بمخاطر تجميل المذابح، والحيلولة دون الإفلات من عقابها، ونسيانها عملًا منظمًا على جبهات عدة. فالحرب على الذاكرة لا تقل خطورة عن الحرب على الأرض. ولأجل الحفاظ على الحقيقة، والحيلولة دون إغراق الجرائم في مستنقع النسيان، يجب القيام بإجراءات أساسية هي:
أولا: توثيق المجازر وأرشفتها
وفق إحصاءات المكتب الحكومي في غزة، ارتكبت إسرائيل في غضون ستة أشهر من “طوفان الأقصى” 2933 مذبحة، قتلت فيها 39975، وخلفت 75577 مصابًا. 73% من ضحايا المجازر الإسرائيلية، هم أطفال ونساء؛ فإسرائيل تقتل 4 أطفال كل ساعة منذ بدء الإبادة.
يُملي الضمير الإنساني على كل حر في هذا العالم أن يُساهم في توثيق هذه المجازر، وأرشفتها، وإتاحة سجلاتها بكل لغات العالم.
من الضروري رواية قصة كل فلسطيني قتله الاحتلال في هذه الإبادة الجماعية. يتعين جمع كل الصور والتسجيلات المرئية والمسموعة التي تصف وقائع المجازر بدقة، وأرشفة هذه الوثائق، وحفظها من الضياع. كما يجب جمع سرديات المجازر الشفوية، وتسجيلها، وإتاحتها.
ويمكن تأسيس فرق عمل تجري مقابلات مع الناجين من المجازر، أو شهود العيان عليها، ونشر قصصهم، وترجمتها. ويجب ألا يتوقف توثيق المجازر عند حصر الضحايا، وحكي قصصهم، بل يجب أن يشتمل كذلك على توثيق الجرائم نفسها، بوصف أحداثها، وأفعالها، وآثارها، ومرتكبيها.
من المهم معرفة أسماء كل من سفكوا الدماء، وأعطوا الأوامر، وقدموا الدعم العسكري والمعلوماتي. قد نظن أنه من غير الممكن محاسبة المجرمين، وتحقيق العدالة، لكن الزمن متقلب، وما يبدو اليوم مستحيلًا، قد يكون في المستقبل القريب ممكنًا بشكل لا يمكن تصوره.
ويجب أن يعلم كل من شارك في الإبادة أن يد العدالة ستطاله، ولو بعد حين، فالجرائم ضد الإنسانية لا تتقادم، ولا تسقط بمرّ السنين. ومن الضروري أن تتاح هذه الأرشيفات بشكل إلكتروني، بكل اللغات الحية، وأن يُحفَّز الأفراد العاديون على المساهمة بما لديهم من وثائق مرئية أو مصورة في بنائها. ويجب أن تتضافر جهود الأفراد والمؤسسات الدولية في إنجاز هذا العمل، لا سيما جامعة الدول العربية، ومنظمات حقوق الإنسان، ومنظمة العفو الدولية، ومراكز بحوث الإبادة، وأقسام العلوم السياسية والاجتماعية في الجامعات العربية، وغيرها.
ثانيًا: دراسة أساليب تزييف الوعي بالمجازر
منذ بدء إبادة غزة، مارست وسائل الإعلام والسياسيون الغربيون حملة تضليل شاملة، يندى لها جبين الإنسانية. فقد وضعت صحف، مثل: “نيويورك تايمز”، و”واشنطن بوست”، وقنوات مثل: “بي بي سي”، و”سي إن إن”، معايير النزاهة والموضوعية تحت أقدامها، لأجل إخفاء الإبادة. واستعملت في سبيل تحقيق ذلك عتادًا ضخمًا من أساليب التلاعب والتزييف والتضليل.
ومن الضروري تعرية الأساليب القذرة التي يستعملها الاحتلال وأعوانه؛ لإخفاء الإبادة، والتقليل من أثرها، وفرض الصمت عليها، وتشويه إدراكها. ويقع على عاتق الباحثين في العالم بأسره مسؤولية الكشف عن هذه الأساليب وفضحها، ومقاومتها. ولتحقيق ذلك من الضروري إجراء دراسات شاملة حول هذه المذابح، وحول الخطابات التي صاحبتها، وأعقبتها. وفضح كل من حرضوا عليها، أو زيفوا الوقائع بشأنها.
ثالثًا: إبقاء ذاكرة الإبادة حية ومقاومة النسيان
حين تظل المجازر حيَّة في الذاكرة يبقى الأمل في أن تتحقق العدالة يومًا ما، فلا تضيع الأرواح البريئة سُدى وهباء. أما المجازر التي تتلاشى من الذاكرة بفعل إستراتيجيات التلاعب والتزييف، فإنها تضيف مجزرة جديدة للمجزرة الأولى هي مجزرة النسيان. وليس هناك أبشع من ارتكاب المجازر إلا نسيانها، وغسل أيدي مرتكبيها، وتبييض وجوههم بعدها.
وللحفاظ على ذاكرة إبادة غزة حيَّة، يجب استمرار التعريف بها، واستعمال طرق متنوّعة لحفظها. يجب، من الآن، العمل على تخليد الإبادة، عن طريق الأفلام التسجيلية، ومعارض الصور الفوتوغرافية، ورسوم الحوائط، وملصقات الشوارع، واللافتات، والأغاني، والكتب، والأفلام السينمائية، ومقاطع الفيديو المصورة، والأعمال الأدبية المكتوبة والمصورة، وعروض صالات المتاحف، والرقص التعبيري، والموسيقى، والمسرحيات، والحكايات الشفهية، والألعاب الإلكترونية، والكتابة على الملابس، وغيرها.
يجب إدراج الإبادة ضمن مقررات التدريس في العالم العربي، وفي أرجاء العالم، بوصفها واحدة من أشنع جرائم الإبادة في القرن الحالي.
لقد عانى معظم الأحرار في العالم من شعور فادح بقلة الحيلة، وهم يشاهدون وقائع الإبادة بعيونهم دون أن يملكوا القدرة على إيقافها. لكن باستطاعة كل إنسان في هذا العالم أن يخوض معركة الحفاظ على الإبادة من النسيان، وهذا أقلّ ما يمكن أن نفعله كي نستطيع النظر في وجوهنا أمام المرآة.